قال نوح : { يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } أي : بيان من ربي { وآتاني رحمة } ، أي : هدى ومعرفة ، { من عنده فعميت عليكم } ، أي : خفيت والتبست عليكم . وقرأ حمزة و الكسائي وحفص : { فعميت عليكم } بضم العين وتشديد الميم ، أي : شبهت ولبست عليكم . { أنلزمكموها } ، أي : أنلزمكم البينة والرحمة ، { وأنتم لها كارهون } ، لا تريدونها . قال قتادة : لو قدر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يلزموا قومهم الإيمان لألزموهم ولكن لم يقدروا .
ولهذا { قَالَ } لهم نوح مجاوبا { يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } أي : على يقين وجزم ، يعني ، وهو الرسول الكامل القدوة ، الذي ينقاد له أولو الألباب ، ويضمحل في جنب عقله ، عقول الفحول من الرجال ، وهو الصادق حقا ، فإذا قال : إني على بينة من ربي ، فحسبك بهذا القول ، شهادة له وتصديقا .
{ وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ } أي : أوحى إلي وأرسلني ، ومنَّ علي بالهداية ، { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي : خفيت عليكم ، وبها تثاقلتم .
{ أَنُلْزِمُكُمُوهَا } أي : أنكرهكم على ما تحققناه ، وشككتم أنتم فيه ؟ { وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } حتى حرصتم على رد ما جئت به ، ليس ذلك ضارنا ، وليس بقادح من يقيننا فيه ، ولا قولكم وافتراؤكم علينا ، صادا لنا عما كنا عليه .
وإنما غايته أن يكون صادا لكم أنتم ، وموجبا لعدم انقيادكم للحق الذي تزعمون أنه باطل ، فإذا وصلت الحال إلى هذه الغاية ، فلا نقدر على إكراهكم ، على ما أمر الله ، ولا إلزامكم ، ما نفرتم عنه ، ولهذا قال : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ }
{ قَالَ يا قوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي . . . }
أى : قال نوح - عليه السلام - فى رده على الملأ الذين كفروا من قومه : { قَالَ ياقوم } أى : يا أهلى وعشيرتى الذين يسرنى ما يسرهم ويؤلمنى ما يؤلمهم .
{ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي } أى : اخبرونى إن كنت على بصيرة من أمرى ، وحجة واضحة من ربى ، بها يتبين الحق من الباطل .
{ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } أى : ومنحنى بفضله وإحسانه النبوة التى هى طريق الرحمة لمن آمن بها ، واتبع من اختاره الله لها . فالمراد بالرحمة هنا النبوة { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أى : فأخفيت عليكم هذه الرحمة ، وغاب عنكم الانتفاع بهداياتها ، لأنكم ممن استحب العمى على الهدى .
يقال : عُمِّى على فلان الأمر : أى أخفى عليه حتى صار بالنسبة إليه كالأعمى قال صاحب المنار : قرأ الجمهور فعميت - بالتخفيف - كخفيت وزنا ومعنى . قال - تعالى - { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ } وقرأ حمزة والكسائى وحفص بالتشديد والبناء للمفعول { فَعُمِّيَتْ } أى : فحجبها عنكم جهلكم وغروركم . .
والتعبير بعميت مخففة ومشددة أبلغ من التعبير بخفيت وأخفيت ، لأنه مأخوذ من العمى المقتضى لأشد أنواع الخفاء .
والاستفهام فى قوله : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } للإِنكار والنفى .
أى : إذا كانت الهداية إلى الخير التى جئتكم بها قد خفيت عليكم مع وضوحها وجلائها ، فهل استطيع أنا وأتباعى أن نجبركم إجبارا ، ونقسركم قسرا على الإِيمان بى ، وعلى التصديق بنبوتى ، والحال أنكم كارهون لها نافرون منها .
كلا إننا لا نستطيع ذلك لأن الإِيمان الصادق يكون عن اقتناع واختيار لا عن إكراه وإجبار .
قال صاحب الظلال ما ملخصه : واللفظ فى القرآن قد يرسم بجرسه صورة كاملة للتناسق الفنى بين الألفاظ ، ومن أمثله ذلك قوله - تعالى - فى قصة نوح مع قومه { أَنُلْزِمُكُمُوهَا . . . } فأنت تحس أن كلمة انلزمكموها تصور جو الإِكراه ، بإدماج كل هذه الضمائر فى النطق ، وشد بعضها إلى بعض كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون ، ويشدون إليه وهم نافرون ، وهكذا يبدولون من التناسق فى التعبير أعلى من البلاغة الظاهرية ، وأرفع من الفصاحة اللفظية .
