قوله تعالى : { فإن أعرضوا } عن الإجابة ، { فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك } ما عليك . { إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة } قال ابن عباس : يعني الغنى والصحة . { فرح بها وإن تصبهم سيئة } قحط ، { بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور } أي : لما تقدم من نعمة الله عليه ينسى ويجحد بأول شدة جميع ما سلف من النعم .
{ فَإِنْ أَعْرَضُوا } عما جئتهم به بعد البيان التام { فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } تحفظ أعمالهم وتسأل عنها ، { إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ } فإذا أديت ما عليك ، فقد وجب أجرك على اللّه ، سواء استجابوا أم أعرضوا ، وحسابهم على اللّه الذي يحفظ عليهم صغير أعمالهم وكبيرها ، وظاهرها وباطنها .
ثم ذكر تعالى حالة الإنسان ، وأنه إذا أذاقه الله رحمة ، من صحة بدن ، ورزق رغد ، وجاه ونحوه { فَرِحَ بِهَا } أي : فرح فرحا مقصورا عليها ، لا يتعداها ، ويلزم من ذلك طمأنينته بها ، وإعراضه عن المنعم .
{ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي : مرض أو فقر ، أو نحوهما { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ } أي : طبيعته كفران النعمة السابقة ، والتسخط لما أصابه من السيئة .
ثم بين - سبحانه - وظيفة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ . . } .
أى : فإن أعرض هؤلاء الظالمون عن دعوتك - أيها الرسول الكريم - ، فلا تحزن لذلك ، فإننا ما أرسلناك لتكون رقيبا على أعمالهم ، ومركها لهم على الإِيمان ، وإنما أرسلناك لتلغ دعوة ربك إليهم ، ومن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر .
والمراد بالإِنسان فى قوله - سبحانه - : { وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا } جنسه الشامل للجميع والمراد بالرحمة : ما يشمل الغنى والصحة وغيرهما من النعم .
أى : وإنا إذا أعطينا ومنحنا الإِنسان بفضلنا وكرمنا نعمة كالمال والولد والجاه . فرح بها وانشرح لها .
{ وَإِن تُصِبْهُمْ } أى : الناس { سَيِّئَةٌ } من بلاء أو مرض أو خوف أو فقر { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أى : بسبب ما اكتسبته أيديهم من المعاصى والسيئات حزنوا وامتعضوا .
وقوله : { فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ } تعليل لجواب الشرط المحذوف ، أى : وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم نسوا نعمنا وقنطوا ، فإن الإِنسان الكافر كثير الكفر والجحود لنعم خالقه - عز وجل - أما من آمن وعمل صالحا فإنه يشكر ربه عند النعم ، ويصبر عند البلاء والنقم .
{ فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا } رقيبا أو محاسبا . { إن عليك إلا البلاغ } وقد بلغت . { وإنا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها } أراد بالإنسان الجنس لقوله : { وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور } بليغ الكفران ينسى النعمة رأسا ويذكر البلية ويعظمها ولا يتأمل سببها ، وهذا وإن اختص بالمجرمين جاز إسناده إلى الجنس لغلبتهم واندراجهم فيه ، وتصدير الشرطية الأولى ب { إذا } والثانية ب { إن } لأن إذاقة النعمة محققة من حيث أنها عادة مقتضاة بالذات بخلاف إصابة البلية ، وإقامة علة الجزاء مقامه ووضع الظاهر موضع المضمر في الثانية للدلالة على أن هذا الجنس مرسوم بكفران النعمة .
{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ } .
