سورة المعارج مكية وآياتها أربع وأربعون
هذه السورة حلقة من حلقات العلاج البطيء ، المديد ، العميق ، الدقيق ، لعقابيل الجاهلية في النفس البشرية كما واجهها القرآن في مكة ؛ وكما يمكن أن يواجهها في أية جاهلية أخرى مع اختلافات في السطوح لا في الأعماق ! وفي الظواهر لا في الحقائق !
أو هي جولة من جولات المعركة الطويلة الشاقة التي خاضها في داخل هذه النفس ، وفي خلال دروبها ومنحنياتها ، ورواسبها وركامها . وهي أضخم وأطول من المعارك الحربية التي خاضها المسلمون - فيما بعد - كما أن هذه الرواسب وتلك العقابيل هي أكبر وأصعب من القوى التي كانت مرصودة ضد الدعوة الإسلامية والتي ما تزال مرصودة لها في الجاهليات القديمة والحديثة !
والحقيقة الأساسية التي تعالج السورة إقرارها هي حقيقة الآخرة وما فيها من جزاء ؛ وعلى وجه الخصوص ما فيها من عذاب للكافرين ، كما أوعدهم القرآن الكريم . وهي تلم - في طريقها إلى إقرار هذه الحقيقة - بحقيقة النفس البشرية في الضراء والسراء . وهي حقيقة تختلف حين تكون مؤمنة وحين تكون خاوية من الإيمان . كما تلم بسمات النفس المؤمنة ومنهجها في الشعور والسلوك ، واستحقاقها للتكريم . وبهوان الذين كفروا على الله وما أعده لهم من مذلة ومهانة تليق بالمستكبرين . . وتقرر السورة كذلك اختلاف القيم والمقاييس في تقدير الله وتقدير البشر ، واختلاف الموازين . . .
وتؤلف بهذه الحقائق حلقة من حلقات العلاج الطويل لعقابيل الجاهلية وتصوراتها ، أو جولة من جولات المعركة الشاقة في دروب النفس البشرية ومنحنياتها . تلك المعركة التي خاضها القرآن فانتصر فيها في النهاية مجردا من كل قوة غير قوته الذاتية . فقد كان انتصار القرآن الحقيقي في داخل النفس البشرية - ابتداء - قبل أن يكون له سيف يدفع الفتنة عن المؤمنين به فضلا على أن يرغم به أعداءه على الاستسلام له !
والذي يقرأ هذا القرآن - وهو مستحضر في ذهنه لأحداث السيرة - يشعر بالقوة الغالبة والسلطان البالغ الذي كان هذا القرآن يواجه به النفوس في مكة ويروضها حتى تسلس قيادها راغبة مختارة . ويرى أنه كان يواجه النفوس بأساليب متنوعة تنوعا عجيبا . . تارة يواجهها بما يشبه الطوفان الغامر من الدلائل الموحية والمؤثرات الجارفة ! وتارة يواجهها بما يشبه الهراسة الساحقة التي لا يثبت لها شيء مما هو راسخ في كيانها من التصورات والرواسب ! وتارة يواجهها بما يشبه السياط اللاذعة تلهب الحس فلا يطيق وقعها ولا يصبر على لذعها ! وتارة يواجهها بما يشبه المناجاة الحبيبة ، والمسارة الودود ، التي تهفو لها المشاعر وتأنس لها القلوب ! وتارة يواجهها بالهول المرعب ، والصرخة المفزعة ، التي تفتح الأعين على الخطر الداهم القريب ! وتارة يواجهها بالحقيقة في بساطة ونصاعة لا تدع مجالا للتلفت عنها ولا الجدال فيها . وتارة يواجهها بالرجاء الصبوح والأمل الندي الذي يهتف لها ويناجيها . وتارة يتخلل مساربها ودروبها ومنحنياتها فيلقي عليها الأضواء التي تكشفها لذاتها فترى ما يجري في داخلها رأي العين ، وتخجل من بعضه ، وتكره بعضه ، وتتيقظ لحركاتها وانفعالاتها التي كانت غافلة عنها ! . . ومئات من اللمسات ، ومئات من اللفتات ، ومئات من الهتافات ، ومئات من المؤثرات . . يطلع عليها قارئ القرآن ، وهو يتبع تلك المعركة الطويلة ، وذلك العلاج البطيء . ويرى كيف انتصر القرآن على الجاهلية في تلك النفوس العصية العنيدة .
وهذه السورة تكشف عن جانب من هذه المحاولة في إقرار حقيقة الآخرة ، والحقائق الأخرى التي ألمت بها في الطريق إليها .
وحقيقة الآخرة هي ذاتها التي تصدت لها سورة الحاقة ، ولكن هذه السورة تعالجها بطريقة أخرى ، وتعرض لها من زاوية جديدة ، وصور وظلال جديدة . .
