151- قل لهم - يا أيها النبي - تعالوا أبيِّن لكم المحرمات التي ينبغي أن تهتموا بها وتبتعدوا عنها : لا تجعلوا لله شريكاً ما ، بأي نوع كان من أنواع الشرك ، ولا تسيئوا إلى الوالدين ، بل أحسنوا إليهما إحساناً بالغاً ، ولا تقتلوا أولادكم بسبب فقر نزل بكم ، أو تخشون نزوله في المستقبل ، فلستم أنتم الرازقين ، بل نحن الذين نرزقكم ونرزقهم ، ولا تقربوا الزنا فهو من الأمور المتناهية في القبح ، سواء منها ما ظهر للناس حين إتْيانه ، وما لم يطلع عليه إلا الله ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها لعدم موجبه ، إلا إذا كان القتل بحق تنفيذاً لحكم القضاء . أمركم الله أمراً مؤكداً باجتناب هذه المنهيّات التي تقضى بديهة العقل بالبعد عنها ، لتعقلوا ذلك .
قوله تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا } ، وذلك أن المشركين سألوا وقالوا : أي شيء الذي حرم الله تعالى ؟ فقال عز وجل : { قل تعالوا أتل } أقرأ { ما حرم ربكم عليكم } حقاً ويقيناً ، لا ظناً وكذباً كما تزعمون . فإن قيل : ما معنا قوله : { حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا } والمحرم هو الشرك لا ترك الشرك ؟ قيل : موضع ( أن ) رفع ، معناه : هو أن لا تشركوا ، وقيل : محله نصب ، واختلفوا في وجه انتصابه ، قيل : معناه حرم عليكم أن تشركوا ، و( لا ) صلة كقوله تعالى { ما منعك أن لا تسجد } [ الأعراف :12 ] ، أي : منعك أن تسجد . وقيل : تم الكلام عند قوله { حرم ربكم } ثم قال : { عليكم أن لا تشركوا به شيئاً } على وجه الإغراء . قال الزجاج : يجوز أن يكون هذا محمولاً على المعنى ، أي : أتل عليكم تحريم الشرك ، وجائز أن يكون على معنى : أوصيكم ألا تشركوا .
قوله تعالى : { وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } ، فقر .
قوله تعالى : { نحن نرزقكم وإياهم } ، أي : لا تئدوا بناتكم خشية العيلة ، فإني رازقكم وإياهم .
قوله تعالى : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } ، ما ظهر يعني : العلانية ، وما بطن ، يعني السر ، وكان أهل الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأساً في السر فحرم الله تعالى الزنا في العلانية والسر . وقال الضحاك : ما ظهر الخمر ، وما بطن الزنا .
قوله تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ، حرم الله تعالى قتل المؤمن ، والمعاهد ، إلا بالحق ، إلا بما يبيح قتله من ردة ، أو قصاص ، أو زنا يوجب الرجم . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، ثنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري ، ثنا حاجب بن أحمد الطوسي ، ثنا محمد بن حماد ، ثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) .
قوله تعالى : { ذلكم } الذي ذكرت .
{ 151 - 153 } { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } لهؤلاء الذين حرموا ما أحل الله . { تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } تحريما عاما شاملا لكل أحد ، محتويا على سائر المحرمات ، من المآكل والمشارب والأقوال والأفعال . { أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } أي : لا قليلا ولا كثيرا .
وحقيقة الشرك بالله : أن يعبد المخلوق كما يعبد الله ، أو يعظم كما يعظم الله ، أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية والإلهية ، وإذا ترك العبد الشرك كله صار موحدا ، مخلصا لله في جميع أحواله ، فهذا حق الله على عباده ، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا .
ثم بدأ بآكد الحقوق بعد حقه فقال : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } من الأقوال الكريمة الحسنة ، والأفعال الجميلة المستحسنة ، فكل قول وفعل يحصل به منفعة للوالدين أو سرور لهما ، فإن ذلك من الإحسان ، وإذا وجد الإحسان انتفى العقوق .
{ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ } من ذكور وإناث { مِنْ إِمْلَاقٍ } أي : بسبب الفقر وضيقكم من رزقهم ، كما كان ذلك موجودا في الجاهلية القاسية الظالمة ، وإذا كانوا منهيين عن قتلهم في هذه الحال ، وهم أولادهم ، فنهيهم عن قتلهم لغير موجب ، أو قتل أولاد غيرهم ، من باب أولى وأحرى .
{ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } أي : قد تكفلنا برزق الجميع ، فلستم الذين ترزقون أولادكم ، بل ولا أنفسكم ، فليس عليكم منهم ضيق . { وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ } وهي : الذنوب العظام المستفحشة ، { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } أي : لا تقربوا الظاهر منها والخفي ، أو المتعلق منها بالظاهر ، والمتعلق بالقلب والباطن .
والنهي عن قربان الفواحش أبلغ من النهي عن مجرد فعلها ، فإنه يتناول النهي عن مقدماتها ووسائلها الموصلة إليها .
{ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ } وهي : النفس المسلمة ، من ذكر وأنثى ، صغير وكبير ، بر وفاجر ، والكافرة التي قد عصمت بالعهد والميثاق . { إِلَّا بِالْحَقِّ } كالزاني المحصن ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة .
{ ذَلِكُمْ } المذكور { وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } عن الله وصيته ، ثم تحفظونها ، ثم تراعونها وتقومون بها . ودلت الآية على أنه بحسب عقل العبد يكون قيامه بما أمر الله به .
ثم تنتقل السورة بعد ذلك إلى أفق أرحب وأوسع ، وإلى ميدان أفسح وأشمل فتناديهم بأسلوب مؤثر بليغ ليستمعوا إلى ما حرم الله عليهم فيجتنبوه وإلى ما كلفهم به فيعملوه ، تناديهم ليتدبروا فى الأصول الكلية التى تقوم عليها العقيدة السليمة ، ويسعد بها المجتمع ، ويحيا فى ظلها الأفراد والجماعات فى أمان واطمئنان . تناديهم ليسمعوا البيان الصحيح الحق فيما أحل الله وحرم من الأفعال والأقوال ليسمعوه ممن له وحده الحق فى أن يقوله ، وفى أن يتلقى عنه تناديهم فتقول : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ . . . } .
إن المتأمل فى هذه الآيات يراها قد رسمت للإنسان علاقته بربه علاقة ينال بها السعادة والثواب ، ورسمت له علاقته بأسرته بحيث تقوم على المودة والمحبة وسدت فى وجهه أبواب الشر التى تؤدى إلى انتهاك حرمات الأنفس والأموال والأعراض ، وقد أطلق العلماء على هذه الآيات الكريمة اسم " الوصايا العشر " نظرا لتذييل آياتها الثلاث بقوله - تعالى - { ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ } .
روى الترمذى - بسنده - عن ابن مسعود أنه قال : من سره أن ينظر إلى وصية محمد التى عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ } . إلى قوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } .
وروى الحاكم وصححه ، وابن أبى حاتم عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيكم يبايعنى على هؤلاء الآيات الثلاث ، ثم تلا قوله - تعالى - : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ } . حتى فرغ منها ثم قال : من وفى بهن فأجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله فى الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله ، إن شاء الله أخذه ، وإن شاء عفا عنه " .
وروى البيهقى عن على بن أبى طالب - رضى الله عنه - قال . لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب ، خرج إلى منى وأنا وأبو بكر معه ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على منازل القوم ومضاربهم . فسلم عليهم وردوا السلام ، وكان فى القوم مفروق بن عمرو وهانى بن قبيصة والمثنى بن حارثة ، والنعمان بن شريك ، وكان مفروق بن عمرو أغلب القوم لساناً وأفصحهم بياناً ، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له :
إلام تدعو يا أخا قريش ؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى شهادة أن أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنى رسول الله ، وأن تؤوونى وتنصرونى وتمنعونى حتى اؤدى حق الله الذى أمرنى به ، فإن قريشاً تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق ، والله هو الغنى الحميد .
فقال له مفروق : وإلام تدعو أيضاً يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } . إلى آخر الآيات الثلاث .
فقال له مفروق : وإلام تدعو أيضاً يا أخا قريش ؟ فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض ولو كان من كلامهم لعرفناه . فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } الآية .
فقال له مفروق : دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، وقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك .
وقال هانىء بن قبيصة : قد سمعت مقالتك ، واستحسنت قولك يا أخا قريش ، ويعجبنى ما تكلمت به ، فبشرهم الرسول - إن آمنوا - بأرض فارس وأنهار كسرى .
فقال له النعمان : اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هذا جانب من فضائل هذه الآيات الثلاث ، وذلك هو تأثيرها فى نفوس العرب ، والآن فلنبدأ فى التفسير التحليلى لها فنقول :
لقد بدئت الآيات بقوله - تعالى - { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } .
أى : قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء الذين حللوا وحرموا حسب أهوائهم ، تعالوا إلى وأقبلوا نحوى لأبين لكم ما حرمه ربكم عليكم ، ولأتلو على مسامعكم ما أمركم به ، وما نهاكم عنه خالقكم ومربيكم ، فإنكم إن أقبلتم نحوى وأطعمتمونى سعدتم فى دينكم ودنياكم .
وفى تصدير هذه الوصايا بكلمة { قُلْ } إشعار من أول الأمر بأن هذا بيان إلهى ، ليس الرسول فيه إلا ناقلا مبلغا ، وفيه - أيضا - دلالة على أن المأمور به يحتاج إلى مزيد عناية واهتمام وقد سبق أن بينا أن سورة الأنعام زاخرة بهذا الأسلوب التلقينى الذى يبدأ بكلمة { قُلْ } .