الفاء للتفريع على قوله : { استجيبوا لربكم } [ الشورى : 47 ] الآية ، وهو جامع لما تقدم كما علمت إذ أمر الله نبيئه بدعوتهم للإيمان من قوله في أول السورة { وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتُنذر أم القُرى ومَن حولها } [ الشورى : 7 ] ثم قوله : { فلذلك فادعُ واستقم } [ الشورى : 15 ] . وما تخلل ذلك واعترضه من تضاعيف الأمر الصريح والضمني إلى قوله : { استجيبوا لربكم } [ الشورى : 47 ] الآية ، ثم فرّع على ذلك كله إعلام الرسول صلى الله عليه وسلم بمقامه وعَمله إنْ أعْرَض معرضون من الذين يدعوهم وبمعذرته فيما قام به وأنه غير مقصر ، وهو تعريض بتسليته على ما لاقاه منهم ، والمعنى : فإن أعرضوا بعد هذا كله فما أرسلناك حفيظاً عَلَيهم ومتكفلاً بهم إذ ما عليك إلا البلاغ .
وإذ قد كان ما سبق من الأمر بالتبليغ والدعوة مصدَّراً بِقَوْله أوائل السورة { والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل } [ الشورى : 6 ] ، لا جرم ناسب أن يفرع على تلك الأوامر بعد تمامها مثل ما قدم لها فقال : { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ } . وهذا الارتباط هو نكتة الالتفات من الخطاب الذي في قوله : { استجيبوا لربكم } [ الشورى : 47 ] الآية ، إلى الغيبة في قوله هنا { فإن أعرضوا } وإلا لقيل : فإن أعرضتم .
والحفيظ تقدم في صدر السورة وقوله : { فما أرسلناك عليهم حفيظاً } ليس هو جواب الشرط في المعنى ولكنه دليل عليه ، وقائم مقامه ، إذ المعنى : فإن أعرضوا فلستَ مقصراً في دعوتهم ، ولا عليك تَبعة صدّهم إذ ما أرسلناك حفيظاً عليهم ، بقرينة قوله : { إن عليك إلا البلاغ } . وجملة { إن عليك إلا البلاغ } بيان لجملة { فما أرسلناك عليهم حفيظاً } باعتبار أنها دالّة على جواب الشرط المقّدر .
و { إنْ } الثانية نافية . والجمع بينها وبين { إنْ } الشرطية في هذه الجملة جناس تام .
و { البلاغ } : التبليغ ، وهو اسم مصدر ، وقد فهم من الكلام أنه قد أدى ما عليه من البلاغ لأن قوله { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً } دلّ على نفي التبعة عن النبي صلى الله عليه وسلم من إعراضهم ، وأن الإعراض هو الإعراض عن دعوته ، فاستفيد أنه قد بلّغ الدعوة ولولا ذلك ما أثبت لهم الإعراض .
{ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كفور } .
تتصل هذه الجملة بقوله : { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ } . لِما تضمنته هذه من التعريض بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما لاقاه من قومه كما علمت ، ويؤذن بهذا الاتصال أن هاتين الجلمتين جُعلتا آيةً واحدة هي ثامنة وأربعون في هذه السورة ، فالمعنى : لا يحزنك إعراضهم عن دعوتك فقد أعرضوا عن نِعمتي وعن إنذاري بزيادة الكفر ، فالجملة معطوفة على جملة { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً } وابتداء الكلام بضمير الجلالة المنفصل مسنَداً إليه فعل دون أن يقال : وإذا أذقنا الإنسان الخ ، مع أن المقصود وصف هذا الإنسان بالبطَر بالنعمة وبالكفر عند الشدة ، لأن المقصود من موقع هذه الجملة هنا تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن جفاء قومه وإعراضهم ، فالمعنى : أن معاملتهم ربهم هذه المعاملة تسلّيك عن معاملتهم إياك على نحو قوله تعالى : { يسألك أهل الكتاب أن تنزّل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } [ النساء : 153 ] ، ولهذا لا تجد نظائر هذه الجملة في معناها مفتتحاً بمثل هذا الضمير لأن موقع تلك النظائر لا تماثل موقع هذه وإن كان معناهما متماثلاً ، فهذه الخصوصية خاصة بهذه الجملة . ولكن نظم هذه الآية جاء صالحاً لإفادة هذا المعنى ولإفادة معنى آخر مقارب له وهو أن يكون هذا حكاية خُلق للناس كلهم مرتكزٍ في الجِبلة لكن مظاهره متفاوتة بتفاوت أفراده في التخلق بالآداب الدينية ، فيُحمل { الإنسان } في الموضعين على جنس بني آدم ويحمل الفرح على مُطلقه المقوللِ عليه بالتشكيك حتى يبلغ مبلغ البطر ، وتحمل السيئة التي قدمتْها أيديهم على مراتب السيئات إلى أن تبلغ مبلغ الإشراك ، ويُحمل وصف { كفور } على ما يشمل اشتقاقه من الكُفر بتوحيد الله ، والكُفر بنعمة الله .
