151- قل لهم - يا أيها النبي - تعالوا أبيِّن لكم المحرمات التي ينبغي أن تهتموا بها وتبتعدوا عنها : لا تجعلوا لله شريكاً ما ، بأي نوع كان من أنواع الشرك ، ولا تسيئوا إلى الوالدين ، بل أحسنوا إليهما إحساناً بالغاً ، ولا تقتلوا أولادكم بسبب فقر نزل بكم ، أو تخشون نزوله في المستقبل ، فلستم أنتم الرازقين ، بل نحن الذين نرزقكم ونرزقهم ، ولا تقربوا الزنا فهو من الأمور المتناهية في القبح ، سواء منها ما ظهر للناس حين إتْيانه ، وما لم يطلع عليه إلا الله ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها لعدم موجبه ، إلا إذا كان القتل بحق تنفيذاً لحكم القضاء . أمركم الله أمراً مؤكداً باجتناب هذه المنهيّات التي تقضى بديهة العقل بالبعد عنها ، لتعقلوا ذلك .
قوله تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا } ، وذلك أن المشركين سألوا وقالوا : أي شيء الذي حرم الله تعالى ؟ فقال عز وجل : { قل تعالوا أتل } أقرأ { ما حرم ربكم عليكم } حقاً ويقيناً ، لا ظناً وكذباً كما تزعمون . فإن قيل : ما معنا قوله : { حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا } والمحرم هو الشرك لا ترك الشرك ؟ قيل : موضع ( أن ) رفع ، معناه : هو أن لا تشركوا ، وقيل : محله نصب ، واختلفوا في وجه انتصابه ، قيل : معناه حرم عليكم أن تشركوا ، و( لا ) صلة كقوله تعالى { ما منعك أن لا تسجد } [ الأعراف :12 ] ، أي : منعك أن تسجد . وقيل : تم الكلام عند قوله { حرم ربكم } ثم قال : { عليكم أن لا تشركوا به شيئاً } على وجه الإغراء . قال الزجاج : يجوز أن يكون هذا محمولاً على المعنى ، أي : أتل عليكم تحريم الشرك ، وجائز أن يكون على معنى : أوصيكم ألا تشركوا .
قوله تعالى : { وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } ، فقر .
قوله تعالى : { نحن نرزقكم وإياهم } ، أي : لا تئدوا بناتكم خشية العيلة ، فإني رازقكم وإياهم .
قوله تعالى : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } ، ما ظهر يعني : العلانية ، وما بطن ، يعني السر ، وكان أهل الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأساً في السر فحرم الله تعالى الزنا في العلانية والسر . وقال الضحاك : ما ظهر الخمر ، وما بطن الزنا .
قوله تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ، حرم الله تعالى قتل المؤمن ، والمعاهد ، إلا بالحق ، إلا بما يبيح قتله من ردة ، أو قصاص ، أو زنا يوجب الرجم . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، ثنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري ، ثنا حاجب بن أحمد الطوسي ، ثنا محمد بن حماد ، ثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) .
قوله تعالى : { ذلكم } الذي ذكرت .
{ 151 - 153 } { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } لهؤلاء الذين حرموا ما أحل الله . { تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } تحريما عاما شاملا لكل أحد ، محتويا على سائر المحرمات ، من المآكل والمشارب والأقوال والأفعال . { أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } أي : لا قليلا ولا كثيرا .
وحقيقة الشرك بالله : أن يعبد المخلوق كما يعبد الله ، أو يعظم كما يعظم الله ، أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية والإلهية ، وإذا ترك العبد الشرك كله صار موحدا ، مخلصا لله في جميع أحواله ، فهذا حق الله على عباده ، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا .
ثم بدأ بآكد الحقوق بعد حقه فقال : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } من الأقوال الكريمة الحسنة ، والأفعال الجميلة المستحسنة ، فكل قول وفعل يحصل به منفعة للوالدين أو سرور لهما ، فإن ذلك من الإحسان ، وإذا وجد الإحسان انتفى العقوق .
{ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ } من ذكور وإناث { مِنْ إِمْلَاقٍ } أي : بسبب الفقر وضيقكم من رزقهم ، كما كان ذلك موجودا في الجاهلية القاسية الظالمة ، وإذا كانوا منهيين عن قتلهم في هذه الحال ، وهم أولادهم ، فنهيهم عن قتلهم لغير موجب ، أو قتل أولاد غيرهم ، من باب أولى وأحرى .
{ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } أي : قد تكفلنا برزق الجميع ، فلستم الذين ترزقون أولادكم ، بل ولا أنفسكم ، فليس عليكم منهم ضيق . { وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ } وهي : الذنوب العظام المستفحشة ، { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } أي : لا تقربوا الظاهر منها والخفي ، أو المتعلق منها بالظاهر ، والمتعلق بالقلب والباطن .
والنهي عن قربان الفواحش أبلغ من النهي عن مجرد فعلها ، فإنه يتناول النهي عن مقدماتها ووسائلها الموصلة إليها .
{ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ } وهي : النفس المسلمة ، من ذكر وأنثى ، صغير وكبير ، بر وفاجر ، والكافرة التي قد عصمت بالعهد والميثاق . { إِلَّا بِالْحَقِّ } كالزاني المحصن ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة .
{ ذَلِكُمْ } المذكور { وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } عن الله وصيته ، ثم تحفظونها ، ثم تراعونها وتقومون بها . ودلت الآية على أنه بحسب عقل العبد يكون قيامه بما أمر الله به .
ثم تنتقل السورة بعد ذلك إلى أفق أرحب وأوسع ، وإلى ميدان أفسح وأشمل فتناديهم بأسلوب مؤثر بليغ ليستمعوا إلى ما حرم الله عليهم فيجتنبوه وإلى ما كلفهم به فيعملوه ، تناديهم ليتدبروا فى الأصول الكلية التى تقوم عليها العقيدة السليمة ، ويسعد بها المجتمع ، ويحيا فى ظلها الأفراد والجماعات فى أمان واطمئنان . تناديهم ليسمعوا البيان الصحيح الحق فيما أحل الله وحرم من الأفعال والأقوال ليسمعوه ممن له وحده الحق فى أن يقوله ، وفى أن يتلقى عنه تناديهم فتقول : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ . . . } .
إن المتأمل فى هذه الآيات يراها قد رسمت للإنسان علاقته بربه علاقة ينال بها السعادة والثواب ، ورسمت له علاقته بأسرته بحيث تقوم على المودة والمحبة وسدت فى وجهه أبواب الشر التى تؤدى إلى انتهاك حرمات الأنفس والأموال والأعراض ، وقد أطلق العلماء على هذه الآيات الكريمة اسم " الوصايا العشر " نظرا لتذييل آياتها الثلاث بقوله - تعالى - { ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ } .
روى الترمذى - بسنده - عن ابن مسعود أنه قال : من سره أن ينظر إلى وصية محمد التى عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ } . إلى قوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } .
وروى الحاكم وصححه ، وابن أبى حاتم عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيكم يبايعنى على هؤلاء الآيات الثلاث ، ثم تلا قوله - تعالى - : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ } . حتى فرغ منها ثم قال : من وفى بهن فأجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله فى الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله ، إن شاء الله أخذه ، وإن شاء عفا عنه " .
وروى البيهقى عن على بن أبى طالب - رضى الله عنه - قال . لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب ، خرج إلى منى وأنا وأبو بكر معه ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على منازل القوم ومضاربهم . فسلم عليهم وردوا السلام ، وكان فى القوم مفروق بن عمرو وهانى بن قبيصة والمثنى بن حارثة ، والنعمان بن شريك ، وكان مفروق بن عمرو أغلب القوم لساناً وأفصحهم بياناً ، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له :
إلام تدعو يا أخا قريش ؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى شهادة أن أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنى رسول الله ، وأن تؤوونى وتنصرونى وتمنعونى حتى اؤدى حق الله الذى أمرنى به ، فإن قريشاً تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق ، والله هو الغنى الحميد .
فقال له مفروق : وإلام تدعو أيضاً يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } . إلى آخر الآيات الثلاث .
فقال له مفروق : وإلام تدعو أيضاً يا أخا قريش ؟ فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض ولو كان من كلامهم لعرفناه . فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } الآية .
فقال له مفروق : دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، وقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك .
وقال هانىء بن قبيصة : قد سمعت مقالتك ، واستحسنت قولك يا أخا قريش ، ويعجبنى ما تكلمت به ، فبشرهم الرسول - إن آمنوا - بأرض فارس وأنهار كسرى .
فقال له النعمان : اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هذا جانب من فضائل هذه الآيات الثلاث ، وذلك هو تأثيرها فى نفوس العرب ، والآن فلنبدأ فى التفسير التحليلى لها فنقول :
لقد بدئت الآيات بقوله - تعالى - { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } .
أى : قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء الذين حللوا وحرموا حسب أهوائهم ، تعالوا إلى وأقبلوا نحوى لأبين لكم ما حرمه ربكم عليكم ، ولأتلو على مسامعكم ما أمركم به ، وما نهاكم عنه خالقكم ومربيكم ، فإنكم إن أقبلتم نحوى وأطعمتمونى سعدتم فى دينكم ودنياكم .
وفى تصدير هذه الوصايا بكلمة { قُلْ } إشعار من أول الأمر بأن هذا بيان إلهى ، ليس الرسول فيه إلا ناقلا مبلغا ، وفيه - أيضا - دلالة على أن المأمور به يحتاج إلى مزيد عناية واهتمام وقد سبق أن بينا أن سورة الأنعام زاخرة بهذا الأسلوب التلقينى الذى يبدأ بكلمة { قُلْ } .
والأصل فى كلمة ( تعال ) أن يقولها من كان فى مكان عال لمن هو أسفل منه ، ثم اتسع فيها حتى عمت ، وهى تتضمن إرادة تخليص المخاطبين ورفعتهم من انحطاط هم فيه إلى علو يراد لهم ويدعون إليه‘ وتتضمن كذلك أن المتكلم يريد منهم أن يلتفوا من حوله لتتحد وجهتهم ، ولا تتفرق بهم الأهواء والسبل .
