60- واذكروا - يا بني إسرائيل - يوم طلب نبيكم موسى السقيا لكم من ربه حين اشتد بكم العطش في التيه ، فرحمناكم وقلنا لموسى : اضرب بعصاك الحجر . فانفجر الماء من اثنتي عشرة عيناً ، فصار لكل جماعة عين - وكانوا اثنتي عشرة جماعة - فعرفت كل قبيلة مكان شربها ، وقلنا لكم : كلوا من المن والسلوى ، واشربوا من هذا الماء المتفجر ودعوا ما أنتم عليه ، ولا تسرفوا في الإفساد في الأرض بل امتنعوا عن المعاصي .
قوله تعالى : { وإذ استسقى موسى } . طلب السقيا .
قوله تعالى : { لقومه } . وذلك أنهم عطشوا في التيه فسألوا موسى أن يستسقي لهم ففعل فأوحى الله إليه كما قال :
قوله تعالى : { فقلنا اضرب بعصاك } . وكانت من آس الجنة ، طولها عشرة أذرع على طول موسى عليه السلام ، ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نوراً ، واسمها عليق حملها ، آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب عليه السلام فأعطاها موسى عليه السلام . قال مقاتل : اسم العصا بنعته .
قوله تعالى : { الحجر } . اختلفوا فيه قال وهب : لم يكن حجراً معيناً بل كان موسى يضرب أي حجر كان من عرض الحجارة فينفجر عيوناً لكل سبط عين ، وكانوا اثني عشر سبطاً تسيل كل عين في جدول إلى السبط الذي أمر أن يسقيهم ، وقال الآخرون : كان حجراً معيناً بدليل أنه عرف بالألف واللام ، قال العباس : كان حجراً خفيفاً مربعاً على قدر رأس الرجل كان يضعه في مخلاته فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه ، وقال عطاء : كان للحجر أربعة وجوه لكل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين وقيل : كان الحجر رخاماً ، وقيل : كان من الكذان فيه اثنتا عشرة حفرة ، ينبع من كل حفرة عين ماء عذب ، فإذا فرغوا وأراد موسى حمله ضربه بعصاه فيذهب الماء ، وكان يسقي كل يوم ستمائة ألف ، وقال سعيد بن جبير : هو الحجر الذي وضع موسى ثوبه عليه ليغتسل ففر بثوبه ومر به على ملأ من بني إسرائيل حين رموه بالأدرة ، فلما أتاه جبرائيل فقال : إن الله تعالى يقول : " ارفع هذا الحجر فلي فيه قدرة ، ولك فيه معجزة " فرفعه ووضعه في مخلاته ، قال عطاء : كان يضربه موسى اثنتي عشرة ضربة فيظهر على موضع كل ضربة مثل ثدي المرأة فيعرق وتفجر الأنهار ، ثم تسيل . وأكثر أهل التفسير يقولون : انبجست وانفجرت واحد ، وقال أبو عمرو بن العلاء : انبجست وانفجرت ، أي : سالت .
قوله تعالى : { فانفجرت " أي فضرب فانفجرت أي سالت .
قوله تعالى : { منه اثنتا عشرة عيناً } . على عدد الأسباط .
قوله تعالى : { قد علم كل أناس مشربهم } . موضع شربهم لا يدخل سبط على غيره في شربه .
قوله تعالى : { كلوا واشربوا من رزق الله } . أي وقلنا لهم : كلوا من المن والسلوى ، واشربوا من الماء فهذا كله من رزق الله الذي يأتيكم بلا مشقة .
قوله تعالى : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } . والعثى أشد الفساد ، يقال عثى يعثي عيثاً ، وعثا يعثو وعاث عيثاً .
{ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ }
استسقى ، أي : طلب لهم ماء يشربون منه .
{ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ } إما حجر مخصوص معلوم عنده ، وإما اسم جنس ، { فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا } وقبائل بني إسرائيل اثنتا عشرة قبيلة ، { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ } منهم { مَشْرَبَهُمْ } أي : محلهم الذي يشربون عليه من هذه الأعين ، فلا يزاحم بعضهم بعضا ، بل يشربونه متهنئين لا متكدرين ، ولهذا قال : { كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ } أي : الذي آتاكم من غير سعي ولا تعب ، { وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ } أي : تخربوا على وجه الإفساد .
