قوله تعالى : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } .
قرأ نافع وابن{[57843]} عامرٍ : «سَالَ سَائِلٌ » بغير همز .
والباقون : بالهمز ، فمن همز ، فهو من السؤال ، وهي اللغةُ الفاشيةُ .
أحدهما : أن يكون قد ضمن معنى «دعا » فلذلك تعدَّى بالباءِ ، كما تقول : دعوتُ بكذا ، والمعنى : دعا داعٍ بعذابٍ .
والثاني : أن يكون على أصله ، والباء بمعنى «عن » ، كقوله : [ الطويل ]
4856 م - فإنْ تَسْألُونِي بالنِّسَاءِ . . . *** . . .
{ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً }[ الفرقان : 59 ] وقد تقدم تحقيقه .
والأول أولى لأن التجوزَ في الفعل أولى منه في الحرف لقوته .
وأما القراءةُ بالألف ففيها ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنها بمعنى قراءة الهمزة ، وإنما خففت بقلبها ألفاً ، وليس بقياس تخفيف مثلها ، بل قياس تخفيفها ، جعلها بَيْنَ بَيْنَ ، والباء على هذا الوجه كما في الوجه الذي تقدم .
الثاني : أنَّها من «سَالَ يَسالُ » مثل : خَافَ يخافُ ، وعين الكلمة واو .
قال الزمخشريُّ : «وهي لغةُ قريش ، يقولون : سلت تسال ، وهما يتسايلان » .
قال أبو حيَّان{[57844]} : وينبغي أن يتثبت في قوله : «إنها لغةُ قريش » ؛ لأن ما جاء في القرآن من باب السؤال هو مهموز ، أو أصله الهمز ، كقراءة من قرأ { وسَلُوا }[ النساء : 32 ] ، إذ لا يجوز أن يكون من «سَالَ » التي يكون عينها واواً ، إذ كان يكون «وسالوا الله » مثل «خافوا » فيبعد أن يجيء ذلك كلُّه على لغةِ غير قريش ، وهم الذين نزل القرآنُ بلغتهم إلا يسيراً فيه لغة غيرهم ، ثم جاء في كلام الزمخشري : وهما «يتسايلان » بالياء ، وهو وهم من النُّساخ ، إنما الصواب : يتساولان - بالواو - لأنه صرح أولاً أنه من السؤال ، يعني بالواو الصريحة .
وقد حكى أبو زيد عن العرب : إنهما يتساولان .
الثالث : إنها من السَّيلان ، والمعنى : «سال » واد في جهنم ، يقال له : سايل ، وهو قول زيد بن ثابت .
فالعين ياء ، ويؤيده قراءة ابن عباس : «سال سيل » .
قال الزمخشريُّ : «والسَّيل مصدر في معنى السَّائل ، كالغَوْر بمعنى الغَائِر ، والمعنى : اندفع عليهم وادي عذاب » ، انتهى .
والظاهر الوجه الأول لثبوت ذلك لغة مشهورة ، قال : [ البسيط ]
4857 - سَالَتْ هُذيْلٌ رَسُولَ اللَّهِ فَاحشَةً***ضَلَّتْ هُذِيْلٌ بِمَا سَالتْ ولمْ تُصِبِ{[57845]}
وقرأ أبيُّ بن كعب وعبد الله{[57846]} : «سَال سَالٍ » مثل «مَال » .
وتخريجها : أن الأصل : «سائل » فحذفت عينُ الكلمة ، وهي الهمزة ، واللام محل الإعراب ، وهذا كما قيل : هذا شاكٍ في شائك السِّلاح . وقد تقدم الكلام على مادة السؤال أول سورة «البقرة » فليلتفت إليه .
و «الباء » تتعلق ب «سال » من السيلان تعلقها ب «سأل » لِمَا يزيد .
وجعل بعضهم الباءَ متعلقة بمصدر دلَّ عليه فعل السؤالِ ، كأنه قيل : ما سؤالهم ؟ .
فقيل : سؤالهم بعذاب ، كذا حكاه أبو حيَّان عن ابن الخطيب{[57847]} .
