اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المعارج

مكية ، وهي أربعة وأربعون آية ، ومائتان وستة عشر كلمة ، وألف وإحدى وستون حرفا .

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } .

قرأ نافع وابن{[57843]} عامرٍ : «سَالَ سَائِلٌ » بغير همز .

والباقون : بالهمز ، فمن همز ، فهو من السؤال ، وهي اللغةُ الفاشيةُ .

ثم لك في «سأل » وجهان :

أحدهما : أن يكون قد ضمن معنى «دعا » فلذلك تعدَّى بالباءِ ، كما تقول : دعوتُ بكذا ، والمعنى : دعا داعٍ بعذابٍ .

والثاني : أن يكون على أصله ، والباء بمعنى «عن » ، كقوله : [ الطويل ]

4856 م - فإنْ تَسْألُونِي بالنِّسَاءِ . . . *** . . .

{ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً }[ الفرقان : 59 ] وقد تقدم تحقيقه .

والأول أولى لأن التجوزَ في الفعل أولى منه في الحرف لقوته .

وأما القراءةُ بالألف ففيها ثلاثةُ أوجهٍ :

أحدها : أنها بمعنى قراءة الهمزة ، وإنما خففت بقلبها ألفاً ، وليس بقياس تخفيف مثلها ، بل قياس تخفيفها ، جعلها بَيْنَ بَيْنَ ، والباء على هذا الوجه كما في الوجه الذي تقدم .

الثاني : أنَّها من «سَالَ يَسالُ » مثل : خَافَ يخافُ ، وعين الكلمة واو .

قال الزمخشريُّ : «وهي لغةُ قريش ، يقولون : سلت تسال ، وهما يتسايلان » .

قال أبو حيَّان{[57844]} : وينبغي أن يتثبت في قوله : «إنها لغةُ قريش » ؛ لأن ما جاء في القرآن من باب السؤال هو مهموز ، أو أصله الهمز ، كقراءة من قرأ { وسَلُوا }[ النساء : 32 ] ، إذ لا يجوز أن يكون من «سَالَ » التي يكون عينها واواً ، إذ كان يكون «وسالوا الله » مثل «خافوا » فيبعد أن يجيء ذلك كلُّه على لغةِ غير قريش ، وهم الذين نزل القرآنُ بلغتهم إلا يسيراً فيه لغة غيرهم ، ثم جاء في كلام الزمخشري : وهما «يتسايلان » بالياء ، وهو وهم من النُّساخ ، إنما الصواب : يتساولان - بالواو - لأنه صرح أولاً أنه من السؤال ، يعني بالواو الصريحة .

وقد حكى أبو زيد عن العرب : إنهما يتساولان .

الثالث : إنها من السَّيلان ، والمعنى : «سال » واد في جهنم ، يقال له : سايل ، وهو قول زيد بن ثابت .

فالعين ياء ، ويؤيده قراءة ابن عباس : «سال سيل » .

قال الزمخشريُّ : «والسَّيل مصدر في معنى السَّائل ، كالغَوْر بمعنى الغَائِر ، والمعنى : اندفع عليهم وادي عذاب » ، انتهى .

والظاهر الوجه الأول لثبوت ذلك لغة مشهورة ، قال : [ البسيط ]

4857 - سَالَتْ هُذيْلٌ رَسُولَ اللَّهِ فَاحشَةً***ضَلَّتْ هُذِيْلٌ بِمَا سَالتْ ولمْ تُصِبِ{[57845]}

وقرأ أبيُّ بن كعب وعبد الله{[57846]} : «سَال سَالٍ » مثل «مَال » .

وتخريجها : أن الأصل : «سائل » فحذفت عينُ الكلمة ، وهي الهمزة ، واللام محل الإعراب ، وهذا كما قيل : هذا شاكٍ في شائك السِّلاح . وقد تقدم الكلام على مادة السؤال أول سورة «البقرة » فليلتفت إليه .

و «الباء » تتعلق ب «سال » من السيلان تعلقها ب «سأل » لِمَا يزيد .

وجعل بعضهم الباءَ متعلقة بمصدر دلَّ عليه فعل السؤالِ ، كأنه قيل : ما سؤالهم ؟ .

فقيل : سؤالهم بعذاب ، كذا حكاه أبو حيَّان عن ابن الخطيب{[57847]} .

ولم يعترضه ، وهذا عجيب ، فإنَّ قوله أولاً : إنه متعلق بمصدر دل عليه فعل السؤال ينافي تقديره بقوله : «سؤالهم بعذاب » ؛ لأن الباء في هذا التركيب المقدَّر تتعلق بمحذوف ؛ لأنها خبر المبتدأ بالسؤال .