ولهذا اختلفت محامل المفسرين للآية . فمنهم من حملها على خصوص الإنسان الكافر بالله مثل الزمخشري والقرطبي والطيبي ، ومنهم من حملها على ما يعم أصناف الناس مثل الطبري والبغوي والنَسفي وابننِ كثير . ومنهم من حملها على إرادة المعنيين على أن أولهما هو المقصود والثاني مندرج بالتبع وهذه طريقة البيضاوي وصاحب الكشْف ومنهم من عكس وهي طريقة الكَواشي في تلخيصه . وعلى الوجهين فالمراد ب { الإنسان } في الموضع الأول والموضِع الثاني معنى واحد وهو تعريف الجنس المرادُ به الاستغراق ، أي إذا أذقنا الناس ، وأن الناس كفُورون ، ويكون استغراقاً عرفياً أريد به أكثر جنس الإنسان في ذلك الزمان والمكان لأن أكثر نوع الإنسان يومئذٍ مشركون ، وهذا هو المناسب لقوله : { فإن الإنسان كفور } أي شديد الكفر قويه ، ولقوله : { بما قدمت أيديهم } أي من الكفر . وإنما عدل عن التعبير بالناس إلى التعبير بالإنسان للإيماء إلى أن هذا الخُلق المخبر به عنهم هو من أخلاق النوع لا يزيله إلا التخلق بأخلاق الإسلام فالذين لم يسلموا باقون عليه ، وذلك أدخل في التسلية لأن اسم الإنسان اسم جنس يتضمن أوصاف الجنس المسمى به على تفاوت في ذلك وذلك لغلبة الهوى . وقد تكرر ذلك في القرآن مراراً كقوله : { إن الإنسان خُلق هلوعاً } [ المعارج : 19 ] وقوله : { إن الإنسان لربه لَكَنُود } [ العاديات : 6 ] وقوله : { وكان الإنسانُ أكثر شيء جدلاً } [ الكهف : 54 ] . وتأكيد الخبر بحرف التأكيد لمناسبة التسلية بأن نُزِّل السامع الذي لا يشك في وقوع هذا الخبر منزلة المتردد في ذلك لاستعظامه إعراضهم عن دعوة الخيْر فشبّه بالمتردد على طريقة المكنية ، وحرف التأكيد من روادف المشبه به المحذوف .
والمراد بالرحمة : أثر الرحمة ، وهو النعمة . فالتقدير : وإنا إذا رَحِمْنا الإنسان فأصبناه بنعمة ، بقرينة مقابلة الرحمة بالسيئة كما قوبلت بالضراء في قوله : { ولئن أذقناه رحمة منّا من بعد ضراء مسته } في سورة فصّلت ( 50 ) .
والمراد بالفرح : ما يشمل الفَرح المجاوز حَد المسرة إلى حد البَطر والتجبر ، على نحو ما استعمل في آيات كثيرة مثل قوله تعالى : { إذ قال له قومه لا تَفرح إن الله لا يحب الفَرِحين } [ القصص : 76 ] لا الفرح الذي في مثل قوله تعالى : { فَرِحين بما آتاهم الله من فضله } [ آل عمران : 170 ] .