والأصل فى كلمة ( تعال ) أن يقولها من كان فى مكان عال لمن هو أسفل منه ، ثم اتسع فيها حتى عمت ، وهى تتضمن إرادة تخليص المخاطبين ورفعتهم من انحطاط هم فيه إلى علو يراد لهم ويدعون إليه‘ وتتضمن كذلك أن المتكلم يريد منهم أن يلتفوا من حوله لتتحد وجهتهم ، ولا تتفرق بهم الأهواء والسبل .
وفى قوله { أَتْلُ } إيماء قوى بأن المتكلم يقدر المخاطبين ، ويرتفع بهم إلى درجة أنهم لا يحتاجون فى الإرشاد إلا لأن يتلو عليهم ما يريدهم أن يعملوه ثم هم بعد ذلك سيمتثلون لحسن استعدادهم لقبول الحق .
- وإنه لأسلوب قد بلغ الغاية فى اللطف وفى التكريم وفى حسن الموعظة وتوجيه الخطاب .
- وخص التحريم بالذكر مع أن الوصايا قد اشتملت على المحرمات وعلى غيرها لأن سياق الآيات قبل ذلك كان منصبا على كشف ما اخترعه المشركون من تحريم فى الحرث والنسل ما أنزل الله به من سلطان ، ولأن بيان أصول المحرمات يستلزم حل ما عداها لأنه الأصل .
وفى نسبة التحريم إلى الرب الذى هو منبع الخير والإحسان . حض لهم على التدبر والاستجابة . لأن الذى حرم عليهم ذلك هو مربيهم ، فليس معقولا أن يحرم عليهم ما فيه منفعة لهم ، وإنما هو بمقتضى ربوبيته قد حرم عليهم ما فيه ضررهم .
- وقوله { أَتْلُ } جواب الأمر ، أى : إن تأتونى أتل . و { مَا } فى قوله { مَا حَرَّمَ } موصولة بمعنى الذى والعائد محذوف أى : أقرأ الذى حرمه ربكم عليكم ، وهى فى محل نصب مفعول به ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، أى أتل تحريم ربكم ، ونفس التحريم لا يتلى وإنما هو مصدر واقع موقع المفعول به ، أى : أتل محرم ربكم الذى حرمه هو .
و { عَلَيْكُمْ } متعلق ب { حَرَّمَ } أو ب { أَتْلُ } .
قال بعض العلماء : وهذه العبارة التى قدمت بها الوصايا - وهى { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } فيها إشعار بأن الحقائق الأولى التى قام عليها الجدال فى السورة قد أصبحت واضحة . لا مفر من قبولها والبناء عليها ، فالله - تعالى - يأمر رسوله بأن يبلغهم ، وإذن فهناك إله من شأنه أن يرسل الرسل ، وهناك رسل من شأنهم أن يتلقوا عن الله ، وهناك محرمات وردت من المصدر الذى يحق له التحريم وحده لأنه هو الرب { مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } ثم هناك لازم عقلى لهذا التحريم هو أن من تعداه وانتهكه كان مغضباً للرب الذى قرره . مستحقاً لعقوبته ، وإذن فهناك دار للجزاء " . ولننظر بعد ذلك فى الوصايا .
الوصية الأولى : { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } أى : أوصيكم ألا تشركوا مع الله فى عبادتكم آلهة أخرى . بل خصوه وحده بالعبادة والخضوع والطاعة فإنه هو الخالق لكل شىء .
وصدر - سبحانه - هذه الوصايا بالنهى عن الشرك ، لأنه أعظم المحرمات وأكبرها إفساداً للفطرة ، ولأنه هو الجريمة التى لا تقبل المغفرة من الله ، بينما غيره قد يغفره - سبحانه - قال - تعالى - : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } وقد ساق القرآن مئات الآيات التى تدعو إلى الإيمان وتنفر من الشرك وتقيم الأدلة الساطعة ، والبراهين الدامغة على وحدانية الله - عز وجل - .
هذا ، وقد ذكر الشيخ الجمل فى إعراب هذه الجملة الكريمة ألا تشركوا به شيئاً عدة آراء منها :
1 - أنّ ( أن ) تفسيرية ، لأنه تقدمها ما هو بمعنى القول لا حروفه ، ولا ناهية ولا تشركوا مجزوم بها .
2 - أن تكون ( أن ) ناصية للفعل بعدها ، وهى وما فى حيزها فى محل نصب بدلا من { مَا حَرَّمَ } ولا زائدة لئلا يفسد المعنى كزيادتها فى قوله : { أَلاَّ تَسْجُدَ } و { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } 3 - تكون ( أن ) ناصبة وما فى حيزها منصوب على الإغراء بعليكم ويكون الكلام قد تم عند قوله { رَبُّكُمْ } ثم ابتدأ فقال : عليكم ألا تشركوا أى الزموا نفى الشرك .
4 - أنها وما فى حيزها فى محل نصب أو جر على حذف لام العلة ، والتقدير تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم لئلا تشركوا به شيئاً .
5 - أن تكون هى وما بعدها فى محل نصب بإضمار فعل تقديره : أوصيكم ألا تشركوا .
ونكتفى بهذا القدر من وجوه الإعراب التى توسع فيها النحاة توسعاً كبيراً ، بسبب ورود بعض هذه الوصايا بصيغة النهى ، وبعضها بصيغة الأمر ، مع تقدم فعل التحريم على جميعها .
أما الوصية الثانية : فى قوله - تعالى - { وبالوالدين إِحْسَاناً } أى : أحسنوا بهما إحسانا كاملا لا إساءة معه .
وقد قرن - سبحانه - هذه الوصية بالوصية الأولى التى هى توحيده وعدم الإشراك به ، فى هذه الآية وفى غيرها ، للإشعار بعظم هذه الوصيى وللتنبيه إلى معنى واحد - يجمعها مع الأولى وهو أن المنعم يجب أن يشكر ؛ فالوالدان سبب فى حياة الولد فيجب أن يشركهما ويحسن إليهما ، والله - تعالى - هو الخالق المنعم فيجب أن يشكر ويفرد بالعبادة والطاعة .
- قال بعض العلماء : وقد جاءت هذه الوصية بأسلوب الأمر بالواجب المطلوب وهو الإحسان إلى الوالدين ، ولم تذكر بأسلوب النهى عن المرحم وهو الإساءة ، سموا بالإنسان عن أن تظن به الاساءة إلى الوالدين ، وكأن الإساءة إليهما ، ليس من شأنها أن تقع منه حتى يحتاج إلى النهى عنها ، ولأن الخير المنتظر من هذه الوصية وهو تربية الأبناء على الاعتراف بالنعم وشكر المنعمين عليها إنما يتحقق بفعل الواجب ، وهو الإحسان لا بمجرد ترك المحرم وهو الإساءة . ولهذا وذاك قال - سبحانه - { وبالوالدين إِحْسَاناً } .
- والإحسان يتعدى بحرفى الباء وإلى ، فقال : أحسن به ، وأحسن إليه ، وبينهما فرق واضح ، فالباء تدل على الإلصاق ، وإلى تدل على الغاية ، والإلصاق يفيد اتصال الفعل بمدخول " الباء " دون انفصال ولا مسافة بينهما ، أما الغاية فتفيد وصول الفعل إلى مدخول ( إلى ) ولو كان منه على بعد أو كان بينهما واسطة ، ولا شك أن الإلصاق فى هذا المام أبلغ فى تأكيد شأن العناية والإحسان بالوالدين ، ومن هنا لم يعد الإحسان بالباء فى القرآن إلا حيث أريد ذلك التأكيد ، وقد جاءت جميع الآيات القرآنية التى توحى بالإحسان بالوالدين على هذا الأسلوب " .
ثم جاءت الوصية الثالثة وهى قوله - تعالى - { وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } .
الإملاق : الفقر ، مصدر أملق الرجل إملاقا إذا احتاج وافتقر .
أى : لا تقتلوا أولادكم الصغار من أجل الفقر فنحن قد تكفلنا برزقكم ورزقهم . { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } ولا شك أن الحياة حق لهؤلاء الصغار كما أنها حق لكم . فمن الظلم البين الاعتداء على حقوقهم ، والتخلص منهم خوفا من الفقر ، مع أن الله - تعالى - هو الرازق لكم ولهم .
والمجتمع الذى يبيح قتل الأولاد خوفا من الفقر أو خوفا من العار ، هو الرازق لم ولهم .
والمجتمع الذى يبيح قتل الأولاد خوفا من الفقر أو خوفا من العار ، لا يمكن أن يصلح شأنه ، لأنه مجتمع نفعى تسوده الأثرة والأنانية ، ويكون فى الوقت نفسه مجتمعا أفراده يسودهم التشاؤم ، وتتغشاهم الأوهام ، لأنهم يظنون أن الله يخلق خلقاً لا يدبر لهم حقهم من الرزق ، ويعتدون على روح بريئة طاهرة تخوفا من جريمة متوهمة ، وذلك هو الضلال المبين .
- وقد روى النهى عن قتل الأولاد هنا بهذه الصيغة ، وورد فى سورة الإسراء بصيغة أخرى هى قوله - تعالى - { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } وليس إحداهما تكراراً للأخرى . وإنما كل واحدة منهما تعالج حالة معينة .
- فهنا يقول - سبحانه - { مِّنْ إمْلاَقٍ } أى : لا تقتلوهم بسبب الفقر الموجود فيكم أيها الآباء لذا قال : { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } فجعل الرزق للآباء ابتداء ، لأن الفقر الذى يقتلون من أجله أولادهم حاصل لهم فعلا .