في سورة الحاقة كان الاتجاه إلى تصوير الهول والرعب في هذا اليوم ، ممثلين في حركات عنيفة في مشاهد الكون الهائلة : ( فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ، وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة . فيومئذ وقعت الواقعة ، وانشقت السماء فهي يومئذ واهية ) . . وفي الجلال المهيب في ذلك المشهد المرهوب : ( والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) . . وفي التكشف الذي ترتج له وتستهوله المشاعر : ( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) . .
كذلك كان الهول والرعب يتمثلان في مشاهد العذاب ، حتى في النطق بالحكم بهذا العذاب : ( خذوه . فغلوه . ثم الجحيم صلوه . ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ) . . كما يتجلى في صراخ المعذبين وتأوهاتهم وحسراتهم : ( يا ليتني لم أوت كتابيه . ولم أدر ما حسابيه . يا ليتها كانت القاضية . . )
فأما هنا في هذه السورة فالهول يتجلى في ملامح النفوس وسماتها وخوالجها وخطواتها ، أكثر مما يتجلى في مشاهد الكون وحركاته . حتى المشاهد الكونية يكاد الهول يكون فيها نفسيا ! وهو على كل حال ليس أبرز ما في الموقف من أهوال . إنما الهول مستكن في النفس يتجلى مداه في مدى ما يحدثه فيها من خلخلة وذهول وروعة : ( يوم تكون السماء كالمهل ، وتكون الجبال كالعهن . ولا يسأل حميم حميما . يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ، وصاحبته وأخيه ، وفصيلته التي تؤويه ، ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه ) . .
وجهنم هنا " نفس " ذات مشاعر وذات وعي تشارك مشاركة الأحياء في سمة الهول الحي : إنها لظى . نزاعة للشوى . تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى . .
والعذاب ذاته يغلب عليه طابع نفسي أكثر منه حسيا : ( يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ، ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون ) . .
فالمشاهد والصور والظلال لهذا اليوم تختلف في سورة المعارج عنها في سورة الحاقة ، باختلاف طابعي السورتين في عمومه . مع اتحاد الحقيقة الرئيسية التي تعرضها السورتان في هذه المشاهد .
ومن ثم فقد تناولت سورة المعارج - فيما تناولت - تصوير النفس البشرية في الضراء والسراء ، في حالتي الإيمان والخواء من الإيمان . وكان هذا متناسقا مع طابعها " النفسي " الخاص : فجاء في صفة الإنسان ( إن الإنسان خلق هلوعا . إذا مسه الشر جزوعا ، وإذا مسه الخير منوعا . إلا المصلين ، الذين هم على صلاتهم دائمون . . الخ . .
واستطرد السياق فصور هنا صفات النفوس المؤمنة وسماتها الظاهرة والمضمرة تمشيا مع طبيعة السورة وأسلوبها : ( إلا المصلين . الذين هم على صلاتهم دائمون . والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم . والذين يصدقونبيوم الدين . والذين هم من عذاب ربهم مشفقون . إن عذاب ربهم غير مأمون . والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون . والذين هم بشهاداتهم قائمون . والذين هم على صلاتهم يحافظون . . . ) . .
ولقد كان الاتجاه الرئيسي في سورة الحاقة إلى تقرير حقيقة الجد الصارم في شأن العقيدة . ومن ثم كانت حقيقة الآخرة واحدة من حقائق أخرى في السورة ، كحقيقة أخذ المكذبين أخذا صارما في الأرض ؛ وأخذ كل من يبدل في العقيدة بلا تسامح . . فأما الاتجاه الرئيسي في سورة المعارج فهو إلى تقرير حقيقة الآخرة وما فيها من جزاء ، وموازين هذا الجزاء . فحقيقة الآخرة هي الحقيقة الرئيسية فيها .
ومن ثم كانت الحقائق الأخرى في السورة كلها متصلة اتصالا مباشرا بحقيقة الآخرة فيها . من ذلك حديث السورة عن الفارق بين حساب الله في أيامه وحساب البشر ، وتقدير الله لليوم الآخر وتقدير البشر : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فاصبر صبرا جميلا . إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا . . . الخ وهو متعلق باليوم الآخر .
ومنه ذلك الفارق بين النفس البشرية في الضراء والسراء في حالتي الإيمان والخلو من الإيمان . وهما مؤهلان للجزاء في يوم الجزاء .
ومنه غرور الذين كفروا وطمعهم أن يدخلوا كلهم جنات نعيم ، مع هوانهم على الله وعجزهم عن سبقه والتفلت من عقابه . وهو متصل اتصالا وثيقا بمحور السورة الأصيل .
