67- لا يسوغ لأحد من الأنبياء أن يكون له أسرى يحتجزهم ، أو يأخذ منهم الفداء ، أو يمن عليهم بالعفو عنهم حتى يتغلب ويظهر على أعدائه ، ويثقلهم بالجراح ، فلا يستطيعون قتالا في الأرض ، ولكنكم - يا جماعة المسلمين - سارعتم في غزوة بدر إلى اتخاذ الأسرى قبل التمكن في الأرض ، تريدون منافع الدنيا واللَّه يريد لكم الآخرة بإعلاء كلمة الحق ، وعدم الالتفاف إلى ما يشغلكم عن الدنيا ، واللَّه قوى قادر غالب ، يدبر الأمور لكم على وجه المنفعة .
قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } ، قرأ أبو جعفر وأهل البصرة : ( تكون ) بالتاء والباقون بالياء ، وقرأ أبو جعفر : ( أسارى ) ، والآخرون ( أسرى ) . وروى الأعمش عن عمر بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقولون في هؤلاء ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك فاستبقهم ، واستأن بهم ، لعل الله أن يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية ، تكون لنا قوة على الكفار ، وقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك قدمهم نضرب أعناقهم ، مكن علياً من عقيل فيضرب عنقه ، ومكني من فلان -نسيب لعمر- فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر ، وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه ، ثم أضرم عليهم ناراً . فقال له العباس : قطعت رحمك . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم ، ثم دخل ، فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال ناس : يأخذ بقول عمر ، وقال ناس : يأخذ بقول ابن رواحة ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله تعالى ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من ا لحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال : { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [ إبراهيم : 36 ] ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى حيث قال : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } [ المائدة : 118 ] ، وإن مثلك يا عمر مثل نوح حيث قال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح : 26 ] ومثلك يا عبد الله بن رواحة مثل موسى قال { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم } [ يونس : 88 ] ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم اليوم عالة فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق قال عبد الله بن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء فأني سمعته يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلا سهيل بن بيضاء ، قال ابن عباس : قال عمر بن الخطاب فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت ، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاءً بكيت ، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، -لشجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه- وسلم ، وأنزل الله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } إلى قوله : { فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً } [ الأنفال : 67 – 69 ] فأحل الله الغنيمة لهم . بقوله : { له أسرى } جمع أسير مثل قتلى جمع قتيل .
قوله تعالى : { حتى يثخن في الأرض } ، أي : يبالغ في قتال المشركين وأسرهم . قوله تعالى : { تريدون } ، أيها المؤمنون { عرض الدنيا } بأخذكم الفداء .
قوله تعالى : { والله يريد الآخرة } ، يريد لكم ثواب الآخرة بقهركم المشركين ، ونصركم دين الله عز وجل .
قوله تعالى : { والله عزيز حكيم } . وكان الفداء لكل أسير أربعين أوقية ، والأوقية أربعون درهما ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله في الأسارى { فإما مناً بعد وإما فداءً } ، [ محمد : 4 ] فجعل الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار ، إن شاءوا قتلوهم ، وإن شاءوا استعبدوهم ، وإن شاءوا فادوهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىَ حَتّىَ يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الاَخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ما كان لنبيّ أن يحتبس كافرا قدر عليه وصار في يده من عَبَدَة الأوثان للفداء أو للمنّ . والأسر في كلام العرب : الحبس ، يقال منه : مأسور ، يراد به : محبوس ، ومسموع منهم : أناله لله أسرا . وإنما قال الله جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يعرّفه أن قتل المشركين الذين أسرهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثم فادى بهم كان أولى بالصواب من أخذ الفدية منهم وإطلاقهم .