عاشراً : نعمة إغاثتهم بالماء بعد أن اشتد بهم العطش :
ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بنعمة من أجل نعمه عليهم ، وهي إغاثتهم في التيه بالماء بعد أن اشتد بهم العطش ، فقال تعالى :
{ وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ . . . }
الاستسقاء : طلب السقيا عند عدم الماء أو حبس المطر ، وذلك عن طريق الدعاء لله - تعالى - في خشوع واستكانة ، وقد سأل موسى ربه أن يسقى بني إسرائيل الماء بعد أن استبد بهم العطش ، عندما كانوا في التيه ، فعن ابن عباس أنه قال : " كان ذلك في التيه ، ضرب له مموسى الحجر ، فصارت منه اثنتا عشرة عيناً من ماء ، لكل سبط منهم عين يشربون منها .
وهذه النعمى كانت نافعة لهم في دنياهم ؛ لأنها أزالت عنهم الحاجة الشيديدة إلى الماء ولولاه لهلكوا ، وكانت نافعة لهم في دينهم ؛ لأنها من أظهر الأدلة على وجود الله . وعلى قدرته وعلمه ، ومن أقوى البراهين على صدق موسى - عليه السلام - في نبوته .
ومعنى الآية الكريمة : واذكروا يا بني إسرائيل وقت أن أصاب آباءكم العطش الشديد وهم في صحراء مجدبة ، فتوسل إلينا نبيهم موسى - عليه السلام - في خشوع وتضرع أن أمدهم بالماء الذي يكفيهم ، فأجبناه إلى ما طلب ، إذ أوحينا إليه أن اضرب بعصاك الحجر . ففعل ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً بمقدار عدد الأسباط ، وصار لكل سيط منهم مشرب يعرفه ولا يتعداه إلى غيره ، وقلنا لهم : تمتعوا بما من الله به عليكم من مأكول طيب ومشروب هنيء رزقكم الله إياه من غير تعب ولا مشقة ، { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } فتتحول النعم التي بين أيديكم إلى نقم وتصبحوا على ما فعلتم نادمين .
وقوله تعالى : { وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ } يفيد أن الذي سأل ربه السقيا هو موسى - عليه السلام - وحده ، لتظهر كرامته عند ربه لدى قومه ، وليشاهدوا بأعينهم إكرام الله - تعالى - له ، حيث أجاب سؤاله ، وفجر الماء لهم ببركة دعائه .
واللام في قوله تعالى - { لِقَوْمِهِ } للسببية ، أي لأجل قومه .
والفاء في قوله - تعالى - { فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر } عطفت الجملة بعدها على محذوف ، والتقدير : فأجبناه إلى ما طلب ، وقلنا اضرب بعصاك الحجر .
وآل في { الحجر } لتعريف الجنس أي اضرب أي حجر شئت بدون تعيين ، وقيل للعهد ، ويكون المراد حجراً معيناً معروفاً لموسى - عليه السلام - بوحى من الله تعالى . وقد أورد المفسرون في ذلك آثاراً حكم المحققون بضعفها ولذلك لم نعتد بها .
والذي نرجحه أنها لتعريف الجنس ، لأن انفجار الماء من أي حجر بعد ضربه أظهر في إقامة البرهان على صدق موسى - عليه السلام - وأدعى لإِيمان بني إسرائيل وانصياعهم للحق بعد وضوحه ، وأبعد عن التشكيك في إكرام الله لنبيه موسى - عليه السلام - إذ لو كان انفجار الماء من حجر معين لأمكن أن يقولوا : إن تفجير الماء كان لمعنى خاص بالحجر لا لكرامة موسى عند ربه - تعالى - .
والفاء في قوله تعالى : { فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ } كسابقتها للعطف على محذوف تقديره : فضرب فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، وقد حذفت هذه الجملة المقدرة لوضوح المعنى .
وكانت العيوم اثنتي عشرة عيناً ؛ لأن بني إسرائيل كانوا اثني عشر سبطاً ، والاسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب . وهم ذرية أبناء يعقوب - عليه السلام - الاثني عشر ، ففي انفجار الماء من اثنتي عشرة عيناً إكمال للنعمة عليهم ، حتى لا يقع بينهم تنازع وتشاجر :
وقال - سبحانه - : { فانفجرت } وقال في سورة الأعراف ( فانبجست ) والانبجاس خروج الماء بقلة . والانفجار خروجه بكثرة ، ولا تنافي بينهما في الواقع ؛ لأنه ابنجس أولا . ثم افنجر ثانياً ، وكذا العيون يظهر الماء منها قليلا ثم يكثر لدوام خروجه .