وهكذا تكاد السورة تقتصر على حقيقة الآخرة وهي الحقيقة الكبيرة التي تتصدى لإقرارها في النفوس . مع تنوع اللمسات والحقائق الأخرى المصاحبة ! للموضوع الأصيل .
ظاهرة أخرى في هذا الإيقاع الموسيقي للسورة ، الناشئ من بنائها التعبيري . . فقد كان التنوع الإيقاعي في الحاقة ناشئا من تغير القافية في السياق من فقرة لفقرة . وفق المعنى والجو فيه . . فأما هنا في سورة المعارج فالتنوع أبعد نطاقا ، لأنه يشمل تنوع الجملة الموسيقية كلها لا إيقاع القافية وحدها . والجملة الموسيقية هنا أعمق وأعرض وأشد تركيبا . ويكثر هذا التنوع في شطر السورة الأول بشكل ملحوظ .
ففي هذا المطلع ثلاث جمل موسيقية منوعة - مع اتحاد الإيقاع في نهاياتها - من حيث الطول ومن حيث الإيقاعات الجزئية فيها على النحو التالي :
( سأل سائل بعذاب واقع . للكافرين ليس له دافع . من الله ذي المعارج . تعرج الملائكة والروح إليه . في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة . فاصبر صبرا جميلا ) . . حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الخامس .
( إنهم يرونه بعيدا . ونراه قريبا ) . . حيث يتكرر الإيقاع بمد الألف مرتين .
( يوم تكون السماء كالمهل . وتكون الجبال كالعهن . ولا يسأل حميم حميما ) . . حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الثالث . مع تنوع الإيقاع في الداخل .
( يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه . وصاحبته وأخيه . وفصيلته التي تؤويه . ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه . كلا إنها لظى ) . . حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الخامس كالأول .
( نزاعة للشوى . . تدعو من أدبر وتولى . وجمع فأوعى . إن الإنسان خلق هلوعا . إذا مسه الشر جزوعا . وإذا مسه الخير منوعا ) . . حيث يتكرر إيقاع المد بالألف خمس مرات منهما اثنتان في النهاية تختلفان عن الثلاثة الأولى .
ثم يستقيم الإيقاع في باقي السورة على الميم والنون وقبلهما واو أو ياء . .
والتنويع الإيقاعي في مطلع السورة عميق وشديد التعقيد في الصياغة الموسيقية بشكل يلفت الأذن الموسيقية إلى ما في هذا التنويع المعقد الراقي - موسيقيا - من جمال غريب على البيئة العربية وعلى الإيقاع الموسيقي العربي . ولكن الأسلوب القرآني يطوعه ويمنحه اليسر الذي يدخل به إلى الأذن العربية فتقبل عليه ، وإن كان فنا إبداعيا عميقا جديدا على مألوفها الموسيقي .
سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع ، من الله ذي المعارج ، تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فاصبر صبرا جميلا ، إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ، يوم تكون السماء كالمهل ، وتكون الجبال كالعهن ، ولا يسأل حميم حميما ، يبصرونهم ، يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ، وصاحبته وأخيه ، وفصيلته التي تؤويه ، ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه . كلا ! إنها لظى ، نزاعة للشوى ، تدعو من أدبر وتولى ، وجمع فأوعى . .
كانت حقيقة الآخرة من الحقائق العسيرة الإدراك عند مشركي العرب ؛ ولقد لقيت منهم معارضة نفسية عميقة ، وكانوا يتلقونها بغاية العجب والدهش والاستغراب ؛ وينكرونها أشد الإنكار ، ويتحدون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في صور شتى أن يأتيهم بهذا اليوم الموعود ، أو أن يقول لهم : متى يكون .
وفي رواية عن ابن عباس أن الذي سأل عن العذاب هو النضر بن الحارث . وفي رواية أخرى عنه : قال : ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع بهم .
وعلى أية حال فالسورة تحكي أن هناك سائلا سأل وقوع العذاب واستعجله . وتقرر أن هذا العذاب واقع فعلا ، لأنه كائن في تقدير الله من جهة ، ولأنه قريب الوقوع من جهة أخرى . وأن أحدا لا يمكنه دفعه ولا منعه . فالسؤال عنه واستعجاله - وهو واقع ليس له من دافع - يبدو تعاسة من السائل المستعجل ؛ فردا كان أو مجموعة !
وهذا العذاب للكافرين . . إطلاقا . . فيدخل فيه أولئك السائلون المستعجلون كما يدخل فيه كل كافر . وهو واقع من الله ( ذي المعارج ) . . وهو تعبير عن الرفعة والتعالي ، كما قال في السورة الأخرى : ( رفيع الدرجات ذو العرش ) . .