وفى قوله { أَتْلُ } إيماء قوى بأن المتكلم يقدر المخاطبين ، ويرتفع بهم إلى درجة أنهم لا يحتاجون فى الإرشاد إلا لأن يتلو عليهم ما يريدهم أن يعملوه ثم هم بعد ذلك سيمتثلون لحسن استعدادهم لقبول الحق .
- وإنه لأسلوب قد بلغ الغاية فى اللطف وفى التكريم وفى حسن الموعظة وتوجيه الخطاب .
- وخص التحريم بالذكر مع أن الوصايا قد اشتملت على المحرمات وعلى غيرها لأن سياق الآيات قبل ذلك كان منصبا على كشف ما اخترعه المشركون من تحريم فى الحرث والنسل ما أنزل الله به من سلطان ، ولأن بيان أصول المحرمات يستلزم حل ما عداها لأنه الأصل .
وفى نسبة التحريم إلى الرب الذى هو منبع الخير والإحسان . حض لهم على التدبر والاستجابة . لأن الذى حرم عليهم ذلك هو مربيهم ، فليس معقولا أن يحرم عليهم ما فيه منفعة لهم ، وإنما هو بمقتضى ربوبيته قد حرم عليهم ما فيه ضررهم .
- وقوله { أَتْلُ } جواب الأمر ، أى : إن تأتونى أتل . و { مَا } فى قوله { مَا حَرَّمَ } موصولة بمعنى الذى والعائد محذوف أى : أقرأ الذى حرمه ربكم عليكم ، وهى فى محل نصب مفعول به ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، أى أتل تحريم ربكم ، ونفس التحريم لا يتلى وإنما هو مصدر واقع موقع المفعول به ، أى : أتل محرم ربكم الذى حرمه هو .
و { عَلَيْكُمْ } متعلق ب { حَرَّمَ } أو ب { أَتْلُ } .
قال بعض العلماء : وهذه العبارة التى قدمت بها الوصايا - وهى { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } فيها إشعار بأن الحقائق الأولى التى قام عليها الجدال فى السورة قد أصبحت واضحة . لا مفر من قبولها والبناء عليها ، فالله - تعالى - يأمر رسوله بأن يبلغهم ، وإذن فهناك إله من شأنه أن يرسل الرسل ، وهناك رسل من شأنهم أن يتلقوا عن الله ، وهناك محرمات وردت من المصدر الذى يحق له التحريم وحده لأنه هو الرب { مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } ثم هناك لازم عقلى لهذا التحريم هو أن من تعداه وانتهكه كان مغضباً للرب الذى قرره . مستحقاً لعقوبته ، وإذن فهناك دار للجزاء " . ولننظر بعد ذلك فى الوصايا .
الوصية الأولى : { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } أى : أوصيكم ألا تشركوا مع الله فى عبادتكم آلهة أخرى . بل خصوه وحده بالعبادة والخضوع والطاعة فإنه هو الخالق لكل شىء .
وصدر - سبحانه - هذه الوصايا بالنهى عن الشرك ، لأنه أعظم المحرمات وأكبرها إفساداً للفطرة ، ولأنه هو الجريمة التى لا تقبل المغفرة من الله ، بينما غيره قد يغفره - سبحانه - قال - تعالى - : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } وقد ساق القرآن مئات الآيات التى تدعو إلى الإيمان وتنفر من الشرك وتقيم الأدلة الساطعة ، والبراهين الدامغة على وحدانية الله - عز وجل - .
هذا ، وقد ذكر الشيخ الجمل فى إعراب هذه الجملة الكريمة ألا تشركوا به شيئاً عدة آراء منها :
1 - أنّ ( أن ) تفسيرية ، لأنه تقدمها ما هو بمعنى القول لا حروفه ، ولا ناهية ولا تشركوا مجزوم بها .
2 - أن تكون ( أن ) ناصية للفعل بعدها ، وهى وما فى حيزها فى محل نصب بدلا من { مَا حَرَّمَ } ولا زائدة لئلا يفسد المعنى كزيادتها فى قوله : { أَلاَّ تَسْجُدَ } و { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } 3 - تكون ( أن ) ناصبة وما فى حيزها منصوب على الإغراء بعليكم ويكون الكلام قد تم عند قوله { رَبُّكُمْ } ثم ابتدأ فقال : عليكم ألا تشركوا أى الزموا نفى الشرك .
4 - أنها وما فى حيزها فى محل نصب أو جر على حذف لام العلة ، والتقدير تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم لئلا تشركوا به شيئاً .
5 - أن تكون هى وما بعدها فى محل نصب بإضمار فعل تقديره : أوصيكم ألا تشركوا .
ونكتفى بهذا القدر من وجوه الإعراب التى توسع فيها النحاة توسعاً كبيراً ، بسبب ورود بعض هذه الوصايا بصيغة النهى ، وبعضها بصيغة الأمر ، مع تقدم فعل التحريم على جميعها .
أما الوصية الثانية : فى قوله - تعالى - { وبالوالدين إِحْسَاناً } أى : أحسنوا بهما إحسانا كاملا لا إساءة معه .