وتوحيد الضمير في { فرح } لمراعاة لفظ الإنسان وإن كان معناه جمعاً ، كقوله : { فقاتلوا التي تبغي } [ الحجرات : 9 ] أي الطائفة التي تبغي ، فاعتدّ بلفظ طائفة دون معناه مع أنه قال قبله { اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] . ولذلك جاء بعده { وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم } بضميري الجماعة ثم عاد فقال { فإن الإنسان كفور } .
واجتلاب { إذا } في هذا الشرط لأن شأن { إذا } أن تدل على تحقق كثرة وقوع شرطها ، وشأن { إن } أن تدل على ندرة وقوعه ، ولذلك اجتلب { إنْ } في قوله : { وإن تصبهم سيئة } لأن إصابتهم بالسيئة نادرة بالنسبة لإصابتهم بالنعمة على حد قوله تعالى : { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطَّيَّروا بموسى ومن معه } [ الأعراف : 131 ] .
ومعنى قوله : { وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم } تقدم بسطه عند قوله آنفاً { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [ الشورى : 30 ] .
والحكم الذي تضمنته جملة { فإن الإنسان كفور } هو المقصود من جملة الشرط كلها ، ولذلك أعيد حرف التأكيد فيها بعد أن صُدِّرت به الجملة المشتملة على الشرط ليحيط التأكيد بكلتا الجملتين ، وقد أفاد ذلك أن من عوارض صفة الإنسانية عروض الكفر بالله لها ، لأن في طبع الإنسان تطلب مسالك النفع وسَدّ منافذ الضر مما ينجرّ إليه من أحوال لا تدخل بعض أسبابها في مقدوره ، ومن طبعه النظر في الوسائل الواقية له بدلائل العقل الصحيح ، ولكن من طبعه تحريك خياله في تصوير قوى تخوله تلك الأسباب فإذا أملى عليه خياله وجود قوى متصرفة في النواميس الخارجة عن مقدوره خالها ضالَّته المنشودة ، فركن إليها وآمن بها وغاب عنه دليل الحق ، إمّا لقصور تفكيره عن دركه وانعداممِ المرشد إليه ، أو لغلبة هواه الذي يُملي عليه عصيانَ المرشدين من الأنبياء والرسل والحكماء الصالحين إذ لا يتبعهم إلا القليل من الناس ولا يهتدي بالعقل من تلقاء نفسه إلا الأقل مثلُ الحكماء ، فغلب على نوع الإنسان الكفر بالله على الإيمان به كما بيناه آنفاً في قوله : { وإنا إذا أذقنا الإنسان منّا رحمة فرح بها } . ولذلك عقب هذا الحكم على النوع بقوله : { لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء } [ الشورى : 49 ] . ولم يخرج عن هذا العموم إلا الصَالِحُونَ من نوع الإنسان على تفاوت بينهم في كمال الخلق وقد استفيد خروجهم من آيات كثيرة كقوله : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ التين : 4 6 ] .
وقد شمل وصف { كفور } ما يشمل كفران النعمة وهما متلازمان في الأكثر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإن أعرضوا} عن الهدى {فما أرسلناك عليهم حفيظا}، يعني رقيبا.
{وإنا إذا أذقنا الإنسان}: إذا مسسنا... {منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة}.
{بما قدمت أيديهم} من الكفر، {فإن الإنسان كفور}... لنعم ربه في كشف الضر عنه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فإن أعرض هؤلاء المشركون يا محمد عما أتيتهم به من الحقّ، ودعوتهم إليه من الرشد، فلم يستجيبوا لك، وأبَوْا قبوله منك، فدعهم، فإنا لن نرسلك إليهم رقيبا عليهم، تحفظ عليهم أعْمالهم وتحصيها "إنْ عَلَيْكَ إلاّ البَلاغُ "يقول: ما عليك يا محمد إلا أن تبلغهم ما أرسلناك به إليهم من الرسالة، فإذا بلغتهم ذلك، فقد قضيت ما عليك.
