قوله : { رجال } قيل : خص الرجال بالذكر في هذه المساجد لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المسجد ، { لا تلهيهم } لا تشغلهم ، { تجارة } قيل خص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة والطاعات ، وأراد بالتجارة الشراء وإن كان اسم التجارة يقع على البيع والشراء جميعاً لأنه ذكر البيع بعد هذا ، كقوله : { وإذا رأوا تجارة } يعني : الشراء ، وقال الفراء : التجارة لأهل الجلب والبيع ما باعه الرجل على يديه . قوله : { ولا بيع عن ذكر الله } عن حضور المساجد لإقامة الصلاة ، { وإقام } أي : لإقامة ، { الصلاة } حذف الهاء وأراد أداءها في وقتها ، لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة ، وأعاد ذكر إقامة الصلاة مع أن المراد من ذكر الله الصلوات الخمس لأنه أراد بإقام الصلاة حفظ المواقيت . روى سالم عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فقام الناس وأغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد ، فقال ابن عمر : فيهم نزلت : { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة } . { وإيتاء الزكاة } المفروضة ، قال ابن عباس رضي الله عنه : إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها . وقيل : هي الأعمال الصالحة . { يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار } قيل : تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشرك والكفر ، وتنفتح الأبصار من الأغطية . وقيل : تتقلب القلوب بين الخوف والرجاء تخشى الهلاك وتطمع في النجاة ، وتتقلب الأبصار من هوله أي : ناحية يؤخذ بهم ذات اليمين أم ذات الشمال ، ومن أين يؤتون الكتب أم من قبل الأيمان أم من قبل الشمائل ؟ وذلك يوم القيامة . وقيل : تتقلب القلوب في الجوف فترتفع إلى الحنجرة فلا تنزل ولا تخرج ، وتقلب البصر شخوصه من هول الأمر وشدته .
{ رِجَالٌ } خص هذين الوقتين لشرفهما ولتيسر السير فيهما إلى الله وسهولته . ويدخل في ذلك ، التسبيح في الصلاة وغيرها ، ولهذا شرعت أذكار الصباح والمساء وأورادهما عند الصباح والمساء . أي : يسبح فيها الله ، رجال ، وأي : رجال ، ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا ، ذات لذات ، ولا تجارة ومكاسب ، مشغلة عنه ، { لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ } وهذا يشمل كل تكسب يقصد به العوض ، فيكون قوله : { وَلَا بَيْعٌ } من باب عطف الخاص على العام ، لكثرة الاشتغال بالبيع على غيره ، فهؤلاء الرجال ، وإن اتجروا ، وباعوا ، واشتروا ، فإن ذلك ، لا محذور فيه . لكنه لا تلهيهم تلك ، بأن يقدموها ويؤثروها على { ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } بل جعلوا طاعة الله وعبادته غاية مرادهم ، ونهاية مقصدهم ، فما حال بينهم وبينها رفضوه .
ولما كان ترك الدنيا شديدا على أكثر النفوس ، وحب المكاسب بأنواع التجارات محبوبا لها ، ويشق عليها تركه في الغالب ، وتتكلف من تقديم حق الله على ذلك ، ذكر ما يدعوها إلى ذلك -ترغيبا وترهيبا- فقال : { يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } من شدة هوله وإزعاجه للقلوب والأبدان ، فلذلك خافوا ذلك اليوم ، فسهل عليهم العمل ، وترك ما يشغل عنه .
وقوله : رجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ يقول تعالى ذكره : لا يشغل هؤلاء الرجال الذي يصلّون في هذه المساجد التي أذن الله أن ترفع عن ذكر الله فيها وإقام الصلاة ، تجارة ولا بيع . كما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن حعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سعيد بن أبي الحسن ، عن رجل نسي اسمه في هذه الآية : فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيها اسمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوّ والاَصَالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ . . . إلى قوله : والأبْصَارِ قال : هم قوم في تجاراتهم وبيوعهم ، لا تلهيهم تجاراتهم ولا بيوعهم عن ذكر الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن عمرو بن دينار ، عن سالم بن عبد الله : أنه نظر إلى قوم من السّوق قاموا وتركوا بباعاتهم إلى الصلاة ، فقال هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه : لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ . . . الآية .
قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، عن سيار ، عمن حدثه ، عن ابن مسعود ، نحو ذلك .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هُشَيم ، عن سيار ، قال : حُدثت عن ابن مسعود ، أنه رأى قوما من أهل السوق حيثُ نودي بالصلاة تركوا بِياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة ، فقال عبد الله : هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه : لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ .
وقال بعضهم : معني ذلك : لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عن صلاتهم المفروضة عليهم . ذكر من قال ذلك :
حدّثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : ثم قال : رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ يقول : عن الصلاة المكتوبة .
وقوله : وَإقامِ الصّلاةِ يقول : ولا يشغلهم ذلك أيضا عن إقام الصلاة بحدودها في أوقاتها .
وبنحو قولنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد ، قال : حدثنا عوف ، عن سعيد بن أبي الحسن ، عن رجل نسي عوف اسمه في : وَإقامِ الصّلاةِ قال : يقومون للصلاة عند مواقيت الصلاة .
فإن قال قائل : أو ليس قوله : وَإقامِ الصّلاةِ مصدرا من قوله أقمت ؟ قيل : بلى . فإن قال : أو ليس المصدر منه إقامة ، كالمصدر من آجرت إجارة ؟ قيل : بلى . فإن قال : وكيف قال : وَإقامِ الصّلاةِ ، أو تجيز أن نقول : أقمت إقاما ؟ قيل : ولكني أجيز : أعجبني إقام الصلاة . فإن قيل : وما وجه جواز ذلك ؟ قيل : إن الحكم في أقمت إذا جعل منه مصدر أن يقال إقواما ، كما يقال : أقعدت فلانا إقعادا وأعطيته إعطاء ولكن العرب لما سكنت الواو من «أقمت » فسقطت لاجتماعها وهي ساكنة والميم ووهي ساكنة ، بنَوا المصدر على ذلك إذ جاءت الواو ساكنة قبل ألف الإفعال وهي ساكنة ، فسقطت الأولى منهما ، فأبدلوا منها هاء في آخر الحرف ، كالتكثير للحرف ، كما فعلوا ذلك في قولهم : وَعَدته عِدَة ، ووزنته زِنة إذ ذهبت الواو من أوّله ، كثّروه من آخره بالهاء فلما أضيفت الإقامة إلى الصلاة ، حذفوا الزيادة التي كانوا زادوها للتكثير ، وهي الهاء في آخرها لأن الخافض وما خفض عندهم كالحرف الواحد ، فاستغنَوا بالمضاف إليه من الحرف الزائد . وقد قال بعضهم في نظير ذلك :
إنّ الخَلِيطَ أجَدّوا البَيْنَ فانْجَرَدوا *** وأخْلَفوكَ عِدَ الأمْرِ الّذِي وَعَدُوا
يريد : عدة الأمر . فأسقط الهاء من العدة لما أضافها ، فكذلك ذلك في إقام الصلاة .
وقوله : وَإيتاءِ الزّكاةِ قيل : معناه : وإخلاص الطاعة لله . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وأقِيمُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة . وقوله : وأوْصَانِي بالصّلاةِ والزّكاةِ ، وقوله : وَلَوْلا فَضْلُ اللّهُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ أبَدا ، وقوله : وَحَنانا مِنْ لَدُنّا وَزَكاةً ونحو هذا في القرآن ، قال : يعني بالزكاة : طاعة الله والإخرص .