وقد قرن - سبحانه - هذه الوصية بالوصية الأولى التى هى توحيده وعدم الإشراك به ، فى هذه الآية وفى غيرها ، للإشعار بعظم هذه الوصيى وللتنبيه إلى معنى واحد - يجمعها مع الأولى وهو أن المنعم يجب أن يشكر ؛ فالوالدان سبب فى حياة الولد فيجب أن يشركهما ويحسن إليهما ، والله - تعالى - هو الخالق المنعم فيجب أن يشكر ويفرد بالعبادة والطاعة .
- قال بعض العلماء : وقد جاءت هذه الوصية بأسلوب الأمر بالواجب المطلوب وهو الإحسان إلى الوالدين ، ولم تذكر بأسلوب النهى عن المرحم وهو الإساءة ، سموا بالإنسان عن أن تظن به الاساءة إلى الوالدين ، وكأن الإساءة إليهما ، ليس من شأنها أن تقع منه حتى يحتاج إلى النهى عنها ، ولأن الخير المنتظر من هذه الوصية وهو تربية الأبناء على الاعتراف بالنعم وشكر المنعمين عليها إنما يتحقق بفعل الواجب ، وهو الإحسان لا بمجرد ترك المحرم وهو الإساءة . ولهذا وذاك قال - سبحانه - { وبالوالدين إِحْسَاناً } .
- والإحسان يتعدى بحرفى الباء وإلى ، فقال : أحسن به ، وأحسن إليه ، وبينهما فرق واضح ، فالباء تدل على الإلصاق ، وإلى تدل على الغاية ، والإلصاق يفيد اتصال الفعل بمدخول " الباء " دون انفصال ولا مسافة بينهما ، أما الغاية فتفيد وصول الفعل إلى مدخول ( إلى ) ولو كان منه على بعد أو كان بينهما واسطة ، ولا شك أن الإلصاق فى هذا المام أبلغ فى تأكيد شأن العناية والإحسان بالوالدين ، ومن هنا لم يعد الإحسان بالباء فى القرآن إلا حيث أريد ذلك التأكيد ، وقد جاءت جميع الآيات القرآنية التى توحى بالإحسان بالوالدين على هذا الأسلوب " .
ثم جاءت الوصية الثالثة وهى قوله - تعالى - { وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } .
الإملاق : الفقر ، مصدر أملق الرجل إملاقا إذا احتاج وافتقر .
أى : لا تقتلوا أولادكم الصغار من أجل الفقر فنحن قد تكفلنا برزقكم ورزقهم . { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } ولا شك أن الحياة حق لهؤلاء الصغار كما أنها حق لكم . فمن الظلم البين الاعتداء على حقوقهم ، والتخلص منهم خوفا من الفقر ، مع أن الله - تعالى - هو الرازق لكم ولهم .
والمجتمع الذى يبيح قتل الأولاد خوفا من الفقر أو خوفا من العار ، هو الرازق لم ولهم .
والمجتمع الذى يبيح قتل الأولاد خوفا من الفقر أو خوفا من العار ، لا يمكن أن يصلح شأنه ، لأنه مجتمع نفعى تسوده الأثرة والأنانية ، ويكون فى الوقت نفسه مجتمعا أفراده يسودهم التشاؤم ، وتتغشاهم الأوهام ، لأنهم يظنون أن الله يخلق خلقاً لا يدبر لهم حقهم من الرزق ، ويعتدون على روح بريئة طاهرة تخوفا من جريمة متوهمة ، وذلك هو الضلال المبين .
- وقد روى النهى عن قتل الأولاد هنا بهذه الصيغة ، وورد فى سورة الإسراء بصيغة أخرى هى قوله - تعالى - { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } وليس إحداهما تكراراً للأخرى . وإنما كل واحدة منهما تعالج حالة معينة .
- فهنا يقول - سبحانه - { مِّنْ إمْلاَقٍ } أى : لا تقتلوهم بسبب الفقر الموجود فيكم أيها الآباء لذا قال : { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } فجعل الرزق للآباء ابتداء ، لأن الفقر الذى يقتلون من أجله أولادهم حاصل لهم فعلا .
- وفى سورة الإسراء يقول : { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } أى : خوفا من فقر ليس حاصلا ، ولكنه متوقع بسبب الأولاد ولذا قال : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } فقدم رزق الأولاد لأنهم سبب توقع الفقر ، ليكف الآباء عن هذا التوقع ، وليضمن للأولاد رزقهم ابتداء مستقلا عن رزق الآباء .
ففى كلتا الحالتين القرآن ينهى عن قتل الأولاد ، ويغرس فى نفوس الآباء الثقة بالله ، والاعتماد عليه .
وجملة { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } تعليلية لإبطال ما اتخذوه سبباً لمباشرة جريمتهم ، وضمان منه - سبحانه - لأرزاقهم أى : نحن نرزق الفريقين لا أنتم وحدكم ، فلا تقدموا على تلك الجريمة النكراء وهى قتل الأولاد لأن الأولاد قطعة من أبيهم ، والشأن حتى فى الحيوان الأعجم أنه يضحى من أجل أولاده ، ويحميهم ويتحمل الصعاب فى سبيلهم .