"وَإنّا إذَا أذَقْنا الإنْسانَ منّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها" يقول تعالى ذكره: فإنا إذا أغنينا ابن آدم فأعطيناه من عندنا سعة، وذلك هو الرحمة التي ذكرها جلّ ثناؤه، فرح بها: يقول: سرّ بما أعطيناه من الغِنى، ورزقناه من السّعة وكثرة المال، "وَإنْ تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ" يقول: وإن أصابتهم فاقة وفقر وضيق عيش "بِما قَدّمَتْ أيْدِيهِمْ" يقول: بما أسلفت من معصية الله عقوبة له على معصيته إياه، جحد نعمة الله، وأيس من الخير "فإنّ الإنْسانَ كَفُورٌ" يقول تعالى ذكره: فإن الإنسان جحود نعم ربه، يعدّد المصائب، ويجحد النعم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فما أرسلناك عليهم حفيظا} هذا يخرّج على وجهين:
الثاني: {فما أرسلناك عليهم حفيظا} يحتمل فما أرسلناك أن تمنعهم عما يفعلون حسّا، إنما عليك البلاغ فحسب وبيان الحق، وأنت غير مؤاخذ بما يفعلون، وهو كقوله: {فإنما عليه ما حُمّل وعليكم ما حُمّلتم} [النور: 54] ونحو ذلك.
{وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بنا} إن كان هذا في المسلم فيكون قوله: {فرح بها} أي رضي بها، وسُرّ بها. وإن كان في الكافر فيكون له فرح بها، أي بطِر بها وأشِر.
{وإن تُصبهم سيئة بما قدّمت أيديهم فإن الإنسان كفور} هذا أيضا إن كان في المسلم فإنه إذا أصابه شدة أو بلاء ينسى ما كان إليه من الله تعالى من النّعمى، فجعل يشكو ما أصابه، فهو كفور للنعم التي كانت له من قبل ذلك. وإن كان في الكافر فهو ظاهر أنه كفور لنعمه وإحسانه أجمع.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"إلا البلاغ" وهو إيصال المعنى إلى أفهامهم وتبيين لهم ما فيه رشدهم، فالذي يلزم الرسول دعاؤهم إلى الحق، ولا يلزمه أن يحفظهم من اعتقاد خلاف الحق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أراد بالإنسان الجمع لا الواحد. لقوله: (وإن تصبهم سيئة) ولم يرد إلا المجرمين؛ لأن إصابة السيئة بما قدّمت أيديهم إنما تستقيم فيهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً} تأنيس لمحمد عليه السلام وإزالة لهمه بهم، وأعلمه أنه ليس عليه إلا البلاغ وتوصيل الحجة...
ثم جاءت عبارة في باقي الآية هي بمنزلة ما يقول، والقوم قوم عتو وتناقض أخلاق واضطراب، إذا أذيقوا رحمة فرحوا بها وبطروا، وإن أصابت سيئة أي مصيبة تسوءهم في أجسامهم أي في نفوسهم، وذلك بذنوبهم وقبيح فعلهم فإنهم كفر عند ذلك غير صبر، وعبر ب {الإنسان} الذي هو اسم عام ليدخل في الآية والمذمة جميع الكفرة من المجاورين يومئذ ومن غيرهم.