يقول تعالى مخبرًا عن نوح ما ردَّ على قومه في ذلك : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } أي : على يقين وأمر جلي ، ونبوة صادقة ، وهي الرحمة العظيمة من الله به وبهم ، { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي : خفيت عليكم ، فلم تهتدوا إليها ، ولا عرفتم قدرها ، بل بادرتم إلى تكذيبها وردها ، { أَنُلْزِمْكُمُوهَا } أي : نَغْضبكم{[14570]} بقبولها وأنتم لها كارهون .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيّنَةٍ مّن رّبّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مّنْ عِندِهِ فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح لقومه إذ كذبوه وردّوا عليه ما جاءهم به من عند الله من النصيحة : يا قَوْمِ أرأيْتُمْ إنْ كُنْتُ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي على علم ومعرفة وبيان من الله لي ما يلزمني له ، ويجب عليّ من إخلاص العبادة له وترك إشراك الأوثان معه فيها . وآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ يقول : ورزقني منه التوفيق والنبوّة والحكمة ، فآمنت به وأطعته فيما أمرني ونهاني . فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض أهل البصرة والكوفة : «فَعَمِيَتْ » بفتح العين وتخفيف الميم ، بمعنى : فعميت الرحمة عليكم فلم تهتدوا لها فتقروا بها وتصدقوا رسولكم عليها . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ بضمّ العين وتشديد الميم ، اعتبارا منهم ذلك بقراءة عبد الله ، وذلك أنهما فيما ذكر في قراءة عبد الله : «فعماها عليكم » .
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه : فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ بضمّ العين وتشديد الميم للذي ذكروا من العلة لمن قرأ به ، ولقربه من قوله : أرأيْتُمْ إنْ كُنْتُ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبيّ وآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فأضاف الرحمة إلى الله ، فكذلك تعميته على الاَخرين بالإضافة إليه أولى . وهذه الكلمة مما حوّلت العرب الفعل عن موضعه ، وذلك أن الإنسان هو الذي يَعْمَى عن إبصار الحقّ ، إذ يَعْمى عن إبصاره ، والحقّ لا يوصف بالعَمَى إلا على الاستعمال الذي قد جري به الكلام ، وهو في جوازه لاستعمال العرب إياه نظير قولهم : دخل الخاتم في يدي ، والخفّ في رجلي ، ومعلوم أن الرجل هي التي تدخل في الخفّ ، والأصبع في الخاتم ، ولكنهم استعملوا ذلك كذلك لما كان معلوما المراد فيه .
وقوله : أنُلْزِمُكْمُوها وأنْتُمْ لَهَا كارِهُونَ يقول : أنأخذكم بالدخول في الإسلام وقد عماه الله عليكم ، لها كَارِهُونَ يقول : وأنتم لإلزامناكموها كارهون ، يقول : لا نفعل ذلك ، ولكن نكل أمركم إلى الله حتى يكون هو الذي يقضي في أمركم ما يرى ويشاء .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال نوح : يا قَوْمِ إنْ كُنْتُ عَلَى بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي قال : قد عرفُتها وعرفتُ بها أمره وأنه لا إله إلا هو ، وآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنَدِهِ : الإسلام والهدى والإيمان والحكم والنبوّة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أرأيْتُمْ إنْ كُنْتُ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي . . . الآية ، أما والله لو استطاع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه ، ولكن لم يستطع ذلك ولم يملكه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان ، عن داود ، عن أبي العالية ، قال : في قراءة أبيّ : «أنلزُمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، قال : أخبرنا عمرو بن دينار قال : قرأ ابن عباس : «أنلزمكموها من شطر أنفسنا » قال عبد الله : مِنْ شَطْرِ أنفسنا : من تلقاء أنفسنا .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس مثله .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب : أنلزمكموها من شطر قلوبنا وأنتم لها كارهون .
{ قال يا قوم أرأيتم } أخبروني . { إن كنت على بينة من ربّي } حجة شاهدة بصحة دعواي . { وآتاني رحمة من عنده } بإيتاء البينة أو النبوة . { فعُمّيت عليكم } فخفيت عليكم فلم تهدكم وتوحيد الضمير لأن البينة في نفسها هي الرحمة ، أو لأن خفاءها يوجب خفاء النبوة ، أو على تقدير فعميت بعد البينة وحذفها للاختصار أو لأنه لكل واحدة منهما . وقرأ حمزة والكسائي وحفص { فعميت } أي أخفيت . وقرئ " فعماها " على أن الفعل لله . { أنُلزمُكموها } أنكرهكم على الاهتداء بها . { وأنتم لها كارهون } لا تختارونها ولا تتأملون فيها ، وحيث اجتمع ضميران وليس أحدهما مرفوعا وقدم الأعرف منهما جاز في الثاني الفصل والوصل .