نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{فَإِنۡ أَعۡرَضُواْ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظًاۖ إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُۗ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِنَّا رَحۡمَةٗ فَرِحَ بِهَاۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ فَإِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ كَفُورٞ} (48)

ولما أنهى ما قدمه في قوله { شرع لكم من الدين } نهايته ، ودل عليه وعلى كل ما قادته الحكمة في حيزه حتى لم يبق لأحد شبهة في شيء من الأشياء ، كان ذلك سبباً لتهديدهم على الإعراض عنه وتسلية رسولهم صلى الله عليه وسلم فقال معرضاً عن خطابهم إيذاناً بشديد الغضب : { فإن أعرضوا } أي عن إجابة هذا الدعاء الذي وجبت إجابته والشرع الذي وضحت وصحت طريقته بما تأيد به من الحجج ، ولفت القول إلى مظهر العظمة دفعاً لما قد يوهم الإرسال من الحاجة فقال : { فما أرسلناك } مع ما لنا من العظمة { عليهم حفيظاً } أي نقهرهم على امتثال ما أرسلناك به . ولما كان التقدير . فأعرض عن غير إبلاغهم لأنا إنما أرسلناك مبلغاً ، وضع موضعه : { إن } أي ما { عليك إلا البلاغ } لما أرسلناك به ، وأما الهداية والإضلال فإلينا .

ولما ضمن لهذه الآية ما أرسله له ، أتبعه ما جبل عليه الإنسان بياناً لأنه صلى الله عليه وسلم لا حكم له على الطباع وأن الذي عليه إنما هو الإسماع لا السماع ، فقال عاطفاً على ما قبل آية الشرع من قوله { يبسط الرزق لمن يشاء } حاكياً له في أسلوب العظمة تنبيهاً على أنه الذي حكم عليهم بالإعراض عما هو جدير بأن لا يعرض عنه عاقل ، وإيماء إلى أن الإنسان لغلبه جهله وقلة عقله يجترىء بأدنى تأنيس على من تسجد الجبال لعظمته وتندك الشوامخ من هيبته : { وإنا إذا أذقنا } بعظمتنا التي لا يمكن مخالفتها . ولما كان من يفرح بالنعمة عند انفراده بها مذموماً ، عبر بالجنس الصالح للواحد فما فوقه تنبيهاً على أن طبع الإنسان عدم الاهتمام بشدائد الإخوان إلا من أقامه الله في مقام الإحسان فقال : { الإنسان } أي بما جبلناه عليه من النقص بالعجلة وعدم التمالك { منا رحمة } أي نوعاً من أنواع الإكرام من صحة أو غنى ونحو ذلك ، وأفرد الضمير إشارة إلى أنه مطبوع على أنه ليس عليه إلا من نفسه ولو كان أهل الأرض كلهم على غير ذلك ، وكذا عبر بالإنسان فقال : { فرح بها } أي ولو أن أهل الأرض كلهم في نقمة وبؤس وعمى فأخرجه الفرح عن تأمل ما ينفعه ليشكر ، فكان ذلك لذلك كافراً للنعمة لأنه أبدل الشكر بالفرح والكفر فتوصل بالعافية إلى المخالفة ، فأوقع نفسه في أعظم البلاء .

ولما دل باداة التحقق على أن النعمة هي الأصل لعموم رحمته ، وأنها سبقت غضبه ، دل على أن السيئة قليلة بالنسبة إليها بأداة الشك والمضارع فقال : { وإن } ولما كانت المشاركة في الشدائد تهون المصائب ، فكان من يزيد غمه بخصوص مصيبته عند العموم مذموماً ، نبه على نقص الإنسان بذلك بالجمع فقال : { تصبهم سيئة } أي نقمة وبلاء وشدة . ولما كانت الرحمة فضلاً منه ، أعلمهم أن السيئة مسببة عنهم فقال : { بما قدمت أيديهم } وعبر باليد عن الجملة لأن أكثر العمل بها . ولما كان الجواب على نهج الأول : حزنوا فكفروا ، وعدل عنه إلى ما يدل على أن جنس الإنسان موضع الكفران ، ولما كانوا يدعون الشكر وينكرون الكفر ، أكد قوله وسبب عن تلك الإصابة والإذاقة معاً إشارة إلى أنه لا أصل له غيرهما ، فقال مظهراً موضع الضمير لينص على الحكم على الجنس من حيث هو : { فإن الإنسان } أي الآنس بنفسه المعرض عن غيره بما هو طبع له بسبب مسه بضر { كفور * } أي بليغ الستر للنعم نساء له ، ينسى بأول صدمة من النقمة جميع ما تقدم له من النعم ، ولا يعرف إلا الحالة الراهنة ، فإن كان في نعمه أشر وبطر ، وإن كان في نقمة أيس وقنط ، وهذا حال الجنس من حيث هو ، ومن وفقه الله جنبه ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم : " المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له " وليس ذلك إلا للمؤمن ، والآية من الاحتباك : ذكر الفرح أولاً دالاً على الحزن ثانياً ، وذكر الكفران ثانياً دال على حذفه أولاً .