فبين تعالى أن الإنسان إذا فاز بهذا القدر الحقير الذي حصل في الدنيا فإنه يفرح بها ويعظم غروره بسببها ويقع في العجب والكبر، ويظن أنه فاز بكل المنى ووصل إلى أقاصي السعادات، وهذه طريقة من يضعف اعتقاده في سعادات الآخرة، وهذه الطريقة مخالفة لطريقة المؤمن الذي لا يعد نعم الدنيا إلا كالوصلة إلى نعم الآخرة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ضمن لهذه الآية ما أرسله له، أتبعه ما جبل عليه الإنسان بياناً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا حكم له على الطباع وأن الذي عليه إنما هو الإسماع لا السماع، ولما دل بأداة التحقق على أن النعمة هي الأصل لعموم رحمته، وأنها سبقت غضبه، دل على أن السيئة قليلة بالنسبة إليها بأداة الشك والمضارع فقال: {وإن} ولما كانت المشاركة في الشدائد تهون المصائب، فكان من يزيد غمه بخصوص مصيبته عند العموم مذموماً، نبه على نقص الإنسان بذلك بالجمع فقال: {تصبهم سيئة} أي نقمة وبلاء وشدة. ولما كانت الرحمة فضلاً منه، أعلمهم أن السيئة مسببة عنهم فقال: {بما قدمت أيديهم} وعبر باليد عن الجملة لأن أكثر العمل بها. {فإن الإنسان} أي الآنس بنفسه المعرض عن غيره بما هو طبع له بسبب مسه بضر {كفور} أي بليغ الستر للنعم نساء له، ينسى بأول صدمة من النقمة جميع ما تقدم له من النعم، ولا يعرف إلا الحالة الراهنة، فإن كان في نعمه أشر وبطر، وإن كان في نقمة أيس وقنط.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يكشف عن طبيعة هذا الإنسان الذي يعارض ويعاند، ويعرض نفسه للأذى والعذاب، وهو لا يحتمل في نفسه الأذى؛ وهو رقيق الاحتمال، يستطار بالنعمة، ويجزع من الشدة، ويتجاوز حده فيكفر من الضيق: (وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها، وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ}. الفاء للتفريع على قوله:
{استجيبوا لربكم} [الشورى: 47] الآية، وهو جامع لما تقدم كما علمت إذ أمر الله نبيئه بدعوتهم للإيمان من قوله في أول السورة {وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتُنذر أم القُرى ومَن حولها} [الشورى: 7] ثم قوله: {فلذلك فادعُ واستقم} [الشورى: 15]. وما تخلل ذلك واعترضه من تضاعيف الأمر الصريح والضمني إلى قوله: {استجيبوا لربكم} [الشورى: 47] الآية، ثم فرّع على ذلك كله إعلام الرسول صلى الله عليه وسلم بمقامه وعَمله إنْ أعْرَض معرضون من الذين يدعوهم وبمعذرته فيما قام به وأنه غير مقصر، وهو تعريض بتسليته على ما لاقاه منهم والمعنى: فإن أعرضوا بعد هذا كله فما أرسلناك حفيظاً عَلَيهم ومتكفلاً بهم إذ ما عليك إلا البلاغ.
وإذ قد كان ما سبق من الأمر بالتبليغ والدعوة مصدَّراً بِقَوْله أوائل السورة {والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل} [الشورى: 6]، لا جرم ناسب أن يفرع على تلك الأوامر بعد تمامها مثل ما قدم لها فقال: {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ}. وهذا الارتباط هو نكتة الالتفات من الخطاب الذي في قوله: {استجيبوا لربكم} [الشورى: 47] الآية، إلى الغيبة في قوله هنا {فإن أعرضوا} وإلا لقيل: فإن أعرضتم.
والحفيظ تقدم في صدر السورة وقوله: {فما أرسلناك عليهم حفيظاً} ليس هو جواب الشرط في المعنى ولكنه دليل عليه، وقائم مقامه، إذ المعنى: فإن أعرضوا فلستَ مقصراً في دعوتهم، ولا عليك تَبعة صدّهم إذ ما أرسلناك حفيظاً عليهم، بقرينة قوله: {إن عليك إلا البلاغ}. وجملة {إن عليك إلا البلاغ} بيان لجملة {فما أرسلناك عليهم حفيظاً} باعتبار أنها دالّة على جواب الشرط المقّدر.
و {إنْ} الثانية نافية. والجمع بينها وبين {إنْ} الشرطية في هذه الجملة جناس تام.