وقوله : يخافُونَ يَوْما تَتَقَلّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأبْصَارُ يقول : يخافون يوما تتقلب فيه القلوب من هوله ، بين طمع بالنجاة وحذر بالهلاك . والأبصار : أيّ ناحية يؤخذ بهم : أذات اليمين أم ذات الشمال ؟ ومن أين يُؤْتون كتبهم : أمن قِبَل الأيمان أو من قبل الشمائل ؟ وذلك يوم القيامة . ) كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الله بن عياش ، قال زيد بن أسلم ، في قول الله : فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ . . . إلى قوله : تَتَقَلّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأبْصَارُ يوم القيامة .
{ رجال لا تلهيهم تجارة } لا تشغلهم معاملة رابحة . { ولا بيع عن ذكر الله } مبالغة بالتعميم بعد التخصيص إن أريد به مطلق المعارضة ، أو بإفراد ما هو الأهم من قسمي التجارة فإن الربح يتحقق بالبيع ويتوقع بالشراء ، وقيل المراد بالتجارة الشراء فإنه أصلها ومبدؤها ، وقيل الجلب لأنه الغالب فيها ومنه يقال تجر في كذا إذا جلبه وفيه إيماء بأنهم تجار . { وإقام الصلاة } عوض فيه الإضافة من التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإعلال كقوله :
*** وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا ***
{ وإيتاء الزكاة } ما يجب إخراجه من المال للمستحقين . { يخافون يوما } مع ما هم عليه من الذكر والطاعة . { تتقلب فيه القلوب والأبصار } تضطرب وتتغير من الهول ، أو تتقلب أحوالها فتفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصره ، أو تتقلب القلوب مع توقع النجاة وخوف الهلاك والأبصار من أي ناحية يؤخذ بهم ويؤتى كتبهم .
ثم وصف تعالى المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله تعالى وطلبهم لرضاه لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا ، وقال كثير من الصحابة نزلت هذه الآية في أَهل الأَسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا إليها ، فرأى سالم بن عبد الله بن عمر أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة فقال هؤلاء الذين أراد الله تعالى بقوله : { لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } ، وروي ذلك عن ابن مسعود ، { وإقام } ، مصدر من أقام يقيم أصله أقوام نقلت حركة الواو إلى القاف فبقيت ساكنة والألف ساكنة فحذفت للالتقاء ، فجاء { إقام } ، بعض النحويين هو مصدر بنفسه قد لا يضاف وقيل لا يجوز أقمته إقاماً ، وإنما يستعمل مضافاً ، ذكره الرماني وقال بعضهم من حيث رأوه لا يستعمل إلا مضافاً ألحقت به هاء عوضاً من المحذوف فجاء إقامة ، فهم إذا أضافوه حذفوا العوض لاستغنائهم عنه بأَن المضاف والمضاف إليه كاسم واحد ، و { الزكاة } هنا عند ابن عباس الطاعة لله ، وقال الحسن هي الزكاة المفروضة في المال ، و «اليوم المخوف » الذي ذكره تعالى ، هو يوم القيامة ، واختلف الناس في تقلب { القلوب والأبصار } كيف هو ، فقالت فرقة يرى الناس الحقائق عياناً فتتقلب قلوب الشاكين ومعتقدي الضلال عن معتقداتها إلى اعتقاد الحق على وجهه وكذلك الأبصار وقالت فرقة هو تقلبها على جمر جهنم .
قال الفقيه الإمام القاضي : ومقصد الآية إنما هو وصف هول يوم القيامة ، فأما القول الأول فليس يقتضي هولاً وأما الثاني فليس التقلب في جمر جهنم يوم القيامة وإنما هو بعده .
وإنما معنى الآية عندي أن ذلك اليوم لشدة هوله ومطلعه ، القلوب والأبصار فيه مضطربة قلقة متقلبة من طمع في النجاة إلى طمع ومن حذر هلاك إلى حذر ، ومن نظر في هول إلى النظر في الآخر ، والعرب تستعمل هذا المعنى في الحروب ونحوها ومنه قول الشاعر : «بل كان قلبك في جناحي طائر »{[8732]} ومنه قول بشار كان فؤاده كرة تنزى{[8733]} ، ومنه قول الآخر : «إذا حلق النجيد وصلصل الحديد » وهذا كثير .