قوله تعالى :{ ومن يعش عن ذكر الرحمن } أي يعرض عن ذكر الرحمن فلم يخف عقابه ، ولم يرج ثوابه ، يقال : عشوت إلى النار أعشو عشواً ، إذا قصدتها مهتدياً بها ، وعشوت عنها : أعرضت عنها ، كما يقال : عدلت إلى فلان ، وعدلت عنه ، وملت إليه ، وملت عنه . قال القرظي : يولي ظهره عن ذكر الرحمن وهو القرآن . قال أبو عبيدة والأخفش : يظلم بصره عنه . قال الخليل بن أحمد : أصل العشو النظر ببصر ضعيف . وقرأ ابن عباس : ومن يعش بفتح الشين أي يعم ، يقال عشي يعشى عشياً إذا عمى فهو أعشى ، وامرأة عشواء . { نقيض له شيطاناً } قرأ يعقوب : { يقيض } بالياء ، والباقون بالنون ، نسبب له شيطاناً لنضمه إليه ونسلطه عليه . { فهو له قرين } لا يفارقه ، يزين له العمى ويخيل إليه أنه على الهدى .
{ 36-39 } { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ }
يخبر تعالى عن عقوبته البليغة ، لمن أعرض عن ذكره ، فقال : { وَمَنْ يَعْشُ } أي : يعرض ويصد { عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ } الذي هو القرآن العظيم ، الذي هو أعظم رحمة رحم بها الرحمن عباده ، فمن قبلها ، فقد قبل خير المواهب ، وفاز بأعظم المطالب والرغائب ، ومن أعرض عنها وردها ، فقد خاب وخسر خسارة لا يسعد بعدها أبدا ، وقيَّض له الرحمن شيطانا مريدا ، يقارنه ويصاحبه ، ويعده ويمنيه ، ويؤزه إلى المعاصي أزا ،
وبعد هذا الحديث الجامع عن هوان شأن الدنيا عند الله - تعالى - ، أتبع - سبحانه - ذلك ببيان حال الذين عن ذكر الله - تعالى - ، وأنهم يوم القيامة لن ينفعهم ندمهم أو تحسرهم ، وسلى النبى - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه منهم . فقال - تعالى - : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } .
وقوله - سبحانه - : { يَعْشُ } أى : يعرض . يقال عشا فلان يعشو ، كدعا يدعو ، وعشى يعشى ، كرضى يرضى ، إذا ضعف بصره ، ومنه قولهم : ناقة عشواء ، إذا كانت لا تبصر إلا شئا قليلا ، والمراد هنا : عمى البصيرة وضعف إدراكها للخير . ومنه قولهم : ركب فلان العشواء ، إذا خبط أمره على غير هدى أو بصيرة .
والمعنى : ومن يتعام عن ذكر الرحمن ، ويعرض عن قرآنه ، ويتجاهل هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } أى ، نهيئ ونسب له شيطانا رجيما يستولى عليه ، ويستخوذ على قلبه وعقله .
{ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } أى : فذلك الشيطان يكون ملازما ومصاحبا لهذا الإِنسان الذى أعرض عن القرآن ، ملازمة القرين لقرينه ، والشئ لظله .
ومن الآيات التى تشبه هذه الآية قوله - تعالى - : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ }
ولما بين زهادة أعراض الحياة الدنيا وهوانها على الله ؛ وأن ما يعطاه الفجار منها لا يدل على كرامة لهم عند الله ، ولا يشير إلى فلاح ؛ وأن الآخرة عند ربك للمتقين ، استطرد يبين مصير أولئك الذين قد ينالون تلك الأعراض ، وهم عمي عن ذكر الله ، منصرفون عن الطاعات التي تؤهلهم لرزق الآخرة المعد للمتقين :
( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين . وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون . حتى إذا جاءنا قال : يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين . فبئس القرين . ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ) . .
والعشى كلال البصر عن الرؤية ، وغالباً ما يكون عند مواجهة الضوء الساطع الذي لا تملك العين أن تحدق فيه ؛ أو عند دخول الظلام وكلال العين الضعيفة عن التبين خلاله . وقد يكون ذلك لمرض خاص . والمقصود هنا هو العماية والإعراض عن تذكر الرحمن واستشعار وجوده ورقابته في الضمير .
( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين ) . .
وقد قضت مشيئة الله في خلقة الإنسان ذلك . واقتضت أنه حين يغفل قلبه عن ذكر الله يجد الشيطان طريقه إليه ، فيلزمه ، ويصبح له قرين سوء يوسوس له ، ويزين له السوء . وهذا الشرط وجوابه هنا في الآية يعبران عن هذه المشيئة الكلية الثابتة ، التي تتحقق معها النتيجة بمجرد تحقق السبب ، كما قضاه الله في علمه .
{ من } في قوله : { ومن يعش } شرطية ، وعشى يعشو ، معناه : قل الإبصار منه كالذي يعتري في الليل ، وكذلك هو الأعشى من الرجال ، ويقال أيضاً : عشى الرجل يعشي عشاء إذا فسد بصره فلم ير ، أو لم ير إلا قليلاً .
وقرأ قتادة ويحيى بن سلام البصري : «ومن يعشَ » بفتح الشين ، وهي من قولهم : عشى يعشي ، والأكثر عشى يعشو ، ومنه قول الشاعر [ الحطيئة ] : [ الطويل ]
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره . . . تجد خير نار عندها خير موقد{[10206]}
وفي شعر آخر [ عبد الله بن الحر ] :
تجد حطباً جزلاً وجمراً تأججا{[10207]} . . . وقرأ الأعمش : «ومن يعش عن الرحمن » ، وسقط : { ذكر } .
فالمعنى في الآية : ومن يقل نظره في شرع الله ويغمض جفونه عن النظر في ذكر الرحمن ، أي فيما ذكر به عباده ، فالمصدر إلى الفاعل ، { نقيض له شيطاناً } أي نيسر له ونعد ، وهذا هو العقاب على الكفر بالحتم وعدم الفلاح ، وهذا كما يقال : إن الله يعاقب على المعصية بالتزيد في المعاصي ، ويجازي على الحسنة بالتزيد من الحسنات ، وقد روي هذا المعنى مرفوعاً .
وقرأ الجمهور : «نقيض » بالنون . وقرأ عاصم{[10208]} والأعمش : «يقيض » ، بالياء «شيطاناً » ، أي يقيض الله . وقرأ ابن عباس : «يُقيَّض له شيطانٌ » ، بفتح الياء الثانية وشدها ورفع النون من «شيطانٌ » .