وقوله : حتى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ يقول : حتى يبالغ في قتل المشركين فيها ، ويقهرهم غلبة وقسرا ، يقال منه : أثخن فلان في هذا الأمر إذا بالغ فيه ، وحُكي أثخنته معرفة ، بمعنى : قتلته معرفة . تريدون : يقول للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : تريدون أيها المؤمنون عرض الدنيا بأسركم المشركين ، وهو ما عرض للمرء منها من مال ومتاع ، يقول : تريدون بأخذكم الفداء من المشركين متاع الدنيا وطُعْمها . وَاللّهُ يُرِيدُ الاَخِرَةَ يقول : والله يريد لكم زينة الاَخرة ، وما أعدّ للمؤمنين وأهل ولايته في جناته بقتلكم إياهم وإثخانكم في الأرض ، يقول لهم : واطلبوا ما يريد الله لكم وله اعملوا لا ما تدعوكم إليه أهواء أنفسكم من الرغبة في الدنيا وأسبابها . وَاللّهُ عَزِيرٌ يقول : إن أنتم أردتم الاَخرة لم يغلبكم عدوّ لكم ، لأن الله عزيز لا يقهر ولا يغلب ، وإنه حَكِيمٌ في تدبيره أمره خلقه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ وذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل فلما كثروا واشتدّ سلطانهم ، أنزل الله تبارك وتعالى بعد هذا في الأسارى : فإمّا مَنّا بَعْدُ وإمّا فِدَاءً فجعل الله النبيّ والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار ، إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا استعبدوهم وإن شاءوا فادَوْهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيْا . . . الاَية ، قال : أراد أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر الفداء ، ففادوهم بأربعة آلاف ، ولعمري ما كان أثخن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وكان أوّل قتال قاتله المشركين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن مجاهد ، قال : الإثخان : القتل .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ قال : إذا أسرتموهم فلا تفادوهم حتى تثخنوا فيهم القتل .
قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن مجاهد : ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى . . . الاَية ، نزلت الرخصة بعد ، إن شئت فمُنّ وإن شئت ففَادِ .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ يعني : الذين أسروا ببدر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى من من عدوه . حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ : أي يثخن عدوّه ، حتى ينفيهم من الأرض . تُرِيدُونَ عَرَض الدّنْيا : أي المتاع والفداء بأخذ الرجال . وَاللّهُ يُرِيدُ الاَخِرَةَ بقتلهم لظهور الدين الذي يريدون إطفاءه ، الذي به تدرك الاَخرة .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما تَقُولُونَ في هَؤُلاءِ الأسْرَى ؟ » فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك ، استبقهم واستأن بهم ، لعلّ الله أن يتوب عليهم وقال عمر : يا رسول الله كذّبوك وأخرجوك ، قدّمهم فاضرب أعناقهم وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ، ثم أضرمه عليهم نارا قال : فقال له العباس : قطعت رَحِمَكَ . قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم ، ثم دخل فقال ناسٌ : يأخُذُ بقَوْلِ أبي بَكْرٍ ، وَقالَ ناسٌ : يأْخُذُ بقَوْلِ عُمَرَ ، وَقالَ ناسٌ : يَأْخُذُ بقَوْلِ عبَدْ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ . ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «إن اللّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجالٍ حتى تَكُونَ ألْيَنَ مِنَ اللّبَنِ ، وإن اللّهَ لَيُشَدّدَ قُلُوبَ رِجالِ حتى تَكُونَ أشَدّ مِنَ الحِجارَةِ وَإنّ مَثَلَكَ يا أبا بَكْرٍ مَثَلُ إبْرَاهِيمَ ، قالَ : مَنْ تَبِعَنِي فإنّهُ مِنّي وَمَنْ عَصَانِي فإنّكَ غَفُورٌ رُحِيمٌ وَمَثَلَكَ يا أبا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى ، قالَ : إنْ تُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ عِبادُكَ . . . الاَية ، ومَثَلَكَ يا عُمَرَ مَثَلُ نُوحٍ قالَ : رَبّ لا تَذَرْ على الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارا ، وَمَثَلُكَ يا ابْنَ رَوَاحَةَ كمَثَلِ مُوسَى ، قالَ : رَبّنا اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ على قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حتى يَرَوُا العَذَابَ الألِيمَ » . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنْتُمُ اليَوْمَ عالَةٌ ، فَلا ينْفَلِتَنّ أحَدٌ مِنْهُمْ إلاّ بِفِدَاءٍ أوْ ضَرْبِ عُنُقٍ » قال عبد الله بن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء ، فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع عليّ الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إلاّ سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ » قال : فأنزل الله : ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ . . . إلى آخر الثلاث الاَيات .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عكرمة بن عمار ، قال : حدثنا أبو زميل ، قال : ثني عبد الله بن عباس ، قال : لما أسروا الأسارى يعني يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أيْنَ أبُو بَكْرٍ وَعُمَر وعَليّ ؟ » قال : «ما ترون في الأسارى ؟ » فقال أبو بكر : يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة ، وأرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوّة على الكفار ، وعسى الله أن يهديهم للإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما تَرَى يا ابْنَ الخَطّابِ ؟ » فقال : لا والذي لا إله إلا هو ما أرى الذي رأى أبو بكر يا نبيّ الله ، ولكن أرى أن تمكننا منهم ، فتمكن عليّا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان نسيب لعمر فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها . فهوِي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت . قال عمر : فلما كان من الغد حئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان ، فقلت : يا رسول الله أخبرني من أيّ شيء تبكي أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أبْكِي للّذِي عَرَضَ لأصَحابِي مِنْ أخْذِهِمُ الفِدَاءَ ، وَلَقَدْ عُرِضَ عَليّ عَذَابُكُمْ أدْنَى مِنْ هَذِهِ الشّجَرَةِ » لشجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عزّ وجلّ ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ . . . إلى قوله : حَلالاً طَيّبا وأحلّ الله الغنيمة لهم .
استئناف ابتدائي مناسب لما قبله سواء نزل بعقبه أم تأخّر نزوله عنه فكان موقعه هنا بسبب موالاة نزوله لنزول ما قبله أو كان وضع الآية هنا بتوقيف خاصّ .
والمناسبة ذكر بعض أحكام الجهاد ، وكان أعظم جهاد مضى هو جهاد يوم بدر . لا جرم نزلت هذه الآية بعد قضية فداء أسرى بدر مشيرة إليها .
وعندي أن هذا تشريع مستقبل أخّره الله تعالى رفقاً بالمسلمين الذين انتصروا ببدر وإكراماً لهم على ذلك النصر المبين ، وسدّاً لخلّتهم التي كانوا فيها ، فنزلت لبيان الأمر الأجدر فيما جرى في شأن الأسرى في وقعة بدر . وذلك ما رواه مسلم عن ابن عبّاس ، والترمذي عن ابن مسعود ، ما مُختصره أن المسلمين لما أسروا الأسارى يوم بدر وفيهم صناديد المشركين سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفاديهم بالمال وعَاهدوا على أن لا يعودوا إلى حربه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين " ما تَرون في هؤلاء الأسارى " ، قال أبو بكر : « يا نبي الله هم بنو العمّ والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوّة على الكفّار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام » وقال عُمر : أرى أن تمكّننا فنضرب أعناقهم فإنّ هؤلاء أئمّة الكفر وصناديدها فَهوي رسولُ الله ما قال أبو بكر فأخذ منهم الفداء كما رواه أحمد عن ابن عباس فأنزل الله { ما كان لنبيء أن يكون له أسرى } الآية .