- وفى سورة الإسراء يقول : { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } أى : خوفا من فقر ليس حاصلا ، ولكنه متوقع بسبب الأولاد ولذا قال : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } فقدم رزق الأولاد لأنهم سبب توقع الفقر ، ليكف الآباء عن هذا التوقع ، وليضمن للأولاد رزقهم ابتداء مستقلا عن رزق الآباء .
ففى كلتا الحالتين القرآن ينهى عن قتل الأولاد ، ويغرس فى نفوس الآباء الثقة بالله ، والاعتماد عليه .
وجملة { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } تعليلية لإبطال ما اتخذوه سبباً لمباشرة جريمتهم ، وضمان منه - سبحانه - لأرزاقهم أى : نحن نرزق الفريقين لا أنتم وحدكم ، فلا تقدموا على تلك الجريمة النكراء وهى قتل الأولاد لأن الأولاد قطعة من أبيهم ، والشأن حتى فى الحيوان الأعجم أنه يضحى من أجل أولاده ، ويحميهم ويتحمل الصعاب فى سبيلهم .
أما الوصية الرابعة فتقول : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } الفواحش . جمع فاحشة وهى كما قال الراغب فى مفرداته - ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال يقال : فحش فلان ، أى صار فاحشاً مرتكباً للقبائح ، والمتفحش هو الذى يأتى بالفحش من القول أو الفعل ، كالسرقة والزنا والنميمة وشهادة الزور .
وأنهاكم عن أن تقتربوا من الأقوال والأفعال القبيحة ما كان منها ظاهراً وما كان منها خافياً .
وقد تعلق التحريم والنهى بهذا الوصف الذى يشعر بالعلة - كما يقول علماء الأصول - فكأنه قال . إن كل قول أو عل تستقبحه العقول فهو فاحشة يجب البعد عنها .
والمجتمع الذى يؤمن بأن هناك " فواحش " يجب أن تجتنب ، و " محاسن " يجب أن تلتمس هو المجتمع الفاضل الطهور .
أما المجتمع الذى يسوى بين القبيح والحسن ، ويقوم على الإباحة التى لا تفرق بين ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك ، فلا بد أن يكون مصيره إلى التدهور والتعاسة والمهانة .
وجملة { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } بدل اشتمال من الفواحش .
وتعليق النهى بقربانها للمبالغة فى الزجر عنها لأن قربانها قد يؤدى إلى مباشرتها ، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، وهذا لون حكيم من ألوان الإصلاح ، لأنه إذا حصل النهى عن القرب من الشىء ، فلأن ينهى عن فعله من باب أولى .
ثم جاءت الآية فى ختامها بالوصية الخامسة فقالت : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } .
أى : لا تقتلوا النفس التى حرم الله قتلها بأن عصهما بالإسلام إلا بالحق الذى يبيح قتلها شرعاً كردة أو قصاص أو زنا يوجب الرجم .
قال ابن كثير : وهذا مما نص - تبارك وتعالى - على النهى عنه تأكيدا ، وإلا فهو داخل فى النهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن . فقد جاء فى الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزانى ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " .
وقوله { إِلاَّ بالحق } فى محل نصب على الحال من فاعل { تَقْتُلُواْ } أى : لا تقتلوها ملتبسين بالحق ، ويجوز أن يكون وصفاً لمصدر محذوف أى : قتلا ملتبساً بالحق ، وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أى : لا تقتلوها فى حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق .
وذلك لأن الإسلام ينظر إلى وجود الإنسان على أنه بناه الله فلا يحق لأحد أن يهدمه إلا بالحق ، وبذلك يقرر عصمة الدم الإنسانى ، ويعتبر من يعتدى على نفس واحدة فكأنما قد اعتدى على الناس جميعاً : { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - { ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
أى : ذلكم الذى ذكرناه لكم من وصايا جليلة ، وتكاليف حكيمة ، وصاكم الله به ، وطلبه منكم . لعلكم تستعملون عقولكم التى تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح .
فاسم الإشارة { ذلكم } مشار به إلى الوصايا الخمس السابقة ، وهو مبتدأ وجملة وصاكم به خبر . ولفظ وصاكم من اللطف والرأفة وجعلهم أوصياء له - تعالى - ما يحمل النفس علىى الطاعة والاستجابة .
هذه هى الوصايا الخمس التى تضمنتها الآية الأولى من هذه الآيات الثلاث وكلها تشترك فى معنى واحد هو أنها حقائق أو حقوق ثابتة فى نفسها ، ولم يكن ثبوتها إلا تجاوبا مع الطفرة ، فالله واحد سواء آمن الناس بهذه الحقيقة عقيديا وعمليا أم لم يؤمنوا ، وشكر النعمة يقتضى الإحسان إلى الوالدين طبعا ووضعا ، وللنسل حق الحياة والحفظ ، والفواحش فحش ونكر فى ذاتها فيجب أن تجتنتب ، والنفوس معصية فليس لأحد أن يهدمها إلا بحق ، ولاتفاقها كلها فى هذا المعنى جاءت فى آية واحدة ، وختمت بعبارة تفيد أن هذا مرجعه إلى حكم العقول { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
هذا أمر من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله بشرع الإسلام المبعوث به إلى الأسود والأحمر ، و { تعالوا } معناه أقبلوا ، وأصله من العلو فكأن الدعاء لما كان أمراً من الداعي استعمل فيه ترفيع المدعو{[5149]} ، وتعالى هو مطاوع عالى ، إذ تفاعل هو مطاوع فاعل . و { أتل } معناه اسرد وأ نص من التلاوة التي يصح هي إتباع بعض الحروف بعضا ، و { ما } نصب بقوله { أتل } وهي بمعنى الذي ، وقال الزجّاج أن يكون قوله { أتل } معلقاً عن العمل و { ما } نصب ب { حرم } .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قلق و { أن } في قوله { أن لا تشركوا } يصح أن تكون في موضع رفع الابتداءو التقدير : الأمر أن ، أو : ذلك أن ، ويصح أن تكون في موضع نصب على البدل من { ما } قاله مكي وغيره .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : والمعنى يبطله فتأمله ، ويصح أن يكون مفعولاً من أجله التقدير : إرادة أن لا تشركوا به شيئاً ، إلا أن هذا التأويل يخرج{ ألا تشركوا } من المتلو ويجعله سبباً لتلاوة المحرمات . و{ تشركوا } يصح أن يكون منصوباً ب { أن } ، ويتوجه أن يكون مجزوماً بالنهي وهو الصحيح في المعنى المقصود ، و { أن } قد توصل بما نصبته ، وقد توصل بالفعل المجزوم بالأمر والنهي ، و { شيئاً } عام يراد به كل معبود من دون الله ، و { إحساناً } نصب على المصدر وناصبه فعل مضمر من لفظه تقديره وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، والمحرمات تنفك من هذه المذكورات بالمعنى وهي الإشراك والعقوق وقرب الفواحش وقتل النفس ، وقال كعب الأحبار : هذه الآيات مفتتح التوراة { بسم الله الرحمن الرحمن قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى آخر الآية ، وقال ابن عباس هذه الآيات هي المحكمات التي ذكرها الله في سورة آل عمران اجتمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ قط في ملة ، وقد قيل إنها العشر الكلمات المنزلة على موسى ، وإن اعترض من قال إن { تشركوا } منصوب ب { أن } بعطف المجزومات عليه فلذلك موجود في كلام العرب ، وأنشد الطبري حجة لذلك : [ الرجز ] .
حج وأوصى بسليمى الأعْبُدا . . . أن لا ترى ولا تكلمْ أحدا
ولا يزلْ شرابُها مبرَّدا{[5150]} . . .
وقوله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم } الآية نهي عن عادة العرب في وأد البنات ، والولد يعم الذكر والأنثى من البنين ، و «الإملاق » الفقر وعدم المال ، قاله ابن عباس وغيره ، يقال أملق الرجل إذا افتقر .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : ويشبه أن يكون معناه أملق أي لم يبق له إلا الملق كما قالوا أترب إذا لم يبق له إلا التراب ، وأرمل إذا لم يبق له إلا الرمل ، والملق الحجارة السود واحدته ملقة ، وذكر منذر بن سعيد{[5151]} أن الإملاق الإنفاق ، ويقال أملق ماله بمعنى أنفقه ، وذكر أن علياً قال لامرأة أملقي من مالك ما شئت ، وذكر النقاش عن محمد بن نعيم الترمذي أنه السرف في الإنفاق ، وحكى أيضاً النقاش عن مؤرج أنه قال : الإملاق الجوع بلغة لخم .
وقوله تعالى : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي ، و «ظهر وبطن » حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء ، وذهب بعض المفسرين إلى أن القصد بهذه الآية أشياء مخصصات ، فقال السدي وابن عباس : { ما ظهر } هو زنا الحوانيت الشهير ، و { ما بطن } هو متخذات الأخدان ، وكانوا يستقبحون الشهير وحده فحرم الله الجميع ، وقال مجاهد { ما ظهر } هو نكاح حلائل الآباء ونحو ذلك ، و { ما بطن } هو الزنا إلى غير هذا من تخصيص لا تقوم عليه حجة ، بل هو دعوى مجردة ، وقوله تعالى : { ولا تقتلوا } الآية متضمنة تحريم قتل النفس المسلمة والمعاهدة ، ومعنى الآية { إلا بالحق } الذي يوجب قتلها وقد بينته الشريعة وهو الكفر بالله وقتل النفس والزنا بعد الإحصان والحرابة وما تشعب من هذه ، و { ذلكم } إشارة إلى هذه المحرمات ، و «الوصية » الأمر المؤكد المقرر ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
أجدَّكَ لم تسمعْ وَصَاةَ محمَّدٍ . . . نبيِّ الإلهِ حين أوصى وَأَشْهَدَا{[5152]}
وقوله { لعلكم } ترج بالإضافة إلينا أي من سمع هذه الوصية ترجى وقوع أثر العقل بعدها والميز بالمنافع والمضار في الدين .