وقال الزمخشريُّ : «وعن قتادة سأل سائل عن عذاب الله بمن ينزل وعلى من يقع فنزلت{[57848]} ، و " سأل " على هذا الوجه مضمن معنى عني واهتم ، كأنه قيل : اهتم مهتم بعذاب واقعٍ » .

فصل في تفسير السؤال

قال القرطبيُّ{[57849]} : الباء يجوز أن تكون بمعنى «عن » والسؤالُ بمعنى الدعاء ، أي دعا داع بالعذاب ، عن ابن عباس وغيره ، يقال : دعا على فلان بالويلِ ودعا عليه بالعذاب .

ويقال : دعوتُ زيداً ، أي التمستُ إحضاره ، والمعنى التمس ملتمسٌ عذاباً للكافرين ، وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامةِ ، وعلى هذا فالباءُ زائدةٌ كقوله تعالى :{ تَنبُتُ بالدهن }[ المؤمنون : 20 ] ، وقوله تعالى : { وهزي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة }[ مريم : 23 ] ، فهي تأكيد ، أي : سأل سائل عذاباً واقعاً .

«لِلكَافِرينَ » أي : على الكافرين .

قيل : هو النضر بن الحارث حيثُ قال : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[ الأنفال : 32 ] ، فنزل سؤاله ، وقتل يوم «بدر » صبراً هو وعقبة بن أبي معيط ، لم يقتل صبراً غيرهما ، قاله ابن عباس ومجاهد .

وقيل : «إنَّ السائل هنا هو الحارثُ بن النعمان الفهري ، وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه : " مَنْ كُنْتُ مَولاهُ فَعَليٌّ مَوْلاهُ " ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح ، ثم قال : يا محمدُ ، أمرتنا عن الله ، أن نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنَّك رسول الله ، فقبلناه منك ، وأن نصلي خمساً ، ونزكي أموالنا ، فقبلناه منك ، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام ، فقبلناه منك ، وأن نحج ، فقبلناه منك ، ثُمَّ لم ترض بهذا ، حتى فضَّلت ابن عمك علينا ، أفهذا شيءٌ منك أم من الله ؟ .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " واللَّهِ الَّذي لا إِلهَ إلاَّ هُوَ ، ما هُوَ إلاَّ مِنَ اللَّه " فولى الحارث وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقًّا ، فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذابٍ أليم ، فوالله ما وصل إلى ناقته ، حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه ، فخرج من دبره فقتله ، فنزلت { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ }{[57850]} » .

وقال الربيع : السائل هنا أبو جهلٍ وهو القائل ذلك .

وقيل : إنه قول جماعة من كفار قريش ، وقيل : هو نوح - عليه الصلاة والسلام - سأل العذاب على الكافرين .

وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بالعقاب ، وطلب أن يوقعه بالكفار ، وهو واقع بهم لا محالة ، وامتد الكلام إلى قوله تعالى { فاصبر صَبْراً جَمِيلاً }[ المعارج : 5 ] ، أي : لا تستعجل فإنه قريب ، وهذا يدل على أن ذلك السائل هو الذي أمره الله بالصبر الجميلِ .

وقال قتادة : الباءُ بمعنى «عَنْ » ، فكأن سائلاً سأل عن العذاب بمن وقع ، أو متى يقع ، قال الله تعالى : { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } ، أي : فاسأل عنه ، وقال علقمةُ : [ الطويل ]

4858 - فإن تَسْألُونِي بالنِّسَاءِ . . . *** . . . {[57851]}

أي : عن النِّساء ، فالمعنى : سلوني{[57852]} بمن وقع العذاب ، ولمن يكون ، فقال الله تعالى : { لِّلْكَافِرِينَ } وقال أبو عليّ وغيره : وإذا كان من السؤال ، فأصله أن يتعدَّى إلى مفعولين ، ويجوز الاقتصار على أحدهما وإذا اقتصر على أحدهما ، جاز أن يتعدى إليه بحرف الجر ، فيكون التقدير : سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب .


[57843]:ينظر: السبعة 650، والحجة 6/7317 وإعراب القراءات 389، وحجة القراءات 720.
[57844]:البحر المحيط 8/322.
[57845]:تقدم.
[57846]:ينظر: المحرر الوجيز 3655، والبحر المحيط 8/326، والدر المصون 6/373.
[57847]:ينظر: الفخر الرازي 30/107، والبحر المحيط 8/332.
[57848]:ذكره الزمخشري في "تفسيره" (4/608).
[57849]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن (18/181).
[57850]:أخرجه الحاكم (2/502) والنسائي (6/498) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي بأنه على شرط البخاري فقط. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/145) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه.
[57851]:تقدم
[57852]:في ب: سألوا.