الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ} (1)

قوله : { سَأَلَ } : قرأ نافع وابنُ عامر بألفٍ مَحْضَةٍ . والباقون بهمزةٍ مُحَقَّقةٍ ، وهي الأصلُ ، وهي اللغةُ الفاشيةُ . ثم لك في " سأل " وجهان أحدُهما : أنْ يكونَ قد ضُمِّنَ معنى دعا ؛ فلذلك تعدَّى بالباء ، كما تقول : دعوت بكذا . والمعنى : دعا داعٍ بعذابٍ . والثاني : أَنْ يكونَ على أصلِه . والباءُ بمعنى عن ، كقوله :

فإن تَسْألوني بالنساء . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

" فأسْأل بن خبيرا " ، وقد تقدَّم تحقيقُه . والأولُ أَوْلَى ؛ لأن التجوُّزَ في الفعل أَوْلَى منه في الحرف لقوتِه .

وأمَّا القراءةُ بالألفِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها بمعنى قراءةِ الهمزة ، وإنما خُفِّفَتْ بقَلْبِها ألفاً ، وليس بقياسِ تخفيفِ مثِلها ، بل قياسُ تخفيفِها جَعْلُها بينَ بينَ . والباءُ على هذا الوجهِ كما في الوجهِ الذي تقدَّم . الثاني : أنها مِنْ سال يَسال مثلُ خاف يَخاف . وعينُ الكلمةِ واوٌ . قال الزمخشري : " وهي لغةُ قريش يقولون : سِلْتَ تَسالُ ، وهما يتسايلان " . قال الشيخ : " وينبغي أَنْ يُتَثَبَّتَ في قوله : " إنها لغةُ قريشٍ ، لأنَّ ما جاء في القرآنِ من باب السؤالِ هو مهموزٌ ، أو أصلُه الهمزُ ، كقراءةِ مَنْ قرأ " وسَلُوا اللهُ مِنْ فضلِه " [ النساء : 32 ] إذ لا جائزٌ أَنْ يكونَ مِنْ " سال " التي عينُها واوٌ ، إذ كان يكون ذلك " وسَالوا اللهَ " مثلَ " خافوا " ، فيَبْعُدُ أن يجيءَ ذلك كلُّه على لغةِ غيرِ قريشٍ ، وهم الذين نَزَل القرآنُ بلغتِهم إلاَّ يسيراً ، فيه لغةُ غيرِهم . ثم في كلامِ الزمخشريِّ " وهما يتسايَلان " بالياء ، وهو وهمٌ من النسَّاخ ، إنما الصوابُ : يتساوَلان بالواو ، لأنه صَرَّحَ أولاً أنه من السُوال يعني بالواو الصريحةِ ، وقد حكى أبو زيدٍ عن العربِ : " هما يتساولان " . الثالث : أنَّها مِنْ السَّيَلان . والمعنى : سالَ وادٍ في جهنم بعذابٍ ، فالعينُ ياءٌ ، ويؤيِّدُه قراءةُ ابن عباس " سالَ سَيْلٌ " . قال الزمخشريُّ : " والسَّيْلُ مصدرٌ في معنى السائلِ كالغَوْر بمعنى الغائر . والمعنى : اندفع عليهم وادي عذابٍ " انتهى . والظاهرُ الوجهُ الأولُ لثبوتِ ذلك لغةً مشهورةً قال :

سالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ اللهِ فاحشةً *** ضَلَّتْ هُذَيلٌ بما سالَتْ ولم تُصِبِ

وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله " سال سالٌ " مثلَ " مال " وتخريجُها : أنَّ الأصلَ " سائلٌ " فحُذِفَتْ عينُ الكلمةِ وهي الهمزةُ ، واللامُ محلُّ الإِعرابِ وهذا كما قيل : " هذا شاكٌ " في شائِكِ السِّلاح وقد تقدَّم الكلامُ على مادةِ السؤالِ في أول البقرة ، / فعليك باعتبارِه .

والباءُ تتعلَّق ب " سال " من السَّيَلان تعلُّقَها ب " سال الماءُ بزيدٍ " . وجَعَلَ بعضُهم الباءَ متعلقةً بمصدرٍ دَلَّ عليه فِعْلُ السؤال ، كأنه قيل : ما سؤالُهم ؟ فقيل : سؤالُهم بعذابٍ ، كذا حكاهُ الشيخ عن الإِمام فخر الدين ، ولم يَعْتَرِضْه . وهذا عَجَبٌ ؛ فإنَّ قولَه أولاً " إنه متعلِّقٌ بمصدرٍ دَلَّ عليه فِعْلُ السؤال " يُنافي تقديرَه بقولِه : " سؤالُهم بعذاب " ؛ لأنَّ الباءَ في هذا التركيبِ المقدَّرِ تتعلَّق بمحذوفٍ لأنها خبرُ المبتدأ ، لا بالسؤال .

وقال الزمخشري : " وعن قتادةَ : سأل سائلٌ عن عذابِ الله بمَنْ يَنْزِلُ وعلى مَنْ يقعُ ؟ فَنَزَلَتْ ، و " سأَل " على هذا الوجهِ مُضَمَّنٌ معنى عُنِيَ واهتمَّ " .