استئناف ابتدائي للانتقال من إبطال تحريم ما ادّعوا تحريمه من لحوم الأنعام ، إلى دعوتهم لمعرفة المحرّمات ، التي علمُها حقّ وهو أحقّ بأنْ يعلموه ممّا اختلقوا من افترائهم وموّهوا بجدلهم . والمناسبة لهذا الانتقال ظاهرة فالمقام مقامُ تعليم وإرشاد ، ولذلك ابتدىء بأمر الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بفعل القول استرعاء للأسماع كما تقدّم آنفاً .
وعُقّب بفعل : { تعالوا } اهتماماً بالغرض المنتقل إليه بأنَّه أجدى عليهم من تلك السّفاسف التي اهتمّوا بها وهذا على أسلوب قوله تعالى : { ليس البِرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن بالله واليوم الآخر } [ البقرة : 177 ] الآيات . وقوله : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كَمَنْ آمن بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 19 ] الآية ، ليعلموا البون بين ما يَدعون إليه قومهم وبين ما يدعوهم إليه الإسلام ، من جلائل الأعمال ، فيعلموا أنَّهم قد أضاعوا أزمانهم وأذهانهم .
وافتتاحه بطلب الحضور دليل على أنّ الخطاب للمشركين الذين كانوا في إعراض . وقد تلا عليهم أحكاماً قد كانوا جارين على خلافها ممّا أفسد حالهم في جاهليتهم ، وفي ذلك تسجيل عليهم بسوء أعمالهم ممّا يؤخذ من النّهي عنها والأمر بضدّها .
وقد انقسمت الأحكام التي تضمّنتها هذه الجمل المتعاطفة في الآيات الثّلاث المفتتحة بقوله : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى ثلاثة أقسام :
الأوّل : أحكام بها إصلاح الحالة الاجتماعية العامَّة بين النّاس وهو ما افتتح بقوله : { ألاَّ تشركوا به شيئاً } .
الثّاني : ما به حفظ نظام تعامل النّاس بعضِهم مع بعض وهو المفتتح بقوله : { ولا تَقْرَبوا مال اليتيم } [ الأنعام : 152 ] .
الثّالث : أصل كلي جامع لجميع الهدى وهو اتّباع طريق الإسلام والتّحرّز من الخروج عنه إلى سبل الضّلال وهو المفتتح بقوله : { وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] .
وقد ذيّل كلّ قسم من هذه الأقسام بالوصاية به بقوله : { ذلكم وصاكم به } ثلاث مرّات .
و ( تعالَ ) فعل أمر ، أصله يُؤْمر به من يراد صعوده إلى مكان مرتفع فوق مكانه ، ولعلّ ذلك لأنَّهم كانوا إذا نَادوا إلى أمر مهمّ ارتقَى المنادي على ربوة ليُسمَع صوته ، ثمّ شاع إطلاق ( تَعالَ ) على طلب المجيء مجازاً بعلاقة الإطلاق فهو مجاز شائع صار حقيقة عرفية ، فأصله فعل أمر لا محالة من التعالي وهو تكلّف الاعتلاء ثمّ نقل إلى طلب الإقبال مطلقاً ، فقيل : هو اسم فعلِ أمر بمعنى ( اقدَمْ ) ، لأنَّهم وجدوه غير متصرّف في الكلام إذ لا يقال : تعاليتُ بمعنى ( قَدِمت ) ، ولا تعالَى إليّ فلان بمعنى جاء ، وأيّاً ما كان فقد لزمته علامات مناسبة لحال المخاطب به فيقال : تعالوا وتَعالَيْن . وبذلك رجَّح جمهور النّحاة أنَّه فعل أمر وليس باسْم فِعل ، ولأنَّه لو كان اسم فعل لما لحقتْه العلامات ، ولكان مثل : هَلُمّ وهَيْهات .
و { أتْلُ } جواب { تعالوا } ، والتّلاوة القراءة ، والسّردُ وحكاية اللّفظ ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } [ البقرة : 102 ] . و { ألاَّ تشركوا } تفسير للتّلاوة لأنَّها في معنى القول .
وذُكرَت فيما حرّم الله عليهم أشياءُ ليست من قبيل اللّحوم إشارة إلى أنّ الاهتمام بالمحرّمات الفواحش أولى من العكوف على دراسة أحكام الأطعمة ، تعريضاً بصرف المشركين همتّهم إلى بيان الأطعمة وتضييعهم تزكية نفوسهم وكفّ المفاسد عن النّاس ، ونظيره قوله : { قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده } إلى قوله { إنَّما حرم ربِّي الفواحش ما ظهر منها } [ الأعراف : 32 ، 33 ] الآية .
وقد ذُكرت المحرّمات : بعضها بصيغة النّهي ، وبعضها بصيغة الأمر الصّريح أو المؤوّل ، لأنّ الأمر بالشّيء يقتضي النّهي عن ضدّه ، ونكتة الاختلاف في صيغة الطّلب لهاته المعدودات سنبيّنها .
و { أنْ } تفسيرية لفعل : { أتل } لأنّ التّلاوة فيها معنى القول . فجملة : { ألا تشركوا } في موقع عطف بيان . والابتداء بالنَّهي عن الإشراك لأنّ إصلاح الاعتقاد هو مفتاح باب الإصلاح في العاجل ، والفلاح في الآجل .
وقوله : { وبالوالدين إحسانا } عطف على جملة : { ألاَّ تشركوا } . و { إحسانا } مصدر ناب مناب فعله ، أي وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، وهو أمر بالإحسان إليهما فيفيد النّهي عن ضدّه : وهو الإساءة إلى الوالدين ، وبذلك الاعتبار وقع هنا في عداد ما حَرّم الله لأنّ المحرّم هو الإساءة للوالدين . وإنَّما عدل عن النّهي عن الإساءة إلى الأمر بالإحسان اعتناء بالوالدين ، لأن الله أراد برهما ، والبرّ إحسان ، والأمرُ به يتضمّن النَّهي عن الإساءة إليهما بطريق فحوى الخطاب ، وقد كان كثير من العرب في جاهليتهم أهل جلافة ، فكان الأولاد لا يوقّرون آباءهم إذا أضعفهم الكبر . فلذلك كثرت وصاية القرآن بالإحسان بالوالدين .
وقوله : { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } جملة عطفت على الجملة قبلها أريد به النّهي عن الوأد ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى في هذه السّورة ( 137 ) : { وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } و ( مِنْ ) تعليلية ، وأصلها الابتدائيّة فجعل المعلول كأنَّه مبتدىء من علّته .
والإملاق : الفقر ، وكونه علّة لقتل الأولاد يقع على وجهين : أن يكون حاصلاً بالفعل ، وهو المراد هنا ، وهو الذي تقتضيه ( من ) التّعليلية ، وأن يكون متوقَّع الحصول كما قال تعالى ، في آية سورة الإسراء ( 31 ) : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } لأنَّهم كانوا يئدون بناتهم إمّا للعجز عن القيام بهنّ وإمَّا لتوقّع ذلك . قال إسحاق بن خلف ، وهو إسلامي قديم :
إذَا تذكرتُ بنتي حين تندبني *** فاضت لعبرة بنتي عبرتي بدم
أحاذر الفقر يوماً أن يُلِمّ بها *** فيُكشفَ السترُ عن لحم على وضم
وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وكذلك زيَّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } في هذه السورة ( 137 ) .
وجملة : { نحن نرزقكم وإياهم } معترضة ، مستأنفة ، علّة للنّهي عن قتلهم ، إبطالاً لمعذرتهم : لأنّ الفقر قد جعلوه عذراً لقتل الأولاد ، ومع كون الفقر لا يصلح أن يكون داعياً لقتل النّفس ، فقد بيّن الله أنَّه لمّا خَلق الأولاد فقد قدّر رزقهم ، فمن الحماقة أن يظنّ الأب أنّ عجزه عن رزقهم يخوّله قتلهم ، وكان الأجدر به أن يكتسِبَ لهم .
وعُدل عن طريق الغيبة الذي جرى عليه الكلام من قوله : { ما حرم ربكم } إلى طريق التكلّم بضمير : نرزقكم تذكيراً بالذي أمر بهذا القول كلّه ، حتى كأنّ الله أقحمَ كلامَه بنفسه في أثناء كلام رسوله الّذي أمره به ، فكلّم النّاس بنفسه ، وتأكيداً لتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم . وذكَرَ الله رزقهم مع رزق آبائهم ، وقدم رزق الآباء للإشارة إلى أنَّه كما رزق الآباء ، فلم يموتوا جوعاً ، كذلك يرزق الأبناء ، على أن الفقر إنَّما اعترى الآباء فلِمَ يُقتل لأجله الأبناء .
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي . هنا لإفادة الاختصاص : أي نحن نرزقكم وإيَّاهم لا أنتم ترزقون أنفسكم ولا ترزقون أبناءكم . وقد بيّنتُ آنفاً أنّ قبائل كثيرة كانت تئد البنات . فلذلك حذروا في هذه الآية .