و {البلاغ}: التبليغ، وهو اسم مصدر، وقد فهم من الكلام أنه قد أدى ما عليه من البلاغ لأن قوله {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً} دلّ على نفي التبعة عن النبي صلى الله عليه وسلم من إعراضهم، وأن الإعراض هو الإعراض عن دعوته، فاستفيد أنه قد بلّغ الدعوة ولولا ذلك ما أثبت لهم الإعراض.
{وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كفور}.
تتصل هذه الجملة بقوله: {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ}. لِما تضمنته هذه من التعريض بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما لاقاه من قومه كما علمت، ويؤذن بهذا الاتصال أن هاتين الجلمتين جُعلتا آيةً واحدة هي ثامنة وأربعون في هذه السورة، فالمعنى: لا يحزنك إعراضهم عن دعوتك فقد أعرضوا عن نِعمتي وعن إنذاري بزيادة الكفر، فالجملة معطوفة على جملة {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً} وابتداء الكلام بضمير الجلالة المنفصل مسنَداً إليه فعل دون أن يقال: وإذا أذقنا الإنسان الخ، مع أن المقصود وصف هذا الإنسان بالبطَر بالنعمة وبالكفر عند الشدة؛ لأن المقصود من موقع هذه الجملة هنا تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن جفاء قومه وإعراضهم، فالمعنى: أن معاملتهم ربهم هذه المعاملة تسلّيك عن معاملتهم إياك على نحو قوله تعالى: {يسألك أهل الكتاب أن تنزّل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك} [النساء: 153]، ولهذا لا تجد نظائر هذه الجملة في معناها مفتتحاً بمثل هذا الضمير؛ لأن موقع تلك النظائر لا تماثل موقع هذه وإن كان معناهما متماثلاً، فهذه الخصوصية خاصة بهذه الجملة. ولكن نظم هذه الآية جاء صالحاً لإفادة هذا المعنى ولإفادة معنى آخر مقارب له، وهو أن يكون هذا حكاية خُلق للناس كلهم مرتكزٍ في الجِبلة لكن مظاهره متفاوتة بتفاوت أفراده في التخلق بالآداب الدينية، فيُحمل {الإنسان} في الموضعين على جنس بني آدم ويحمل الفرح على مُطلقه المقولِ عليه بالتشكيك حتى يبلغ مبلغ البطر، وتحمل السيئة التي قدمتْها أيديهم على مراتب السيئات إلى أن تبلغ مبلغ الإشراك، ويُحمل وصف {كفور} على ما يشمل اشتقاقه من الكُفر بتوحيد الله، والكُفر بنعمة الله.
ولهذا اختلفت محامل المفسرين للآية. فمنهم من حملها على خصوص الإنسان الكافر بالله مثل الزمخشري والقرطبي والطيبي، ومنهم من حملها على ما يعم أصناف الناس مثل الطبري والبغوي والنَسفي وابنِ كثير. ومنهم من حملها على إرادة المعنيين على أن أولهما هو المقصود والثاني مندرج بالتبع وهذه طريقة البيضاوي وصاحب الكشْف ومنهم من عكس وهي طريقة الكَواشي في تلخيصه. وعلى الوجهين فالمراد ب {الإنسان} في الموضع الأول والموضِع الثاني معنى واحد وهو تعريف الجنس المرادُ به الاستغراق، أي إذا أذقنا الناس، وأن الناس كفُورون، ويكون استغراقاً عرفياً أريد به أكثر جنس الإنسان في ذلك الزمان والمكان؛ لأن أكثر نوع الإنسان يومئذٍ مشركون، وهذا هو المناسب لقوله: {فإن الإنسان كفور} أي شديد الكفر قويه، ولقوله: {بما قدمت أيديهم} أي من الكفر. وإنما عدل عن التعبير بالناس إلى التعبير بالإنسان للإيماء إلى أن هذا الخُلق المخبر به عنهم هو من أخلاق النوع لا يزيله إلا التخلق بأخلاق الإسلام، فالذين لم يسلموا باقون عليه، وذلك أدخل في التسلية؛ لأن اسم الإنسان اسم جنس يتضمن أوصاف الجنس المسمى به على تفاوت في ذلك وذلك لغلبة الهوى. وقد تكرر ذلك في القرآن مراراً كقوله: {إن الإنسان خُلق هلوعاً} [المعارج: 19] وقوله: {إن الإنسان لربه لَكَنُود} [العاديات: 6] وقوله: {وكان الإنسانُ أكثر شيء جدلاً} [الكهف: 54]. وتأكيد الخبر بحرف التأكيد لمناسبة التسلية بأن نُزِّل السامع الذي لا يشك في وقوع هذا الخبر منزلة المتردد في ذلك لاستعظامه إعراضهم عن دعوة الخيْر فشبّه بالمتردد على طريقة المكنية، وحرف التأكيد من روادف المشبه به المحذوف.