وقوله تعالى : { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } إرشاد وتنبيه إلى حكمة الانقسام إلى اثنتي عشرة عيناً أي : قد عرف كل سبط من أسباط بني إسرائيل مكان شربه ، فلا يتعداه إلى غيره ، وفي ذلك ما فيه من استقرار أمورهم ، واطمئنان نفوسهم ، وعدم تعدى بعضهم على بعض .
وقوله تعالى : { كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله } مقول لقول محذوف تقديره : وقلنا لهم : كلوا واشربوا من رزق الله .
وقد جمع - سبحانه - بين الأكل والشرب - وإن كان الحديث عن الشراب - لأنه قد تقدمه إنزال المن والسلوى ، وقد قيل هنالك : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } فلما أتبع ذلك بنعمة تفجير الماء لهم اجتمعت المنتان .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } تحذير لهم من البطر والغرور واستعمال النعمى في غير ما وضعت له ، بعد أن أذن لهم في التمتع بالطيبات ، لأن النعمى عندما تكثر قد تنسى العبد حقوق خالقه فيهجر الشريعة ، ويعيث في الأرض فساداً . قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى . أَن رَّآهُ استغنى } والمعنى : ولا تسعوا في الأرض مفسدين ، وتقابلوا النعم بالعصيان فتسلب عنكم قال ابن جرير - رحمه الله - : ( وأصل العثا شدة الإِفساد بل هو أشد الإِفساد ، يقال منه : عثى فلان في الأرض : إذا تجاوز الحد في الإِفساد إلى غايته ، يعثى ، عثاً مقصوراً ، ويقال للجماعة يعثون . . ) .
وكما يسر الله لبني إسرائيل الطعام في الصحراء والظل في الهاجرة ، كذلك أفاض عليهم الري بخارقة من الخوارق الكثيرة التي أجراها الله على يدي نبيه موسى - عليه السلام - والقرآن يذكرهم بنعمة الله عليهم في هذا المقام ، وكيف كان مسلكهم بعد الإفضال والأنعام :
( وإذ استسقى موسى لقومه ، فقلنا : اضرب بعصاك الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا . قد علم كل أناس مشربهم . كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) . .
لقد طلب موسى لقومه السقيا . طلبها من ربه فاستجاب له . وأمره أن يضرب حجرا معينا بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بعدة أسباط بني إسرائيل ، وكانوا يرجعون إلى اثني عشر سبطا بعدة أحفاد يعقوب - وهو إسرائيل الذي ينتسبون إليه - وأحفاد إسرائيل - أو يعقوب - هم المعروفون باسم الأسباط ، والذين يرد ذكرهم مكررا في القرآن ، وهم رؤوس قبائل بني إسرائيل . وكانوا ما يزالون يتبعون النظام القبلي ، الذي تنسب فيه القبيلة إلى رأسها الكبير .
ومن ثم يقول : ( قد علم كل أناس مشربهم ) . أي العين الخاصة بهم من الاثنتي عشرة عينا . وقيل لهم ، على سبيل الإباحة والإنعام والتحذير من الاعتداء والإفساد :
( كلوا واشربوا من رزق الله ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) . .
{ وَإِذِ اسْتَسْقَىَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلّ أُنَاسٍ مّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رّزْقِ اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ }
عني بقوله : وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ : وإذ استسقانا موسى لقومه : أي سألنا أن نسقي قومه ماء . فترك ذكر المسؤول ذلك ، والمعنى الذي سأل موسى ، إذ كان فيما ذكر من الكلام الظاهر دلالة على معنى ما ترك . وكذلك قوله : فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنا مما استغني بدلالة الظاهر على المتروك منه . وذلك أن معنى الكلام ، فقلنا : اضرب بعصاك الحجر ، فضربه فانفجرت . فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر ، إذ كان فيما ذكر دلالة على المراد منه . وكذلك قوله : قَدْ عَلِمَ كُلّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ إنما معناه : قد علم كل أناس منهم مشربهم ، فترك ذكر ( منهم ) لدلالة الكلام عليه . وقد دللنا فيما مضى على أن الناس جمع لا واحد له من لفظه ، وأن الإنسان لو جمع على لفظه لقيل : أناسيّ وأناسية . وقوم موسى هم بنو إسرائيل الذين قصّ الله عز وجل قصصهم في هذه الاَيات ، وإنما استسقى لهم ربه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه ، كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة قوله : وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ الآية قال : كان هذا إذ هم في البرية اشتكوا إلى نبيهم الظمأ ، فأمروا بحجر طوريّ أي من الطور أن يضربه موسى بعصاه ، فكانوا يحملونه معهم ، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، لكل سبط عين معلومة مستفيض ماؤها لهم .