وجملة : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } عطف على ما قبله . وهو نهي عن اقتراف الآثام ، وقد نهى عن القرب منها ، وهو أبلغ في التّحذير من النّهي عن ملابستها : لأنّ القرب من الشّيء مظنّة الوقوع فيه ، ولمّا لم يكن للإثم قرب وبعد كان القرب مراداً به الكناية عن ملابسة الإثم أقلّ ملابسة ، لأنَّه من المتعارف أن يقال ذلك في الأمور المستقرة في الأمكنة إذا قيل لا تقرب منها فُهم النّهي عن القرب منها ليكون النّهي عن ملابستها بالأحرى ، فلمّا تعذّر المعنى المطابقي هنا تعيّنت إرادة المعنى الالتزامي بأبلغ وجه .
والفواحش : الآثام الكبيرة ، وهي المشتملة على مفاسد ، وتقدّم بيانها عند قوله تعالى : { إنَّما يأمركم بالسّوء والفحشاء } في سورة البقرة ( 169 ) .
{ وما ظهر منها } ما يظهرونه ولا يسْتَخْفُون به ، مثل الغضب والقذف . { وما بطن } ما يستخْفون به وأكثره الزّنا والسّرقة وكانا فاشيين في العرب .
ومن المفسّرين من فسّر الفواحش بالزّنا ، وجعل ما ظهر منها ما يفعله سفهاؤهم في الحوانيت وديار البغايا ، وبما بطَن اتَّخاذ الأخدان سِرّاً ، وروي هذا عن السُدّي . وروي عن الضحّاك وابن عبّاس : كان أهل الجاهليّة يرون الزّنا سِراً حلالاً ، ويستقبحونه في العلانية ، فحرّم الله الزّنى في السرّ والعلانية . وعندي أن صيغة الجمع في الفواحش ترجح التّفسير الأوّل كقوله تعالى : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } [ النجم : 32 ] . ولعلّ الذي حمل هؤلاء على تفسير الفواحش بالزّنى قوله في سورة الإسراء ( 32 ) في آيات عَدَّدت منهيات كثيرة تشابه آيات هذه السورة وهي قوله : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } وليس يلزم أن يكون المراد بالآيات المتماثلة واحداً .
وتقدّم القول في : { ما ظهر منها وما بطن } عند قوله تعالى : { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } في هذه السّورة ( 120 .
وأعقب ذلك بالنّهي عن قتل النّفس ، وهو من الفواحش على تفسيرها بالأعمّ ، تخصيصاً له بالذّكر : لأنَّه فساد عظيم ، ولأنّه كان متفشياً بين العرب .
والتّعريف في النّفس تعريف الجنس ، فيفيد الاستغراق .
ووصفت { بالتي حَرّم الله } تأكيداً للتّحريم بأنَّه تحريم قديم فإنّ الله حرّم قتل النّفس من عهد آدم ، وتعليق التّحريم بالنّفس : هو على وجه دلالة الاقتضاء ، أي حرّم الله قتلها على ما هو المعروف في تعليق التّحريم والتّحليل بأعيان الذّوات أنَّه يراد تعليقه بالمعنى الذي تستعمل تلك الذّات فيه كقوله : { أحلّت لكم بهيمة الأنعام } [ المائدة : 1 ] أي ، أكلها ، ويجوز أن يكون معنى : { حرم الله } جعلها الله حَرَماً أي شيئاً محترماً لا يعتدى عليه ، كقوله تعالى : { إنَّما أمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة الذي حرمها } [ النمل : 91 ] . وفي الحديث : « وإنِّي أحَرّم ما بين لابَتَيْها » .
وقوله : { إلا بالحق } استثناء مفرّغ من عموم أحوال ملابسة القتل ، أي لا تقتلوها في أيَّة حالة أو بأي سبب تنتحلونه إلاّ بسبب الحقّ ، فالباء للملابسة أو السببيّة .
والحقّ ضدّ الباطل ، وهو الأمر الذي حَقّ ، أي ثبت أنّه غير باطل في حكم الشّريعة وعند أهل العقول السّليمة البريئة من هوى أو شهوة خاصّة ، فيكونُ الأمرَ الذي اتَّفقت العقول على قبوله ، وهو ما اتَّفقت عليه الشّرائع ، أو الذي اصطلح أهل نزعة خاصّة على أنَّه يحقّ وقوعه وهو ما اصطلحت عليه شريعة خاصّة بأمّة أو زمن .
فالتّعريف في : { الحق } للجنس ، والمراد به ما يتحقّق فيه ماهية الحقّ المتقدّم شرحها ، وحيثما أطلق في الإسلام فالمراد به ماهيته في نظر الإسلام ، وقد فصّل الإسلام حقّ قتل النّفس بالقرآن والسنّة ، وهو قتل المحارب والقصاص ، وهذان بنصّ القرآن ، وقتل المرتدّ عن الإسلام بعد استتابَته ، وقتل الزّاني المحصن ، وقتل الممتنع من أداء الصّلاة بعد إنظاره حتّى يخرج وقتها ، وهذه الثّلاثة وردت بها أحاديث عن النّبيء صلى الله عليه وسلم ومنه القتل الناشىء عن إكراه ودفاعٍ مأذونٍ فيه شرعاً وذلك قتل من يُقتل من البغاة وهو بنصّ القرآن ، وقتل من يقتل من مانعي الزّكاة وهو بإجماع الصّحابة ، وأمّا الجهاد فغير داخل في قوله : { إلا بالحق } ، ولكنّ قتل الأسير في الجهاد إذا كان لمصلحة كان حقّاً ، وقد فصلنا الكلام على نظير هذه الآية في سورة الإسراء .
والإشارة بقوله : { ذلكم وصاكم به } إلى مجموع ما ذكر ، ولذلك أفرد اسم الإشارة باعتبار المذكور ، ولو أتى بإشارة الجمع لكان ذلك فصيحاً ، ومنه : { كل أولئك كان عنه مسؤلاً } [ الإسراء : 36 ] .
وتقدّم معنى الوصاية عند قوله : { أم كنتم شهداء إذ وصّاكم الله بهذا } [ الأنعام : 144 ] آنفاً .
وقوله : { لعلكم تعقلون } رجاء أن يعقلوا ، أي يصيروا ذوي عقول لأنّ ملابسة بعض هذه المحرّمات ينبىء عن خساسة عقل ، بحيث ينزّل ملابسوها منزلة من لا يعقل ، فلذلك رُجي أن يعقلوا .
وقوله : { ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } تذييل جعل نهاية للآية ، فأومأ إلى تنهية نوع من المحرّمات وهو المحرّمات الرّاجع تحريمها إلى إصلاح الحالة الاجتماعيّة للأمّة ، بإصلاح الاعتقاد ، وحفظ نظام العائلة والانكفاف عن المفاسد ، وحفظ النّوع بترك التّقاتل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم}، يقول: تعالوا حتى أقرأ ما حرم عليكم، {ألا تشركوا به شيئا} من خلقه، {وبالوالدين إحسانا}، يعني برا بهما، {ولا تقتلوا أولادكم}، يعني دفن البنات وهن أحياء، {من إملاق}، يعني خشية الفقر، {نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش}، يعني الزنا، {ما ظهر منها}، يعني السفاح علانية، {وما بطن}، يعني الزنا في السر تتخذ الخليل، فيأتيها في السر، {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله} قتلها {إلا بالحق}، يعني بالقصاص والثيب الزاني بالرجم، والمرتد عن الإسلام، فهذا الحق، {ذلكم وصاكم به لعلكم}، يعني لكي {تعقلون} أنه لم يحرم إلا ما ذكر في هذه الآيات الثلاث، ولم يحرم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، الزاعمين أن الله حرّم عليهم ما هم محرّموه من حروثهم وأنعامهم، على ما ذكرت لك في تنزيلي عليك: تعالوا أيها القوم أقرأ عليكم ما حرّم ربكم حقّا يقينا، لا الباطل، تخرّصا كخرصكم على الله الكذب والفرية ظنّا، ولكن وحيا من الله أوحاه إليّ، وتنزيلاً أنزله عليّ، ألا تشركوا بالله شيئا من خلقه ولا تعدلوا به الأوثان والأصنام ولا تعبدوا شيئا سواه. "وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا "يقول: وأوصى بالوالدين إحسانا. وحذف «أوصى» وأمر لدلالة الكلام عليه ومعرفة السامع بمعناه، وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى من الكتاب...
"وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِنْ إمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإيّاهُمْ":... ولا تئدوا أولادكم فتقتلوهم من خشية الفقر على أنفسكم بنفقاتهم، فإن الله هو رازقكم وإياهم، ليس عليكم رزقهم، فتخافوا بحياتهم على أنفسكم العجز عن أرزاقهم وأقواتهم. والإملاق: مصدر من قول القائل: أملقت من الزاد، فأنا أُمْلِقُ إملاقا، وذلك إذا فني زاده وذهب ماله وأفلس...
"وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ" يقول تعالى ذكره: ولا تقربوا الظاهر من الأشياء المحرّمة عليكم التي هي علانية بينكم لا تناكرون ركوبها، والباطن منها الذي تأتونه سرّا في خفاء لا تجاهرون به، فإن كلّ ذلك حرام. وقد قيل: إنما قيل لا تقربوا ما ظهر من الفواحش وما بطن، لأنهم كانوا يستقبحون من معاني الزنا بعضا، وليس ما قالوا من ذلك بمدفوع، غير أن دليل الظاهر من التنزيل على النهي عن ظاهر كلّ فاحشة وباطنها، ولا خبر يقطع العذر بأنه عُنى به بعضٌ دون جميع، وغير جائز إحالة ظاهر كتاب الله إلى باطن إلا بحجة يجب التسليم لها...