ومعنى قوله : هَوِيَ رسولُ الله ما قال أبو بكر : أنّ رسول الله أحبّ واختار ذلك ؛ لأنّه من اليسر والرحمة بالمسلمين إذ كانوا في حاجة إلى المال ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خُيّر بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً . وروي أنّ ذلك كان رغبة أكثرهم وفيه نفع للمسلمين ، وهم في حاجة إلى المال . ولمّا استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَ مشُورته تعيّن أنّه لم يُوح الله إليه بشيء في ذلك ، وأنّ الله أوْكل ذلك إلى اجتهاد رسوله عليه الصلاة والسلام فرأى أنّ يستشير الناس ثم رجَّح أحد الرأيين باجتهاد ، وقد أصاب الاجتهادَ ، فإنّهم قد أسلم منهم ، حينئذ ، سُهيل بن بيضاء ، وأسلم من بعدُ العباسُ وغيره ، وقد خفي على النبي صلى الله عليه وسلم شيء لم يعلمه إلاّ الله وهو إضمار بعضهم بعد الرجوع إلى قومهم أن يتأهّبوا لقتال المسلمين من بعد .
وربّما كانوا يضمرون اللحاق بفل المشركين من موضع قريب ويعودون إلى القتال فينقلب انتصار المسلمين هزيمة كما كان يومَ أُحُد ، فلأجل هذا جاء قوله تعالى : { ما كان لنبيء أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } .
قال ابن العربي في « العارضة » : روى عبيدة السلماني عن علي أنّ جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فخيّره بين أن يقرِّب الأسارى فيضرب أعناقهم أو يقبلوا منهم الفداء ، ويُقتل منكم في العام المقبل بعدّتهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا جبريل يخيّركم أن تقدّموا الأسارى وتضربوا أعناقهم أو تقبلوا منهم الفداء ويستشهد منكم في العام المقبل بعدتهم " ، فقالوا : يا رسول الله نأخذ الفداء فنقوى على عدوّنا ويقتل منّا في العام المقبل بعدّتهم ، ففعلوا .
والمعنى أنّ النبي إذا قاتل فقتاله متمحّض لغاية واحدة ، هي نصر الدين ودفع عدائه ، وليس قتاله للملك والسلطان فإذا كان أتْباع الدين في قلّة كان قتل الأسرى تقليلاً لعدد أعداء الدين حتّى إذا انتشر الدين وكثر أتباعه صلح الفداء لنفع أتباعه بالمال ، وانتفاء خشية عود العدوّ إلى القوة . فهذا وجه تقييد هذا الحكم بقوله : { ما كان لنبيء } .
والكلام موجّه للمسلمين الذين أشاروا بالفداء ، وليس موجّهاً للنبيء صلى الله عليه وسلم لأنّه ما فعل إلاّ ما أمره الله به من مشاورة أصحابه في قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } [ آل عمران : 159 ] لا سيما على ما رواه الترمذي من أنّ جبريل بلّغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخيّر أصحابه ويدلّ لذلك قوله : { تريدون عرض الدنيا } فإنّ الذين أرادوا عرض الدنيا هم الذين أشاروا بالفداء ، وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حظّ .
فمعنى { ما كان لنبيء أن يكون له أسرى } نفي اتّخاذ الأسرى عن استحقاق نبي لذلك الكون .
وجيء ب ( نبيء ) نكرِة إشارة إلى أنّ هذا حكم سابق في حروب الأنبياء في بني إسرائيل ، وهو في الإصحاح عشرين من سفر التثنية .
ومثل هذا النفي في القرآن قد يجيء بمعنى النهي نحو { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } [ الأحزاب : 53 ] . وقد يجيء بمعنى أنه لا يصْلح ، كما هُنا ، لأن هذا الكلام جاء تمهيداً للعتاب فتعيّن أن يكون مراداً منه ما لا يصلح من حيث الرأي والسياسة .