حدثني تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا أصبغ بن زيد ، عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ذلك في التيه ظلل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى ، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ ، وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربّعا ، وأمر موسى فضرب بعصاه الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية منه ثلاث عيون ، لكل سبط عين ، ولا يرتحلون مَنْقلة إلا وجدوا ذلك الحجر معهم بالمكان الذي كان به معهم في المنزل الأول .
حدثني عبد الكريم ، قال : أخبرنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي سعيد ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : ذلك في التيه ، ضرب لهم موسى الحجر ، فصار فيه اثنتا عشرة عينا من ماء ، لكل سبط منهم عين يشربون منها .
وحدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنا لكل سبط منهم عين ، كل ذلك كان في تيههم حين تاهوا .
حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : وَإذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ قال : خافوا الظمأ في تيههم حين تاهوا ، فانفجر لهم الحجر اثنتي عشرة عينا ضربه موسى . قال ابن جريج ، قال ابن عباس : الأسباط : بنو يعقوب كانوا اثني عشر رجلاً كل واحد منهم ولد سبطا أمّة من الناس .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : استسقى لهم موسى في التيه ، فسقوا في حجر مثل رأس الشاة . قال : يلقونه في جوانب الجوالق إذا ارتحلوا ، ويقرعه موسى بالعصا إذا نزل ، فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا ، لكل سبط منهم عين . فكان بنو إسرائيل يشربون منه ، حتى إذا كان الرحيل استمسكت العيون ، وقيل به فألقي في جانب الجوالق ، فإذا نزل رُمي به . فقرعه بالعصا ، فتفجرت عين من كل ناحية مثل البحر .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثني أسباط ، عن السدي ، قال : كان ذلك في التيه .
وأما قوله : قَدْ عَلِمَ كُلّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ فإنما أخبر الله عنهم بذلك ، لأن معناهم في الذي أخرج الله جل وعز لهم من الحجر الذي وصف جل ذكره في هذه الآية صفته من الشرب كان مخالفا معاني سائر الخلق عن ذكره ما ترك ذكره . وذلك أن تأويل الكلام : فَقُلْنَا اضْرِبْ بعَصَاكَ الحَجَرَ فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، قد علم كل أناس مشربهم ، فقيل لهم : كلوا واشربوا من رزق الله أخبر الله جل ثناؤه أنه أمرهم بأكل ما رزقهم في التيه من المنّ والسلوى ، وبشرب ما فجر لهم فيه من الماء من الحجر المتعاور الذي لا قرار له في الأرض ولا سبيل إليه لمالكيه يتدفق بعيون الماء ويزخر بينابيع العذب الفرات بقدرة ذي الجلال والإِكرام ، ثم تقدم جل ذكره إليهم مع إباحتهم ما أباح وإنعامه عليهم بما أنعم به عليهم من العيش الهنيء ، بالنهي عن السعي في الأرض فسادا والعثا فيها استكبارا فقال جل ثناؤه : لهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين القول في تأويل قوله تعالى : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } يعني بقوله لا تعثوا لا تطغوا ولا تسعوا في الأرض مفسدين كما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ يقول : لا تسعوا في الأرض فسادا .
حدثنى يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله ولا تعثوا في الأرض مفسدين لا تعث لا تطغ .
حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد عن قتادة ولا تعثوا في الأرض مفسدين أي لا تسيروا في الأرض مفسدين .
حدثت عن المنجاب قال حدثنا بشر عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس ولا تعثوا في الأرض مفسدين : لا تسعوا في الأرض ، وأصل العثا شدة الإفساد بل هو أشد الإفساد ، يقال منه عثى فلان في الأرض إذا تجاوز في الإفساد إلى غايته ، يعثى عثا مقصور وللجماعة هم يعثون ، وفيه لغتان أخريان أحدهما عثا يعثوا عثوا ومن قرأها بهذه اللغة فأنه ينبغي له أن يضم الثاء من يعثوا ، ولا أعلم قارئا يقتدى بقراءته قرأ به ، ومن نطق بهذه اللغة مخبرا عن نفسه قال : عثوت أعثو ، ومن نطق باللغة الأولى قال عثيت أعثى والأخرى منهما عاث يعيث عيثا وعيوثا وعيثانا كل ذلك بمعنى واحد ، ومن العيث قول رؤبة بن العجاج :
تذكير بنعمة أخرى جمعت ثلاث نعم وهي الري من العطش ، وتلك نعمة كبرى أشد من نعمة إعطاء الطعام ولذلك شاع التمثيل بري الظمآن في حصول المطلوب . وكون السقي في مظنة عدم تحصيله وتلك معجزة لموسى وكرامة لأمته لأن في ذلك فضلاً لهم . وكون العيون اثنتي عشرة ليستقل كل سبط بمشرب فلا يتدافعوا .
وقوله : { وإذ } متعلق ب { اذكروا } وقد أشارت الآية إلى حادثة معروفة عند اليهود وذلك أنهم لما نزلوا في « رفيديم » قبل الوصول إلى برية سينا وبعد خروجهم من برية سين في حدود الشهر الثالث من الخروج عطشوا ولم يكن بالموضع ماء فتذمروا على موسى وقالوا أتصعدنا من مصر لنموت وأولادنا ومواشينا عطشاً فدعا موسى ربه فأمره الله أن يضرب بعصاه صخرة هناك في « حوريب » فضرب فانفجر منها الماء . ولم تذكر التوراة أن العيون اثنتا عشرة عيناً وذلك التقسيم من الرفق بهم لئلا يتزاحموا مع كثرتهم فيهلكوا فهذا مما بينه الله في القرآن .
فقوله : { استسقى موسى } صريح في أن طالب السقي هو موسى وحده ، سأله من الله تعالى ولم يشاركه قومه في الدعاء لتظهر كرامته وحده ، كذلك كان استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر لما قال له الأعرابي « هلك الزرع والضرع فادع الله أن يسقينا » والحديث في « الصحيحين » .
وقوله : { لقومه } مؤذن بأن موسى لم يصبه العطش وذلك لأنه خرج في تلك الرحلة موقناً أن الله حافظهم ومبلغهم إلى الأرض المقدسة فلذلك وقاه الله أن يصيبه جوع أو عطش وكلل وكذلك شأن الأنبياء فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث وصال الصوم : " إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني "
قال ابن عرفة في « تفسيره » : اهـ . وهو رد متمكن إذ ليس المراد باستسقاء المخصب للمجدب الأشخاص وإنما المراد استسقاء أهل بلد لم ينلهم الجدب لأهل بلد مجدبين والمسألة التي أشار إليها المازري مختلف فيها عندنا واختار اللخمي جواز استسقاء المخصب للمجدب لأنه من التعاون على البر ولأن دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة وقال المازري فيه نظر لأن السلف لم يفعلوه .
وعصا موسى هي التي ألقاها في مجلس فرعون فتلقفت ثعابين السحرة وهي التي كانت في يد موسى حين كلمه الله في برية سينا قبل دخوله مصر وقد رويت في شأنها أخبار لا يصح منها شيء فقيل إنها كانت من شجر آس الجنة أهبطها آدم معه فورثها موسى ولو كان هذا صحيحاً لعده موسى في أوصافها حين قال : { هي عصاي } [ طه : 18 ] إلخ فإنه أكبر أوصافها .
والعصا بالقصر أبداً ومن قال عصاه بالهاء فقد لحن ، وعن الفراء أن أول لحن ظهر بالعراق قولهم عصاتي .
و { أل } في { الحجر } لتعريف الجنس أي اضرب أي حجر شئت ، أو للعهد مشيراً إلى حجر عرفه موسى بوحي من الله وهوحجر صخر في جبل حوريب الذي كلم الله منه موسى كما ورد في سفر الخروج وقد وردت فيه أخبار ضعيفة .