"وَلا تَقْتُلُوا النّفْسَ التي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بالحَقّ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ" يقول تعالى ذكره: "قُلْ تَعَالُوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أنْ لا تُشرِكُوا بِهِ شَيئْا... وَلا تَقْتُلُوا النّفْسَ التي حرّم الله إلاّ بالحَقّ" يعني بالنفس التي حرّم الله قتلها: نفس مؤمن أو معاهَد. وقوله: إلا بالحَقّ يعني: بما أباح قتلها به من أن تقتل نفسا فتقتل قودا بها، أو تزني وهي محصنة فترجم، أو ترتدّ عن دينها الحقّ فتُقتل، فذلك الحقّ الذي أباح الله جلّ ثناؤه قتل النفس التي حرّم على المؤمنين قتلها به. "ذَلِكُمْ" يعني: هذه الأمور التي عهد إلينا فيها ربنا أن لا نأتيه وأن لا ندعه، هي الأمور التي أوصانا والكافرين بها أن نعمل جميعا به. "لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ" يقول: وصاكم بذلك لعلكم تعقلون ما وصاكم به ربكم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هذه أشياء عشرة تضمنتها هذه الآية أولها الشِرْك فإنه رأس المحرمات، والذي لا يقبل معه شيءٌ من الطاعات، وينقسم ذلك إلى شِرك جَلِيٍّ وشِرْك خَفِيِّ؛ فالجَليُّ عبادةُ الأصنامِ، والخفيُّ ملاحظةُ الأنامِ، بعين استحقاق الإعظام. والثاني من هذه الخصال ترك العقوق، وتوقير الوالدين بحفظ ما يجب من أكيدات الحقوق.
وبعد ذلك قتل الأولاد خشية الإملاق، وإراقة دمائهم بغير استحقاق. ثم ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وما بدا وما استتر، ويدخل في ذلك جميع أقسام الآثام.
ثم قتل النَّفس بغير الحق، وذلك إنما يكون لفقد شفقة الخلق. ثم مجانبة مال اليتيم والنظر إليه بعين التكريم.
ثم بذل الإنصاف في المعاملات والتوقي من جميع التبعات. ثم الصدق في القول والعدل في الفعل.
ثم متابعة السبيل بما تشير إليه لوائح الدليل.
فَمَنْ قابل هذه الأوامر بجميل الاعتناق سعد في داريه وحظي بعظائم منزلته...
والنوع الخامس: قوله: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}. واعلم أن هذا داخل في جملة الفواحش إلا أنه تعالى أفرده بالذكر لفائدتين: إحداهما: أن الإفراد بالذكر يدل على التعظيم والتفخيم، كقوله: {وملائكته وجبريل وميكال} والثانية: أنه تعالى أراد أن يستثني منه، ولا يتأتى هذا الاستثناء في جملة الفواحش...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
...لما كان العقل مناط التكليف قال تعالى: {لعلكم تعقلون} أي فوائد هذا التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا والوصاة الأمر المؤكد المقرر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أبطل دينهم كله أصولاً وفروعاً في التحريم والإشراك، وبين فساده بالدلائل النيرة، ناسب أن يخبرهم بالدين الحق مما حرمه الملك الذي له الخلق والأمر ومن غيره، فليس التحريم لأحد غيره فقال: {قل تعالوا} أي أقبلوا إليّ صاعدين من حضيض الجهل والتقليد وسوء المذهب إلى أوج العلم ومحاسن الأعمال... {أتل} أي أقرأ، من التلاوة وهي اتباع بعض الحروف بعضاً. ولما كان القصد عموم كل أحد بالتلاوة وإنما خص المخاطبين بالذكر لاعتقادهم خلاف ذلك، و كان المحرم أهم، قدمه فقال: {ما حرم ربكم} أي المحسن إليكم بالتحليل والتحريم {عليكم} فسخطه منكم، وما وصاكم به إقداماً وإحطاماً فرضيه لكم من قبيلي الأصول والفروع؛ ثم فسر فعل التلاوة ناهياً عن الشرك، وما بعده من مضمون الأمر إنما عدي عنها، فقال: {ألا تشركوا به شيئاً} الآيات مرتباً جملها أحسن ترتيب، فبدأ بالتوحيد في صريح البراءة من الشرك إشارة إلى أن التخلي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل، فإن التقية بالحمية قبل الدواء، وقرن به البر لأنهما من باب شكر المنعم وتعظيماً لأمر العقوق، ثم أولاه القتل الذي هو أكبر الكبائر بعد الشرك، وبدأه بقتل الولد لأنه أفحشه وأفحش من مطلقه فعله خوف القلة، فلما وصى بأول واجب للمنعم الأول الموجد من العدم، أتبعه ما لأول منعم بعده بالتسبب في الوجود، فقال ناهياً عن الإساءة في صورة الأمر بالإحسان على أوكد وجه لما للنفوس من التهاون في حقهما، وكذا جميع المأمورات ساقها هذا السياق المفهم لأن أضدادها منهي عنها ليكون مأموراً بها منهياً عن أضدادها، فيكون ذلك أوكد لها وأضخم: {وبالوالدين} أي افعلوا بهما {إحساناً}.
ولما أوصى بالسبب في الوجود، نهى عن التسبب في الإعدام وبدأ بأشده فقال: {ولا تقتلوا أولادكم} ولما كان النهي عاماً، وكان ربما وجب على الولد قتل، خص لبيان الجهة فقال: {من إملاق} أي من أجل فقر حاصل بكم، ثم علل ذلك، ولأجل أن الظاهر هو حصول الفقر قدم الآباء فقال: {نحن نرزقكم} بالخطاب، أي أيها الفقراء، ثم عطف عليه الأبناء فقال: {وإياهم} وظاهر قوله في الإسراء
{خشية إملاق} [الإسراء: 31] أن الآباء موسرون ولكنهم يخشون من إطعام الأبناء الفقر، فبدأ بالأولاد فقال:"نحن نرزقهم" ثم عطف الآباء فقال "وإياكم "-نبه عليه أبو حيان.
ولما كان قتلهم أفحش الفواحش بعد الشرك، أتبعه النهي عن مطلق الفواحش، وهي ما غلظت قباحته، وعظم أمرها بالنهي عن القربان فضلاً عن الغشيان فقال: {ولا تقربوا الفواحش} ثم أبدل منها تأكيداً للتعميم قوله: {ما ظهر منها} أي الفواحش {وما بطن} ثم صرح منها بمطلق القتل تعظيماً له بالتخصيص بعد التعميم فقال: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله} أي الملك الأعلى عليكم قتلها {إلا بالحق} أي الكامل، ولا يكون كاملاً إلا وهو كالشمس وضوحاً لا شبهة فيه، فصار قتل الولد منهياً عنه ثلاث مرات؛ ثم أكد المذكور بقوله: {ذلكم} أي الأمر العظيم في هذه المذكورات.
ولما كانت هذه الأشياء شديدة على النفس، ختمها بما لا يقوله إلا المحب الشفوق ليتقبلها القلب فقال: {وصّاكم به} أمراً ونهياً؛ ولما كانت هذه الأشياء لعظيم خطرها وجلالة وقعها في النفوس لا تحتاج إلى مزيد فكر قال: {لعلكم تعقلون *} أي لتكونوا على رجاء من المشي على منهاج العقلاء، فعلم من ذكر الوصية أن هذه المذكورات هي الموصى بها والمحرمات أضدادها، فصار شأنها مؤكداً من وجهين: التصريح بالتوصية بها، والنهي عن أضدادها.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بين تعالى فيما قبل هذه الآيات حجته البالغة على المشركين الذين حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه عليهم ربهم ودحض شبهتهم التي احتجوا بها على شركهم به وافترائهم عليه بعد أن بين لهم جميع ما حرمه على عباده من الطعام ثم بين في هذه الآيات أصول المحرمات ومجامعها في الأعمال والأقوال وما يقابلها من أصول الفضائل والبر.
{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} أي قل أيها الرسول لهؤلاء المتبعين للخرص والتخمين في دينهم، وللهوى فيما يحرمون ويحللون لأنفسهم ولسائر الناس أيضا بما لك من الرسالة العامة: تعالوا إلي وأقبلوا علي وأقرأ لكم ما حرم ربكم عليكم فيما أوحاه إلي من العلم الصحيح وحق اليقين، فإن الرب وحده هو الذي له حق التحريم والتشريع، وإنما أنا مبلغ عنه بإذنه، أرسلني لذلك وعلمني على أميتي ما لم أكن أعلم وأيدني بالآيات البينات. وقد خص التحريم بالذكر مع أن الوصايا التي بين بها التلاوة أعم لمناسبة ما سبق من إنكار أن يحرم غير الله ولأن بيان أصول المحرمات كلها يستلزم حل ما عداها لأنه الأصل وقد صرح بأصول الواجبات من هذا الحلال العام.
وأصل (تعالوا) و (تعال) الأمر ممن كان في مكان عال لمن دونه بأن يتعالى ويصعد إليه، ثم توسعوا فيه فاستعملوه في الأمر ممن في مكان عال لمن دونه بأنه يتعالى ويصعد إليه، ثم توسعوا فيه فاستعملوه في الأمر في الإقبال مطلقا. واستعمال المقيد في المطلق من ضروب المجاز المرسل إلا إذا كثر فلم يحتج إلى قرينة ولم ينظر فيه إلى علاقة كهذه الكلمة ولا سيما في غير هذا الموضع ولهي فيه خطاب ممن هو في أعلى مكان من العلم والهدى لمن هم في أسفل درك من الجهل والضلال، عبدة الأصنام، ومتبعي الظنون والأوهام.