والمراد بالرحمة: أثر الرحمة، وهو النعمة. فالتقدير: وإنا إذا رَحِمْنا الإنسان فأصبناه بنعمة، بقرينة مقابلة الرحمة بالسيئة كما قوبلت بالضراء في قوله: {ولئن أذقناه رحمة منّا من بعد ضراء مسته} في سورة فصّلت (50).
والمراد بالفرح: ما يشمل الفَرح المجاوز حَد المسرة إلى حد البَطر والتجبر، على نحو ما استعمل في آيات كثيرة مثل قوله تعالى: {إذ قال له قومه لا تَفرح إن الله لا يحب الفَرِحين} [القصص: 76] لا الفرح الذي في مثل قوله تعالى: {فَرِحين بما آتاهم الله من فضله} [آل عمران: 170]
وتوحيد الضمير في {فرح} لمراعاة لفظ الإنسان وإن كان معناه جمعاً، كقوله: {فقاتلوا التي تبغي} [الحجرات: 9] ولذلك جاء بعده {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم} بضميري الجماعة ثم عاد فقال {فإن الإنسان كفور}.
والحكم الذي تضمنته جملة {فإن الإنسان كفور} هو المقصود من جملة الشرط كلها، ولذلك أعيد حرف التأكيد فيها بعد أن صُدِّرت به الجملة المشتملة على الشرط ليحيط التأكيد بكلتا الجملتين، وقد أفاد ذلك أن من عوارض صفة الإنسانية عروض الكفر بالله لها؛ لأن في طبع الإنسان تطلب مسالك النفع وسَدّ منافذ الضر مما ينجرّ إليه من أحوال لا تدخل بعض أسبابها في مقدوره، ومن طبعه النظر في الوسائل الواقية له بدلائل العقل الصحيح، ولكن من طبعه تحريك خياله في تصوير قوى تخوله تلك الأسباب؛ فإذا أملى عليه خياله وجود قوى متصرفة في النواميس الخارجة عن مقدوره خالها ضالَّته المنشودة، فركن إليها وآمن بها وغاب عنه دليل الحق، إمّا لقصور تفكيره عن دركه وانعدامِ المرشد إليه، أو لغلبة هواه الذي يُملي عليه عصيانَ المرشدين من الأنبياء والرسل والحكماء الصالحين إذ لا يتبعهم إلا القليل من الناس ولا يهتدي بالعقل من تلقاء نفسه إلا الأقل مثلُ الحكماء، فغلب على نوع الإنسان الكفر بالله على الإيمان به كما بيناه آنفاً في قوله: {وإنا إذا أذقنا الإنسان منّا رحمة فرح بها}. ولذلك عقب هذا الحكم على النوع بقوله: {لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء} [الشورى: 49]. ولم يخرج عن هذا العموم إلا الصَالِحُونَ من نوع الإنسان على تفاوت بينهم في كمال الخلق وقد استفيد خروجهم من آيات كثيرة كقوله: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [التين: 4 6]
وقد شمل وصف {كفور} ما يشمل كفران النعمة وهما متلازمان في الأكثر.