أما الوصية الرابعة فتقول : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } الفواحش . جمع فاحشة وهى كما قال الراغب فى مفرداته - ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال يقال : فحش فلان ، أى صار فاحشاً مرتكباً للقبائح ، والمتفحش هو الذى يأتى بالفحش من القول أو الفعل ، كالسرقة والزنا والنميمة وشهادة الزور .
وأنهاكم عن أن تقتربوا من الأقوال والأفعال القبيحة ما كان منها ظاهراً وما كان منها خافياً .
وقد تعلق التحريم والنهى بهذا الوصف الذى يشعر بالعلة - كما يقول علماء الأصول - فكأنه قال . إن كل قول أو عل تستقبحه العقول فهو فاحشة يجب البعد عنها .
والمجتمع الذى يؤمن بأن هناك " فواحش " يجب أن تجتنب ، و " محاسن " يجب أن تلتمس هو المجتمع الفاضل الطهور .
أما المجتمع الذى يسوى بين القبيح والحسن ، ويقوم على الإباحة التى لا تفرق بين ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك ، فلا بد أن يكون مصيره إلى التدهور والتعاسة والمهانة .
وجملة { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } بدل اشتمال من الفواحش .
وتعليق النهى بقربانها للمبالغة فى الزجر عنها لأن قربانها قد يؤدى إلى مباشرتها ، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، وهذا لون حكيم من ألوان الإصلاح ، لأنه إذا حصل النهى عن القرب من الشىء ، فلأن ينهى عن فعله من باب أولى .
ثم جاءت الآية فى ختامها بالوصية الخامسة فقالت : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } .
أى : لا تقتلوا النفس التى حرم الله قتلها بأن عصهما بالإسلام إلا بالحق الذى يبيح قتلها شرعاً كردة أو قصاص أو زنا يوجب الرجم .
قال ابن كثير : وهذا مما نص - تبارك وتعالى - على النهى عنه تأكيدا ، وإلا فهو داخل فى النهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن . فقد جاء فى الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزانى ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " .
وقوله { إِلاَّ بالحق } فى محل نصب على الحال من فاعل { تَقْتُلُواْ } أى : لا تقتلوها ملتبسين بالحق ، ويجوز أن يكون وصفاً لمصدر محذوف أى : قتلا ملتبساً بالحق ، وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أى : لا تقتلوها فى حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق .
وذلك لأن الإسلام ينظر إلى وجود الإنسان على أنه بناه الله فلا يحق لأحد أن يهدمه إلا بالحق ، وبذلك يقرر عصمة الدم الإنسانى ، ويعتبر من يعتدى على نفس واحدة فكأنما قد اعتدى على الناس جميعاً : { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - { ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
أى : ذلكم الذى ذكرناه لكم من وصايا جليلة ، وتكاليف حكيمة ، وصاكم الله به ، وطلبه منكم . لعلكم تستعملون عقولكم التى تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح .
فاسم الإشارة { ذلكم } مشار به إلى الوصايا الخمس السابقة ، وهو مبتدأ وجملة وصاكم به خبر . ولفظ وصاكم من اللطف والرأفة وجعلهم أوصياء له - تعالى - ما يحمل النفس علىى الطاعة والاستجابة .
هذه هى الوصايا الخمس التى تضمنتها الآية الأولى من هذه الآيات الثلاث وكلها تشترك فى معنى واحد هو أنها حقائق أو حقوق ثابتة فى نفسها ، ولم يكن ثبوتها إلا تجاوبا مع الطفرة ، فالله واحد سواء آمن الناس بهذه الحقيقة عقيديا وعمليا أم لم يؤمنوا ، وشكر النعمة يقتضى الإحسان إلى الوالدين طبعا ووضعا ، وللنسل حق الحياة والحفظ ، والفواحش فحش ونكر فى ذاتها فيجب أن تجتنتب ، والنفوس معصية فليس لأحد أن يهدمها إلا بحق ، ولاتفاقها كلها فى هذا المعنى جاءت فى آية واحدة ، وختمت بعبارة تفيد أن هذا مرجعه إلى حكم العقول { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
قال داود الأوْدِي ، عن الشعبي ، عن علَقْمَة ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : من أراد أن يقرأ صحيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه ، فليقرأ هؤلاء{[11335]} الآيات : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } إلى قوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا بكر بن محمد الصيرفي بمرو ، حدثنا عبد الصمد بن الفضل ، حدثنا مالك بن إسماعيل النَّهدي ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة قال : سمعت ابن عباس يقول : في{[11336]} الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب ، ثم قرأ : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ] }{[11337]} .
ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه{[11338]} .
قلت : ورواه زُهَيْر وقيس بن الربيع كلاهما عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن قيس ، عن ابن عباس ، به . والله{[11339]} أعلم .
وروى الحاكم أيضًا في مستدركه{[11340]} من حديث يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن أبي إدريس ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيكم يبايعني على ثلاث ؟ " - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } حتى فرغ من الآيات - فمن وفى فأجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئًا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته{[11341]} ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله ، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه " .
ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . وإنما اتفقا على حديث الزهري ، عن أبي إدريس ، عن عبادة : " بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا " الحديث . وقد روى سفيان بن حُسَين كلا الحديثين ، فلا ينبغي أن ينسب إلى الوهم في أحد الحديثين إذا جمع بينهما ، والله أعلم{[11342]} .
وأما تفسيرها فيقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد - لهؤلاء المشركين الذين [ أشركوا و ]{[11343]} عبدوا غير الله ، وحرموا ما رزقهم الله ، وقتلوا أولادهم وكل ذلك فعلوه بآرائهم وتسويل الشياطين لهم ، { قُلْ } لهم { تَعَالَوْا } أي : هلموا وأقبلوا : { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } أي : أقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقًا لا تخرصًا ، ولا ظنًا ، بل وحيًا منه وأمرًا من عنده :
{ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } وكأن في الكلام محذوفًا دل عليه السياق ، وتقديره : وأوصاكم{[11344]} { أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } ؛ ولهذا قال في آخر الآية : { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وكما قال الشاعر :
حَجَّ وأوصَى بسُلَيمى الأعْبُدَا *** أنْ لا تَرَى ولا تُكَلِّم أحَدا
ولا يَزَلْ شَرَابُها مُبَرَّدا{[11345]} .
وتقول العرب : أمرتك ألا تقوم .
وفي الصحيحين من حديث أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا من أمتك ، دخل الجنة . قلت : وإن زنا وإن سرق ؟ قال : وإن زنا وإن سرق . قلت : وإن زنا وإن سرق ؟ قال : وإن زنا وإن سرق . قلت : وإن زنا وإن سرق ؟ قال : وإن زنا وإن سرق ، وإن شرب الخمر " : وفي بعض{[11346]} الروايات أن القائل ذلك إنما هو أبو ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه ، عليه{[11347]} السلام ، قال في الثالثة : " وإن رغم أنفُ أبي ذر " {[11348]} فكان أبو ذر يقول بعد تمام الحديث : وإن رغم أنف أبي ذر .
وفي بعض المسانيد والسنن عن أبي ذر [ رضي الله عنه ]{[11349]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي ، ولو أتيتني بقراب الأرض خطيئة أتيتك بقرابها مغفرة ما لم تشرك بي شيئا ، وإن أخطأت حتى تبلغ خطاياك عَنَان السماء ثم استغفرتني ، غفرت لك " {[11350]} .
ولهذا شاهد في القرآن ، قال الله تعالى{[11351]} : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ، 116 ] .
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود : " من مات لا يشرك بالله شيئًا ، دخل الجنة " {[11352]} والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدًا .
وروى ابن مَرْدُوَيه من حديث عبادة وأبي الدرداء : " لا تشركوا بالله شيئًا ، وإن قُطِّعتم أو صُلِّبتم أو حُرِّقتم " {[11353]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عَوْف الحِمْصي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا نافع بن يزيد حدثني سيار بن عبد الرحمن ، عن يزيد بن قَوْذر ، عن سلمة بن شُرَيح ، عن عبادة بن الصامت قال : أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع خصال : " ألا تشركوا بالله شيئًا ، وإن حرقتم وقطعتم وصلبتم " {[11354]} .
وقوله تعالى : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي : وأوصاكم وأمركم بالوالدين إحسانا ، أي : أن تحسنوا إليهم ، كما قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 ] .
وقرأ بعضهم : " ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " .
والله تعالى كثيرًا ما يقرن بين طاعته وبر الوالدين ، كما قال : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ لقمان : 14 ، 15 ] . فأمر بالإحسان إليهما ، وإن كانا مشركين بحسبهما ، وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } الآية . [ البقرة : 83 ] . والآيات في هذا كثيرة . وفي الصحيحين عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : " الصلاة على وقتها " . قلت : ثم أيّ ؟ قال : " بر الوالدين " . قلت : ثم أيّ ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " . قال ابن مسعود : حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته{[11355]} لزادني{[11356]} .
وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه بسنده عن أبي الدرداء ، وعن عبادة بن الصامت ، كل منهما يقول : أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم : " أطع والديك ، وإن أمراك أن تخرج لهما من الدنيا ، فافعل " {[11357]} .
ولكن في إسناديهما ضعف ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } لما أوصى{[11358]} تعالى ببر الآباء والأجداد ، عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد ، فقال تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ } وذلك أنهم كانوا يقتلون أولادهم كما سَوَّلت لهم الشياطين ذلك ، فكانوا يئدون البنات خَشْيَة العار ، وربما قتلوا بعض الذكور خيفةَ الافتقار ؛ ولهذا جاء في الصحيحين ، من حديث عبد الله ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله ندّا وهو خلَقَكَ " . قلت : ثم أيّ ؟ قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعَم معك " . قلت : ثم أيّ ؟ قال : " أن تُزَاني حليلة جارك " . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ] }{[11359]} [ الفرقان : 68 ] . {[11360]}
وقوله : { مِنْ إِمْلاقٍ } قال ابن عباس ، وقتادة ، والسُّدِّي : هو الفقر ، أي : ولا تقتلوهم من فقركم الحاصل ، وقال في سورة " سبحان " : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [ الإسراء : 31 ] ، أي : خشية{[11361]} حصول فقر ، في الآجل ؛ ولهذا قال هناك : { نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ } فبدأ برزقهم للاهتمام بهم ، أي : لا تخافوا من فقركم بسببهم ، فرزقهم على الله . وأما في هذه الآية فلما كان الفقر حاصلا قال : { نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } ؛ لأنه الأهم هاهنا ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } كقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] . وقد تقدم تفسيرها في قوله : { وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ } [ الأنعام : 12 ] .