ومعنى هذا الكون المنفي بقوله : { ما كان لنبيء أن يكون له أسرى } هو بقاؤهم في الأسر ، أي بقاؤهم أرقّاء أو بقاء أعواضهم وهو الفداء . وليس المراد أنّه لا يصلح أن تقع في يد النبي أسرى ، لأنّ أخذ الأسرى من شؤون الحرب ، وهو من شؤون الغلَب ، إذا استسلم المقاتلون ، فلا يعقِل أحدٌ نفيه عن النبي ، فتعيّن أنّ المراد نفي أثره ، وإذا نفي أثر الأسر صدق بأحد أمرين : وهما المنّ عليهم بإطلاقهم ، أو قتلُهم ، ولا يصلح المنُّ هنا ، لأنّه ينافي الغاية وهي حتى يثخن في الأرض ، فتعيّن أنّ المقصود قتل الأسرى الحاصلين في يده ، أي أنّ ذلك الأجدر به حين ضَعُف المؤمنين ، خضِداً لشوكة أهل العناد ، وقد صار حكم هذه الآية تشريعاً للنبيء صلى الله عليه وسلم فيمن يأسرهم في غزواته .
والإثخان الشدة والغلظة في الأذى . يقال أثخنته الجراحة وأثخنه المرض إذا ثقل عليه ، وقد شاع إطلاقه على شدّة الجراحة على الجريح . وقد حمله بعض المفسّرين في هذه الآية على معنى الشدّة والقوة . فالمعنى : حتى يتمكّن في الأرض ، أي يتمكّن سلطانه وأمره .
وقوله : { في الأرض } على هذا جار على حقيقة المعنى من الظرفية ، أي يتمكّن في الدنيا . وَحَمَلَهُ في « الكشّاف » على معنى إثخان الجِراحة ، فيكون جرياً على طريقة التمثيل بتشبيه حال الرسول صلى الله عليه وسلم المقاتل الذي يَجرَج قِرنَه جراحاً قوية تثخنه ، أي حتّى يُثخن أعداءه فتصير له الغلبة عليهم في معظم المواقع ، ويكون قوله : { في الأرض } قرينة التمثيلية .
والكلام عتاب للذين أشاروا باختيار الفداء والميللِ إليه ، وغضّ النظر عن الأخذ بالحزم في قطع دابر صناديد المشركين ، فإنّ في هلاكهم خضداً لشوكة قومهم فهذا ترجيح للمقتضَى السياسي العَرضي على المقتَضَى الذي بُني عليه الإسلام وهو التيسير والرفق في شؤون المسلمين بعضهم مع بعض كما قال تعالى : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } [ الفتح : 29 ] . وقد كان هذا المسلك السياسي خفيّاً حتّى كأنه ممّا استأثر الله به ، وفي الترمذي ، عن الأعمش : أنّهم في يوم بدر سبقوا إلى الغنائم قبل أن تحلّ لهم ، وهذا قول غريب فقد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم استشارهم ، وهو في الصحيح .
وقرأ الجمهور { أن يكون له } بتحتية على أسلوب التذكير . وقرأه أبو عمرو ، ويعقوب ، وأبو جعفر بمثناة فوقية على صيغة التأنيث ، لأنّ ضمير جمع التكسير يجوز تأنيثه بتأويل الجماعة .
والخطاب في قوله : { تريدون } للفريق الذين أشاروا بأخذ الفداء وفيه إشارة إلى أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام غيرُ معاتَب لأنّه إنّما أخذ برأي الجمهور وجملة : { تريدون } إلى آخرها واقعة موقع العلّة للنهي الذي تضمّنته آية { ما كان لنبيء } فلذلك فصلت ، لأنّ العلّة بمنزلة الجملة المبيِّنة .
و { عرض الدنيا } هو المال ، وإنّما سُمّي عرضاً لأنّ الانتفاع به قليل اللبث ، فأشبه الشيء العارض إذ العروض مرور الشيء وعدم مكثه لأنه يعرض للماشين بدون تهيّؤ . والمراد عرض الدنيا المحض وهو أخذ المال لمجرد التمتع به .