وقوله: {أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} شروع في بيان ما حرم الرب وما أوصى به من البر، وقد أورد بعضه بصيغة النهي عن الشيء وبعضه بصيغة الأمر بضده حسب ما تقتضيه البلاغة كما سيأتي. وأن تفسيرية وندع النحاة في اضطرابهم وخلافهم في تطبيق ما في حيزها من النهي والأمر على قواعدهم، فنحن لا يعنينا إلا فهم المعاني من الكلام بغير تكلف، وما وافق القرآن من قواعدهم كان صحيحا مطردا وما لم يوافقه فهو غير صحيح أو غير مطرد، وسنريك فيه من البيان ما يغنيك عن تحقيق السعد وحل إشكالات أبي حيان.
بدأ تعالى هذه الوصايا بأكبر المحرمات وأفظعها وأشدها إفسادا للعقل والفطرة وهو الشرك بالله تعالى سواء كان باتخاذ الأنداد له أو الشفعاء المؤثرين في إرادته المصرفين لها في الأعمال وما يذكر بهم من صور وتماثيل وأصنام أو قبور أو كان باتخاذ الأرباب الذين يشرعون الأحكام، ويتحكمون في الحلال والحرام وكذا من يسند إليهم التصرف الخفي فيما وراء الأسباب، وكل ذلك واضح من الآيات السابقة وتفسيرها. وتقدير الكلام: أول ما أتلوه عليكم في بيان هذه المحرمات وما يقابلها من الواجبات، أو أول ما وصاكم به تعالى من ذلك كما يدل عليه لاحق الكلام، هو أن لا تشركوا بالله شيئا من الأشياء وإن كانت عظيمة في الخلق كالشمس والقمر والكواكب، أو عظيمة في القدر كالملائكة والأنبياء والصالحين، فإنما عظم الأشياء العاقلة وغير العاقلة بنسبة بعضها إلى بعض، وذلك لا يخرجها عن كونها من خلق الله ومسخرة بقدرته وإرادته وعن كون العاقل منها من عبيده {إن كل من في السماوات والأرض إلا أتي الرحمن عبدا} (مريم93) أو أن لا تشركوا به شيئا من الشرك صغيره أو كبيره، ومقابله أن تعبدوه وحده بما شرعه لكم على لسان رسوله لا بأهوائكم، ولا بأهواء أحد من الخلق أمثالكم، وهذا هو المقصود بالذات الذي دعا إليه جميع الرسل، وهو لازم للنهي عن الشرك الذي عبر به هنا لأن الخطاب موجه إلى المشركين أولا وبالذات.
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي والثاني مما أتلوه عليكم أو مما وصاكم به ربكم أن تحسنوا بالوالدين إحسانا تاما كاملا لا تدخرون فيه وسعا، ولا تألون فيه جهدا، وهذا يستلزم ترك الإساءة وإن صغرت فكيف بالعقوق المقابل لغاية الإحسان وهو من أكبر كبائر المحرمات. وقد تكرر في القرآن القران بين التوحيد والنهي عن الشرك وبين الأمر بالإحسان للوالدين. وتقدم بعضه في سورة البقرة والنساء وسيأتي أوسع تفصيل فيه في وصايا سورة الإسراء (أو بني إسرائيل) التي بمعنى هذه الوصايا في هذه السورة وفيه النهي عن قول أف لهما. وقد اختير في هذه الآية وأمثالها الأمر بالواجب من الإحسان على النهي عن مقابلة المحرم وهو الإساءة مطلقا للإيذان بأن الإساءة إليهما ليس من شأنها أن تقع فيحتاج إلى التصريح بالنهي عنها في مقام الإيجاز لأنها خلاف ما تقتضي الفطرة السليمة والآداب المرعية عند جميع الأمم.
وقد سبق في تفسير مثل الجملة أن الإحسان يتعدى بالباء وإلى فيقال أحسن به وأحسن إليه، والأول أبلغ، فهو بالوالدين وذي القربى أليق، لأن من أحسنت به هو من يتصل به برك وحسن معاملتك ويلتصق به مباشرة على مقربة منك وعدم انفصال عنك وأما من أحسنت إليه فهو الذي تسدي إليه برك ولو على بعد أو بالواسطة إذ هو شيء يساق إليه سوقا. ولم ترد هذه التعدية في التنزيل إلا في تعبيرين في مقامين: أحدهما: التعبير بالفعل حكاية عن يوسف عليه السلام في سورته وهو قوله لأبيه وإخوته: {هذا تأويل رؤاي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذا أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو} (يوسف 100) والثاني: التعبير بالمصدر المفيد للتأكيد والمبالغة في مقام الإحسان بالوالدين في أربع سور البقرة والنساء؛ وقد عطف فيهما ذو القربى على الوالدين بالتبع، والأنعام والإسراء. وفي سورة الأحقاف: {ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا} (الأحقاف 15) كما قرأه الكوفيون من السبعة وقرأه الباقون (حسنا) كآية سورة العنكبوت التي رويت كلمة إحسانا فيها من الشواذ. والظاهر أن الباء فيهما متعلقة بوصينا.
ولو لم يرد في التنزيل إلا قوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا} ولو غير مكرر لكفى في الدلالة على عظم عناية الشرع بأمر الوالدين بما تدل عليه الصيغة والتعدية، فكيف وقد قرنه بعبادته وجعله ثانيها في الوصايا وأكده بما أكده به في سورة الإسراء، كما قرن شكرهما بشكره في وصية سورة لقمان: {أن أشكر لي ولوالديك} (لقمان 14) وورد في معنى التنزيل عدة أحاديث نكتفي منها بحديث عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) في الصحيحين والترمذي والنسائي قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال:"الصلاة على وقتها" وفي رواية لوقتها قلت ثم أي؟ قال: "بر الوالدين "قلت ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" 212 فقدم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله الذي هو أكبر الحقوق العامة على الإنسان. ذلك كله بأن حق الوالدين على الولد أكبر من جميع حقوق الخلق عليه، وعاطفة البنوة ونعرتها من أقوى غرائز الفطرة، فمن قصر في بر والديه والإحسان بهما كان فاسد الفطرة مضياعا للحقوق كلها فلا يرجى منه خير لأحد.
وقد بالغ بعض العلماء في الكلام على بر الوالدين حتى جعلوا من مقتضى الوصية بهما أن يكون الولد معهما كالعبد الذليل مع السيد القاسي الظالم، وقد أطمعوا بذلك الآباء الجاهلين المريضي الأخلاق حتى جروا ذا الدين منهم على أشد مما يتجرأ عليه ضعفاء الدين من القسوة على الأولاد وإهانتهم وإذلالهم وهذا مفسدة كبيرة لتربية الأولاد في الصغر وإلجاء لهم إلى العقوق في الكبر، وإلى ظلم أولادهم كما ظلمهم آباؤهم وحينئذ يكونون من أظلم الناس للناس، وقد فصلنا القول في ظلم الوالدين للأولاد وتحكمهما في شؤونهم ولا سيما تزويجهم بمن يكرهون في تفسير آية النساء (ج 5 تفسير) وكم أفسدت الأمهات بناتهن على أزواجهن. والصواب أنه يجب على الوالدين تربية الأولاد على حبهما واحترامهما احترام المحبة والكرامة لا احترام الخوف والرهبة. وسنفصل ذلك في تفسير آيات سورة الإسراء إن أحيانا الله تعالى ووفقنا.
{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} أي والثالث مما أتلوه عليكم مما وصاكم به ربكم أن لا تقتلوا أولادكم الصغار من فقر واقع بكم لئلا تروهم جياعا في حجوركم. فإنه هو الذي يرزقكم وإياهم أي ويرزقهم بالتبع لكم فالجملة تعليل للنهي. وسيأتي في سورة الإسراء {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم} الإسراء 31) فقدم رزق الأولاد هنالك على رزق الوالدين عكس ما هنا لأنه متعلق بالفقر المتوقع في المستقبل الذي يكون الأولاد فيه كبارا كاسبين وقد يصير الوالدان في حاجة إليهم لعجزهم عن الكسب بالكبر. ففرق في تعليل النهي في الآيتين بين الفقر الواقع والفقر المتوقع فقدم في كل منهما ضمان رزق الكاسب للإشارة إلى أنه تعالى جعل كسب العباد سببا للرزق خلافا لمن يزهدونهم في العمل بشبهة كفالته تعالى لرزقهم. وقد ذكرنا هذه النكتة من بلاغة القرآن في تفسير {وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} الأنعام 137} (ج 8 تفسير).
{وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} أي والرابع مما أتلوه عليكم من وصايا ربكم أن لا تقربوا ما عظم قبحه من الأفعال والخصال كالزنا واللواط وقذف المحصنات ونكاح أزواج الآباء. وكل منها سمي في التنزيل فاحشة فهو مما ثبتت شدة قبحه شرعا وعقلا، ولذلك يستتر بفعل الأولين أكثر الذين يقترفونهما وقلما يجاهر بهما إلا المستولغ من الفساق الذي لا يبالي ذما ولا عارا إذا كان مع مثله، وهو يتبرأ منهما لدى خيار الناس وفضلائهم...
وما تقدم في تفسير {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} (الأنعام 120) من الوجوه في ظاهره وباطنه يأتي مثله هنا فيراجع في تفسير الآية 119 من هذه السورة وهذا الجزء، إلا أن الإثم أعم من الفاحشة لأنه يشمل كل ضار من الصغائر والكبائر فحش قبحه أو لا، لذلك قال تعالى في صفة المحسنين من سورة النجم: {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} (النجم 32) وقال في آية الأعراف: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (الأعراف 33) قيل إنها جمعت أصول المحرمات الكلية وهي على الترقي في قبحها كما سيأتي في تفسيرها. وفي حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا "لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن" رواه الشيخان في صحيحيهما.
{وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي والخامس مما أتلوه عليكم من وصايا ربكم أن لا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها بالإسلام أو عقد الذمة أو العهد أو الاستئمان فيدخل في عمومها كل أحد إلا الحربي. وقوله إلا بالحق هو ما يبيح القتل شرعا كقتل القاتل عمدا بشرطه. ويطلق العهد على الثلاثة. ومنه ما ورد في النهي عن قتل المعاهد وإيذائه كقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما" رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر "رض" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسين خريفا" رواه الترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجه من حديث أبي هريرة. وقوله: "إلا بالحق" هو ما يبيح القتل شرعا كقتل القاتل عمدا بشرطه.
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} الإشارة إلى الوصايا الخمس التي تليت في هذه الآية. واللام فيها للدلالة على بعد مدى ما تدل عليه الوصايا المشار إليها من الحكم والأحكام والمصالح الدنيوية والأخروية، أو بعدها عن متناول أوضاع الجهل والجاهلية ولا سيما مع الأمية. والوصية ما يعهد إلى الإنسان أن يعمله من خير أو ترك شر بما يرجى تأثيره، ويقال أوصاه ووصاه. وجعلها الراغب عبارة عما يطلب من عمل مقترنا بوعظ. وأصل معنى وصى الثلاثي وصل، ومواصاة الشيء مواصلته وهو خاص بالنافع كالمطر والنبات. يقال وصى النبت اتصل وكثر، وأرض واصية النبات...
أي وصاكم الله بذلك لما فيه من إعدادكم وباعث الرجاء في أنفسكم لأن تعقلوا ما فيه الخير والمنفعة في ترك ما نهى عنه وفعل ما أمر به، فإن ذلك مما تدركه العقول الصحيحة بأدنى تأمل. وفيه دليل على الحس الذاتي وإدراك العقول بنظرها، وإذا هي عقلت ذلك كان عاقلا لها ومانعا من المخالفة. وفيه تعريض بأن ما هم عليه من الشرك وتحريم السوائب وغيرها مما لا تعقل له فائدة، ولا تظهر للأنظار الصحيحة فيه مصلحة.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
.. ختمت "سورة الأنعام "التي تعتبر بمنزلة الأم لكل ما نزل بعدها بمكة من القرآن الكريم، جولتها الحاسمة ضد معتقدات المشركين وبدعهم الضالة، بعدما أصلتها نارا حامية من حجج الله البالغة، فتناثرت أشلاؤها، وتبخرت أهواؤها، وبرزت عقائد الشرك على حقيقتها سفها لا يلحقه سفه، وبلها لا يعدله بله، على حد ما قاله ابن عباس رضي الله عنه، فجاء هذا الربع الأخير من سورة الأنعام بخلاصة الخلاصة ولب اللباب، وبما يشبه ذلك الحساب، يوضح خصائص الملة الإسلامية، ويجمل مبادئها النظرية والعلمية، ويحدد معالمها الاعتقادية والأخلاقية، وذلك في شكل وصايا إلهية لقنها الحق سبحانه وتعالى لرسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم، وأمره بتلقينها لأمته من بعده وتبليغها للناس كافة، حتى يهتدوا بهديها، ويعوضوا ما هو شر وأذى من عقائد الشرك وبدعه، بما هو خير وأبقى من عقائد الإسلام وبدائعه، {ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} – {وذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} – {ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}. ولهذا المعنى قال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه، فليقرأ هؤلاء الآيات {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا} إلى قوله تعالى {لعلكم تتقون}. ورعيا للتناسب مع السياق الذي كانت عليه الآيات الكريمة في الربعين الماضيين، وهو سياق ما حرمته الجاهلية على نفسها من الحرث والأنعام، مما سفه وأبطله الإسلام، ابتدأ هذا الربع بقوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} أي قل يا محمد للمشركين إذا أردتم أن تعرفوا ما هو حرام عليكم، عن علم وبينة، وعلى هدى من الوحي الإلهي الصحيح، فتعالوا لتسمعوا كلام الله الجامع المانع، وتعرفوا ما هو أساس الحرام وأصله، وما هو الحرام الذي لا حرام يعدله ولا حرام يفوقه، ألا وهو الشرك، وها هو الحق سبحانه وتعالى: يوصيكم قبل كل شيء {ألا تشركوا به شيئا} فالشرك هو أب الحرام، والشرك هو منبع الحرام، والشرك هو الكمامة التي يضعها الشيطان على عين الإنسان وعقله وقلبه، فيقتاده كالبهيمة العجماء، ويوسوس إليه بما يشاء، ويسخره لما يشاء، ولولا الشرك لما نشأ عند المشركين هذا النظام الفوضوي الفاسد، ولا نشأت عندهم هذه التقاليد الاجتماعية السخيفة، ولا ثبتت في عقولهم هذه الأفكار الطفيلية الوضيعة، فالشرك هو علة العلل في الفساد الاعتقادي والأخلاقي والاجتماعي، ولا دواء له إلا عقيدة التوحيد الإسلامية، التي تحرر الفكر والعقل من سيطرة الخيالات والأحلام، وتحرر القلب والنفس من سيطرة الأهواء والأوهام، وتعرف الإنسان بوضعه الطبيعي الصحيح بين سلسلة المخلوقات، وبعلاقته الطبيعية مع الكون والمكون، والخلق والخالق، فينطلق لأداء رسالته متحررا من جميع العقد النفسية، واثقا من نفسه وواثقا بالعناية الإلهية {إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. وبعدما حدد كتاب الله المحرمات وقصرها في هذا السياق على الشرك وحده، باعتبار أن الشرك هو أب المحرمات ومنبعها الأساسي، كما أن الخمر هي "أم الخبائث" ابتدأ يعرض جملة من الوصايا الإلهية التي لا يقوم الإسلام بدونها. فأشار إلى حقوق الوالدين وما يجب على الأولاد لهما من معاملة كريمة و {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} كما أشار إلى حقوق الأولاد وما يجب على آبائهم من تضحية في سبيلهم، وبين كتاب الله أن نزول الفقر والإملاق بالوالدين لا ينبغي أن يكون مبررا لقتل ما ولد لهم من الأولاد وسفك دمائهم، كما كان يفعل بعض المشركين بأولادهم عندما يصيبهم الفقر والإملاق {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم} فالله تعالى يتكفل برزق الوالدين الفقراء كما يتكفل برزق أولادهم، وهذه الوصية الإلهية مرتبطة بصالح الأسرة كل الارتباط، وهي دعوة صريحة إلى وجوب التكافل فيما بينها: تكافل الأولاد مع الوالدين، وتكافل الوالدين مع الأولاد، بحيث يكون كل من الطرفين في خدمة الآخر، مسرعا في كل وقت إلى معونته، مستعدا للتضحية في سبيله ونجدته دائما، وكذلك قوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم}. ومن لطائف التفسير في هذا المقام ما لاحظه ابن كثير رحمه الله من الفرق بين هذه الآية {نحن نرزقكم وإياهم} بتقديم رزق الآباء على الأبناء، والآية الأخرى الواردة في سورة الإسراء {نحن نرزقهم وإياكم} بتقديم رزق الأولاد على الآباء، وهو أن الآية الوردة في هذا الربع تتحدث عن الآباء الفقراء فعلا، فجاء قوله تعالى: نحن نرزقكم وإياهم} بتقديم رزق الآباء على رزق الأولاد، لأنه هو الأهم هنا في السياق، بخلاف الآية الأخرى الواردة في سورة الإسراء، فقد جاء فيها {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} مما يدل على أن الآباء غير فقراء فعلا، وإنما يخشون الفقر بسبب الأولاد، فأمروا بأن لا يقتلوا أولادهم، خوفا من الفقر الذي يمكن أن يحدث لهم في مستقبل الأيام، ثم جاء التعقيب عليها بقوله تعالى: {نحن نرزقهم وإياكم} أي نحن نرزق أولئك الأولاد كما نرزقكم، وكان البدء هنا برزق الأولاد للاهتمام بهم، حيث إن رزقهم هو محور الحديث، أي لا تخافوا من فقركم بسبب رزقهم، فرزقهم على الله لا عليكم. وانتقل كتاب الله من وصية الخاصة بالأسرة المسلمة إلى وصايا أخرى تتعلق بالمجتمع الإسلامي، والدولة الإسلامية على العموم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنّ الشرك منهجٌ متكاملٌ، يحدّد للإنسان طريقته في التفكير، وفي السلوك، وفي أسلوب الحياة، وممارسته للمسؤوليّة، وتصوره للكون وللحياة، ولله وللناس، وهو منهج لا يدعو إلى الاستقرار بل يبعث على القلق. ولذلك أراد الله للناس أن يبتعدوا عنه، لأنه يمثل الخط الذي يبعدهم عن الحقيقة، ويساهم في تعقيد حياتهم، وتضييعها وتمييعها في أكثر من لونٍ وأكثر من صعيد. أمّا التوحيد، فيمثل وحدة الله والحقيقة والهدف، وجميع الوسائل التي تربط الإنسان بالهدف، إنه منهج الاستقامة الذي يربط بين البداية والنهاية في اتجاهٍ واحدٍ، ليس هناك إلا وحيٌ واحدٌ، يستمدُّ الإنسان منه منهج التفكير، وليس هناك إلا إله واحدٌ يتجه إليه في العبادة وفي الطاعة، ويستعين به في كل شيء، وبذلك يعرف الإنسان نفسه وربّه، ويعرف من خلال ذلك كيف يواجه مسؤوليته في الحياة وكيف يحدد دوره في حركة الأمّة الواحدة في بناء الكون على هدى الله ووحيه. وبذلك كان الشرك ظلماً لله وللناس وللحياة، وكان جريمة لا يغفرها الله، لأنها فوق الجرائم كلها في الخطورة...