وفي الصحيحين ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أحد أغْيَر من الله ، من أجل ذلك حَرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطنَ " {[11362]} .
وقال عبد الملك بن عُمَيْر ، عن وَرّاد ، عن مولاه المغيرة قال : قال سعد بن عبادة : لو رأيت مع امرأتي رجلا لضربته بالسيف غير مُصْفَح . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أتعجبون من غيرة سعد ! فوالله لأنا أغير من سعد ، والله أغير مني ، من أجل ذلك حَرّم الفواحش ما ظهر منها وما بَطَن " . أخرجاه{[11363]} .
وقال كامل أبو العلاء ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، إنا{[11364]} . نغار . قال : " والله إني لأغار ، والله أغير مني ، ومن غيرته نهى عن الفواحش " {[11365]} .
رواه ابن مَرْدُوَيه ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، وهو على شرط الترمذي ، فقد روي بهذا السند : " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين " {[11366]} .
وقوله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ } وهذا مما نص تبارك وتعالى على النهي عنه تأكيدًا ، وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، فقد جاء في الصحيحين ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " {[11367]} .
وفي لفظ لمسلم{[11368]} والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم . . . " وذكره ، قال الأعمش : فحدثت به إبراهيم ، فحدثني عن الأسود ، عن عائشة [ رضي الله عنها ]{[11369]} ، بمثله{[11370]} .
وروى أبو داود ، والنسائي ، عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال : زانٍ مُحْصَن يُرْجَم ، ورجل قتل رَجُلا مُتَعمِّدا فيقتل ، ورجل يخرج من الإسلام حارب الله ورسوله ، فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض " . وهذا لفظ النسائي{[11371]} .
وعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، أنه قال وهو محصور : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يَحِلُّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كَفَر بعد إسلامه ، أو زنا بعد إحصانه ، أو قتل نفسا بغير نفس " . فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ، ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منه بعد إذ هداني الله ، ولا قتلت نفسا ، فبم تقتلونني . رواه الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه . وقال الترمذي : هذا حديث حسن{[11372]} .
وقد جاء النهي والزجر والوعيد في قتل المعاهدَ - وهو المستأمن من أهل الحرب - كما رواه البخاري ، عن عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل مُعاهِدًا لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد{[11373]} من مسيرة أربعين عاما " {[11374]} .
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل معاهَدًا له ذِمَّة الله وذمَّة رسوله ، فقد أخفر بذمة الله ، فلا يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خَريفًا " .
رواه ابن ماجه ، والترمذي وقال : حسن صحيح{[11375]} .
وقوله : { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي : هذا ما{[11376]} وصاكم به لعلكم تعقلون عنه أمره ونهيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلاَدَكُمْ مّنْ إمْلاَقٍ نّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام ، الزاعمين أن الله حرّم عليهم ما هم محرّموه من حروثهم وأنعامهم ، على ما ذكرت لك في تنزيلي عليك : تعالوا أيها القوم أقرأ عليكم ما حرّم ربكم حقّا يقينا ، لا الباطل ، تخرّصا كخرصكم على الله الكذب والفرية ظنّا ، ولكن وحيا من الله أوحاه إليّ ، وتنزيلاً أنزله عليّ ، ألا تشركوا بالله شيئا من خلقه ولا تعدلوا به الأوثان والأصنام ولا تعبدوا شيئا سواه . وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا يقول : وأوصى بالوالدين إحسانا . وحذف «أوصى » وأمر لدلالة الكلام عليه ومعرفة السامع بمعناه ، وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى من الكتاب .
وأما «أن » في قوله : أنْ لا تُشْركُوا بِهِ شَيْئا فرفع ، لأن معنى الكلام : قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم ، هو أن لا تشركوا به شيئا . وإذا كان ذلك معناه ، كان في قوله : تُشْركُوا وجهان : الجزم بالنهي ، وتوجيهه «لا » إلى معنى النهي . والنصب على توجيه الكلام إلى الخبر ، ونصب «تشركوا » ب«ألاّ » كما يقال : أمرتك أن لا تقوم . وإن شئت جعلت «أن » في موضع نصب ردّا على «ما » وبيانا عنها ، ويكون في قوله : تُشْرِكُوا أيضا من وجهي الإعراب نحو ما كان فيه منه ، و«أن » في موضع رفع ، ويكون تأويل الكلام حينئذٍ : قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم ، أتْلُ أن لا تشركوا به شيئا .
فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يكون قوله تُشْرِكُوا نصبا ب«أن لا » ، أم كيف يجوز توجيه قوله : «أن لا تشركوا به » ، على معنى الخبر ، وقد عطف عليه بقوله : وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِنْ إملاقٍ وما بعد ذلك من جزم النهي ؟ قيل : جاز ذلك كما قال تعالى ذكره : قُلْ إنّي أُمِرْتُ أنْ أكُونَ أوّلَ مَنْ أسْلَمَ فجعل «أن أكون » خبرا و«أنْ » اسما ، ثم عطف عليه ، وكما قال الشاعر :
حَجّ وأوْصَى بسُلَيْمَى الأعْبُدَا ***أنْ لا تَرَى وَلا تُكَلّمْ أحَدَا
***وَلا يَزَلْ شَرابُها مُبَرّدَا ***
فجعل قوله «أن لا ترى » خبرا ، ثم عطف بالنهي ، فقال : «ولا تكلم » ، «ولا يزل » .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِنْ إمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإيّاهُمْ .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِنْ إمْلاقٍ ولا تئدوا أولادكم فتقتلوهم من خشية الفقر على أنفسكم بنفقاتهم ، فإن الله هو رازقكم وإياهم ، ليس عليكم رزقهم ، فتخافوا بحياتهم على أنفسكم العجز عن أرزاقهم وأقواتهم . والإملاق : مصدر من قول القائل : أملقت من الزاد ، فأنا أُمْلِقُ إملاقا ، وذلك إذا فني زاده وذهب ماله وأفلس .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صاللح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكمْ مِنْ إمْلاقٍ الإملاق : الفقر ، قتلوا أولادهم خشية الفقر .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِنْ إمْلاقٍ أي خشية الفاقة .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِنْ إمْلاقٍ قال : الإملاق : الفقر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قوله : مِنْ إمْلاقٍ قال : شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خيفة العيلة .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، في قوله : مِنْ إمْلاقٍ يعني : من خشية فقر .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ .
يقول تعالى ذكره : ولا تقربوا الظاهر من الأشياء المحرّمة عليكم التي هي علانية بينكم لا تناكرون ركوبها ، والباطن منها الذي تأتونه سرّا في خفاء لا تجاهرون به ، فإن كلّ ذلك حرام . وقد قيل : إنما قيل لا تقربوا ما ظهر من الفواحش وما بطن ، لأنهم كانوا يستقبحون من معاني الزنا بعضا . وليس ما قالوا من ذلك بمدفوع ، غير أن دليل الظاهر من التنزيل على النهي عن ظاهر كلّ فاحشة وباطنها ، ولا خبر يقطع العذر بأنه عُنى به بعضٌ دون جميع ، وغير جائز إحالة ظاهر كتاب الله إلى باطن إلا بحجة يجب التسليم لها .
ذكر من قال ما ذكرنا من قول من قال الاَية خاصّ المعنى :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أما ما ظهر منها : فزواني الحوانيت ، وأما ما بطن : فما خفي .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، قوله : وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ كان أهل الجاهلية يستسرّون بالزنا ، ويرون ذلك حلالاً ما كان سرّا ، فَحرّم الله السرّ منه والعلانية ما ظَهَرَ مِنْها يعني : العلانية وَما بَطَنَ يعني : السرّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قال : كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأسا في السرّ ويستقبحونه في العلانية ، فحرّم الله الزنا في السرّ والعلانية .
وقال آخرون في ذلك بمثل الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ : سرّها وعلانيتها .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، نحوه .
وقال آخرون : ماظهر نكاح الأمهات وحلائل الاَباء ، وما بطن : الزنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن خصيف ، عن مجاهد : وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قال : ما ظهر : جمع بين الأختين ، وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده وما بطن : الزنا . وقال آخرون في ذلك بما :
حدثني إسحاق بن زياد العطار البصري ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق البلخي ، قال : حدثنا تميم بن شاكر الباهلي ، عن عيسى بن أبي حفصة ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَلا تَقْرَبوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قال : ما ظهر الخمر ، وما بطن : الزنا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَقْتُلُوا النّفْسَ التي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بالحَقّ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ .
يقول تعالى ذكره : قُلْ تَعَالُوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أنْ لا تُشرِكُوا بِهِ شَيئْا وَلا تَقْتُلُوا النّفْسَ التي حرّم الله إلاّ بالحَقّ يعني بالنفس التي حرّم الله قتلها : نفس مؤمن أو معاهَد . وقوله : إلا بالحَقّ يعني : بما أباح قتلها به من أن تقتل نفسا فتقتل قودا بها ، أو تزني وهي محصنة فترجم ، أو ترتدّ عن دينها الحقّ فتُقتل فذلك الحقّ الذي أباح الله جلّ ثناؤه قتل النفس التي حرّم على المؤمنين قتلها به . ذَلِكُمْ يعني : هذه الأمور التي عهد إلينا فيها ربنا أن لا نأتيه وأن لا ندعه ، هي الأمور التي أوصانا والكافرين بها أن نعمل جميعا به . لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ يقول : وصاكم بذلك لعلكم تعقلون ما وصاكم به ربكم .