والفاء في قوله : { فانفجرت } قالوا هي فاء الفصيحة ومعنى فاء الفصيحة أنها الفاء العاطفة إذ لم يصلح المذكور بعدها لأن يكون معطوفاً على المذكور قبلها فيتعين تقدير معطوف آخر بينهما يكون ما بعد الفاء معطوفاً عليه وهذه طريقة السكاكي فيها وهي المثلى . وقيل : إنها التي تدل على محذوف قبلها فإن كان شرطاً فالفاء فاء الجواب وإن كان مفرداً فالفاء عاطفة ويشملها اسم فاء الفصيحة وهذه طريقة الجمهور على الوجهين فتسميتها بالفصيحة لأنها أفصحت عن محذوف ، والتقدير في مثل هذا فضرب فانفجرت وفي مثل قول عباس بن الأحنف :
قالوا خراسانُ أقصى ما يراد بنا *** ثم القفول فقد جئنا خراسانا
أي إن كان القفول بعد الوصول إلى خراسان فقد جئنا خراسان أي فلنقفل فقد جئنا .
وعندي أن الفاء لا تعد فاء فصيحة إلا إذا لم يستقم عطف ما بعدها على ما قبلها فإذا استقام فهي الفاء العاطفة والحذف إيجاز وتقدير المحذوف لبيان المعنى وذلك لأن الانفجار مترتب على قوله تعالى لموسى : { اضرب بعصاك الحجر } لظهور أن موسى ليس ممن يشك في امتثاله بل ولظهور أن كل سائل أمراً إذا قيل له افعل كذا أن يعلم أن ما أمر به هو الذي فيه جوابه كما يقول لك التلميذ ما حكم كذا ؟ فتقول افتح كتاب « الرسالة » في باب كذا ، ومنه قوله تعالى الآتي : { اهبطوا مصراً } [ البقرة : 61 ] وأما تقدير الشرط هنا أي فإن ضربت فقد انفجرت إلخ فغير بيّن ، ومن العجب ذكره في « الكشاف » .
وقوله : { قد علم كل أناس مشربهم } قال العكبري وأبو حيان : إنه استئناف ، وهما يريدان الاستئناف البياني ولذلك فصل ، كأن سائلاً سأل عن سبب انقسام الانفجار إلى اثنتي عشرة عيناً فقيل قد علم كل سبط مشربهم ، والأظهر عندي أنه حال جردت عن الواو لأنه خطاب لمن يعقلون القصة فلا معنى لتقدير سؤال . والمراد بالأناس كل ناس سبط من الأسباط .
وقوله : { كلوا واشربوا من رزق الله } مقول قول محذوف . وقد جمع بين الأكل والشرب وإن كان الحديث على السقي لأنه قد تقدمه إنزال المن والسلوى ، وقيل هنالك : { كلوا من طيبات ما رزقناكم } [ البقرة : 57 ] فلما شفع ذلك بالماء اجتمع المنتان .
وقوله : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } من جملة ما قيل لهم ووجه النهي عنه أن النعمة قد تنسي العبد حاجته إلى الخالق فيهجر الشريعة فيقع في الفساد قال تعالى :
{ كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } [ العلق : 6 ، 7 ] .
{ ولا تعثوا } مضارع عثي كرضي ، وهذه لغة أهل الحجاز وهي الفصحى فقوله : { ولا تعثوا } بوزن لا ترضوا ومصدره عند أهل اللغة يقتضي أن يكون بوزن رضي ولم أر من صرح به وذكر له في « اللسان » مصادر العُثيّ والعِثيّ بضم العين وكسرها مع كسر الثاء فيهما وتشديد الياء فيهما ، والعَثَيان بفتحتين وفي لغة غير أهل الحجاز عثا يعثو مثل سما يسمو ولم يقرأ أحد من القراء : { ولا تعثوا } بضم الثاء .
وهو أشد الفساد وقيل : هو الفساد مطلقاً وعلى الوجهين يكون { مفسدين } حالاً مؤكدة لعاملها . وفي « الكشاف » جعل معنى { لا تعثوا } لا تتمادوا في فسادكم فجعل المنهي عنه هو الدوام على الفعل وكأنه يأبى صحة الحال المؤكدة للجملة الفعلية فحاول المغايرة بين { لا تعثوا } وبين { مفسدين } تجنباً للتأكيد وذلك هو مذهب الجمهور لكن كثيراً من المحققين خالف ذلك ، واختار ابن مالك التفصيل فإن كان معنى الحال هو معنى العامل جعلها شبيهة بالمؤكدة لصاحبها كما هنا وخص المؤكدة لمضمون الجملة الواقعة بعد الاسمية نحو زيد أبوك عطوفاً وقول سالم بن دارة اليربوعي :