ولم يعترضه ، وهذا عجيب ، فإنَّ قوله أولاً : إنه متعلق بمصدر دل عليه فعل السؤال ينافي تقديره بقوله : «سؤالهم بعذاب » ؛ لأن الباء في هذا التركيب المقدَّر تتعلق بمحذوف ؛ لأنها خبر المبتدأ بالسؤال .
وقال الزمخشريُّ : «وعن قتادة سأل سائل عن عذاب الله بمن ينزل وعلى من يقع فنزلت{[57848]} ، و " سأل " على هذا الوجه مضمن معنى عني واهتم ، كأنه قيل : اهتم مهتم بعذاب واقعٍ » .
قال القرطبيُّ{[57849]} : الباء يجوز أن تكون بمعنى «عن » والسؤالُ بمعنى الدعاء ، أي دعا داع بالعذاب ، عن ابن عباس وغيره ، يقال : دعا على فلان بالويلِ ودعا عليه بالعذاب .
ويقال : دعوتُ زيداً ، أي التمستُ إحضاره ، والمعنى التمس ملتمسٌ عذاباً للكافرين ، وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامةِ ، وعلى هذا فالباءُ زائدةٌ كقوله تعالى :{ تَنبُتُ بالدهن }[ المؤمنون : 20 ] ، وقوله تعالى : { وهزي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة }[ مريم : 23 ] ، فهي تأكيد ، أي : سأل سائل عذاباً واقعاً .
«لِلكَافِرينَ » أي : على الكافرين .
قيل : هو النضر بن الحارث حيثُ قال : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[ الأنفال : 32 ] ، فنزل سؤاله ، وقتل يوم «بدر » صبراً هو وعقبة بن أبي معيط ، لم يقتل صبراً غيرهما ، قاله ابن عباس ومجاهد .
وقيل : «إنَّ السائل هنا هو الحارثُ بن النعمان الفهري ، وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه : " مَنْ كُنْتُ مَولاهُ فَعَليٌّ مَوْلاهُ " ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح ، ثم قال : يا محمدُ ، أمرتنا عن الله ، أن نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنَّك رسول الله ، فقبلناه منك ، وأن نصلي خمساً ، ونزكي أموالنا ، فقبلناه منك ، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام ، فقبلناه منك ، وأن نحج ، فقبلناه منك ، ثُمَّ لم ترض بهذا ، حتى فضَّلت ابن عمك علينا ، أفهذا شيءٌ منك أم من الله ؟ .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " واللَّهِ الَّذي لا إِلهَ إلاَّ هُوَ ، ما هُوَ إلاَّ مِنَ اللَّه " فولى الحارث وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقًّا ، فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذابٍ أليم ، فوالله ما وصل إلى ناقته ، حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه ، فخرج من دبره فقتله ، فنزلت { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ }{[57850]} » .
وقال الربيع : السائل هنا أبو جهلٍ وهو القائل ذلك .
وقيل : إنه قول جماعة من كفار قريش ، وقيل : هو نوح - عليه الصلاة والسلام - سأل العذاب على الكافرين .
وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بالعقاب ، وطلب أن يوقعه بالكفار ، وهو واقع بهم لا محالة ، وامتد الكلام إلى قوله تعالى { فاصبر صَبْراً جَمِيلاً }[ المعارج : 5 ] ، أي : لا تستعجل فإنه قريب ، وهذا يدل على أن ذلك السائل هو الذي أمره الله بالصبر الجميلِ .
وقال قتادة : الباءُ بمعنى «عَنْ » ، فكأن سائلاً سأل عن العذاب بمن وقع ، أو متى يقع ، قال الله تعالى : { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } ، أي : فاسأل عنه ، وقال علقمةُ : [ الطويل ]
4858 - فإن تَسْألُونِي بالنِّسَاءِ . . . *** . . . {[57851]}
أي : عن النِّساء ، فالمعنى : سلوني{[57852]} بمن وقع العذاب ، ولمن يكون ، فقال الله تعالى : { لِّلْكَافِرِينَ } وقال أبو عليّ وغيره : وإذا كان من السؤال ، فأصله أن يتعدَّى إلى مفعولين ، ويجوز الاقتصار على أحدهما وإذا اقتصر على أحدهما ، جاز أن يتعدى إليه بحرف الجر ، فيكون التقدير : سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.