والإرادة هنا بمعنى المحبّة ، أي : تحبون منافع الدنيا والله يحبّ ثواب الآخرة ، ومعنى محبّة الله إيّاها محبّته ذلك للناس ، أي يحبّ لكم ثواب الآخرة ، فعلّق فعل الإرادة بذات الآخرة ، والمقصود نفعها بقرينة قوله : { تريدون عرض الدنيا } فهو حذف مضاف للإيجاز ، وممّا يحسنه أنّ الآخرة المرادة للمؤمن لا يخالط نفعها ضرّ ولا مشقّة ، بخلاف نفع الدنيا .
وإنما ذكر مع { الدنيا } المضافُ ولم يحذف : لأنّ في ذكره إشعاراً بعروضه وسرعة زواله .
وإنّما أحبّ الله نفع الآخرة : لأنّه نفع خالد ، ولأنّه أثر الأعمال النافعة للدين الحقّ ، وصلاح الفرد والجماعة .
وقد نصب الله على نفع الآخرة أمارات ، هي أمارات أمره ونهيه ، فكلّ عرض من أعراض الدنيا ليس فيه حظّ من نفع الآخرة ، فهو غير محبوب لله تعالى ، وكلّ عرض من الدنيا فيه نفع من الآخرة ففيه محبّة من الله تعالى ، وهذا الفداء الذي أحبّوه لم يكن يَحفّ به من الأمارات ما يدلّ على أنّ الله لا يحبّه ، ولذلك تعيّن أنّ عتاب المسلمين على اختيارهم إيّاه حين استشارهم الرسول عليه الصلاة والسلام إنّما هو عتاب على نوايا في نفوس جمهور الجيش ، حين تخيّروا الفداء أي أنهم مَا راعوا فيه إلا محبّة المال لنفع أنفسهم فعاتبهم الله على ذلك لينبّههم على أنّ حقيقاً عليهم أن لا ينسوا في سائر أحوالهم وآرائهم ، الالتفات إلى نفع الدين وما يعود عليه بالقوة ، فإنّ أبا بكر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند الاستشارة « قومك وأهلك استبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك » فنظر إلى مصلحة دينية من جهتين ولعلَّ هذا الملحظ لم يكن عند جمهور أهل الجيش .
ويجوز عندي أن يكون قوله : { تريدون عرض الدنيا } مستعملاً في معنى الاستفهام الإنكاري ، والمعنى : لعلّكم تحبّون عرض الدنيا فإنّ الله يحبّ لكم الثواب وقوة الدين ، لأنّه لو كان المنظور إليه هو النفع الدنيوي ؛ لكان حفظ أنفس الناس مقدّماً على إسعافهم بالمال ، فلما وجب عليهم بذل نفوسهم في الجهاد . فالمعنى : يوشك أن تكون حالكم كحال من لا يحبّ إلاّ عرض الدنيا ، تحذيراً لهم من التوغل في إيثار الحظوظ العاجلة .
وجملة : { والله عزيز حكيم } عطف على جملة : { والله يريد الأخرة } عطفاً يؤذن بأنّ لهذين الوصفين أثراً في أنّه يريد الآخرة ، فيكون كالتعليل ، وهو يفيد أنّ حظ الآخرة هو الحظّ الحقّ ، ولذلك يريده العزيز الحكيم .
فوصف { العزيز } يدلّ على الاستغناء على الاحتياج ، وعلى الرفعة والمقدرة ، ولذلك لا يليق به إلاّ محبة الأمور النفيسة ، وهذا يومىء إلى أن أولياءه ينبغي لهم أن يكونوا أعزّاء كقوله في الآية الأخرى : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } [ المنافقون : 8 ] فلأجل ذلك كان اللائق بهم أن يربأوا بنفوسهم عن التعلّق بسفاسف الأمور وأن يجنحوا إلى معاليها .
ووصف الحكيم يقتضي أنّه العالم بالمنافع الحقّ على ما هي عليه ، لأنّ الحكمة العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه .