قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } . قرأ أبو جعفر للملائكة اسجدوا بضم التاء على جوار ألف اسجدوا وكذلك قرأ ( قل رب احكم بالحق ) بضم الباء ، وضعفه النحاة جداً ونسبوه إلى الغلط فيه واختلفوا في أن هذا الخطاب مع أي الملائكة فقال بعضهم : مع الذين كانوا سكان الأرض . والأصح : أنه مع جميع الملائكة لقوله تعالى : ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون ) وقوله : اسجدوا فيه قولان : الأصح أن السجود كان لآدم على الحقيقة ، وتضمن معنى الطاعة لله عز وجل بامتثال أمره ، وكان ذلك سجود تعظيم وتحية ، لا سجود عبادة ، كسجود إخوة يوسف له في قوله عز وجل ( وخروا له سجداً ) ولم يكن فيه وضع الوجه على الأرض ، إنما كان انحناء ، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام . وقيل : معنى قوله اسجدوا لآدم أي إلى آدم فكان آدم قبلة ، والسجود لله تعالى ، كما جعلت الكعبة قبلةً للصلاة والصلاة لله عز وجل .
قوله تعالى : { فسجدوا } . يعني : الملائكة .
قوله تعالى : { إلا إبليس } . وكان اسمه عزازيل بالسريانية ، وبالعربية الحرث ، فلما عصى غير اسمه وصورته فقيل : إبليس ، لأنه أبلس من رحمة الله تعالى أي يئس . واختلفوا فيه فقال ابن عباس وأكثر المفسرين : كان إبليس من الملائكة ، وقال الحسن : كان من الجن ولم يكن من الملائكة لقوله تعالى ( إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ) فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس ، ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور ، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة ، والأول أصح . لأن خطاب السجود كان مع الملائكة ، وقوله ( كان من الجن ) أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة . وقال سعيد بن جبير : من الذين يعملون في الجنة ، وقال : قوم من الملائكة الذين كانوا يصوغون حلي أهل الجنة ، وقيل : بأن فرقة من الملائكة خلقوا من النار سموا جناً لاستتارهم عن الأعين ، وإبليس كان منهم . والدليل عليه قوله تعالى ( وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً ) وهو قولهم : الملائكة بنات الله ، ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية .
قوله تعالى : { أبى } . أي امتنع فلم يسجد .
قوله تعالى : { واستكبر } . أي تكبر عن السجود لآدم .
قوله تعالى : { وكان } . أي : وصار .
قوله تعالى : { من الكافرين } . وقال أكثر المفسرين : وكان في سابق علم الله من الكافرين الذين وجبت لهم الشقاوة .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي ، أنا ابن الحاكم أبو الفضل محمد ابن الحسين الحدادي ، أنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خالد ، أنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، أنا جرير ووكيع وأبو معاوية عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول : يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فأطاع فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار " .
وبعد أن بين القرآن في الآيات السابقة بعض الكرامات التي خص الله بها آدم ، انتقل إلى بيان كرامة أخرى أكرم الله بها آدم - عليه السلام - وهي أمره للملائكة بالسجود له ، ثم بيان ما حصل بينه وبين إبليس ، فقال - تعالى - :
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر . . . }
قوله - تعالى - : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ . . . } إلخ ، معطوف على قوله - تعالى قبل ذلك { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ . . . . } إلخ ، من باب عطف القصة على القصة ، وإعادة ( إذ ) بعد حرف العطف المغني عن إعادة ظرفه ، تنبيه على أن الجملة مقصودة بذاتها ، لأنها متميزة بهذه القصة العجيبة فجاءت على أسلوب يؤذن بالاستقلال والاهتمام .
والسجود : لغة التذلل والخضوع مع انخفاض بانحناء وغيره ، وخص في الشرع بوضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة .
وللعلماء في كيفية السجود الذي أمر به الملائكة لآدم أقوال : أرجحها أن السجود المأمور به في الآية يحمل على المعنى المعروف في اللغة ، أي : أن الله - تعالى - أمرهم بفعل تجاه آدم يكون مظهراً من مظاهر التواضع والخضوع له تحية وتعظيماً ، وإقراراً له بالفضل دون وضع الجبهة على الأرض الذي هو عبادة ، إذ عبادة غير الله شرك يتنزه الملائكة عنه .
وعلى هذا الرأي سار علماء أهل السنة . وقيل : إن السجود كان لله ، وآدم إنما كان كالقبلة يتوجه إليه الساجدون تحية له ، وإلى هذا الرأي اتجه علماء المعتزلة ، وقد قالوا ذلك هرباً من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم ، فإن أهل السنة قالوا : إبليس من الملائكة ، والصالحون من البشر أفضل من الملائكة ، واحتجوا بسجود الملائكة لآدم ، وخالفت المعتزلة في ذلك ، وقالت : الملائكة أفضل من البشر ، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة .
والذي نراه أن ما سار عليه أهل السنة أرجح ، لأن ما ذهب إليه المعتزلة يبعده أن المقام مقام لإِظهار فضل آدم هو لون من الابتلاء والاختبار ، ليميز الله الخبيث من الطيب ، وينفذ ما سبق به العلم ، واقتضته المشيئة والحكمة :
ثم بين - سبحانه - ما حدث من الملائكة ومن إبليس فقال :
{ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين } .
إبليس : اسم مشتق من الإِبلاس ، وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس ، وفعله أبلس ، والراجح أنه اسم أعجمي ، ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة وهو كائن حي ، وقد أخطأ من حمله على معنى داعي الشر الذي يخطر في النفوس ، إذ ليس من المعقول أن يكون كذلك معنى داعي الشر الذي يخطر في النفوس ، إذ ليس من المعقول أن يكون كذلك مع أن القرآن أخبرنا بأنه يرى الناس ولا يرونه . قال - تعالى - { يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } وقوله : { أبى واستكبر } الإِباء : الامتناع عن الفعل أنفة مع التمكن منه . والاستكبار : التكبر والتعاظم والغرور ، بمعنى أن يرى الشخص في نفسه علواً على غيره ، وهو خلق مذموم .
وكان في قوله : { وَكَانَ مِنَ الكافرين } بمعنى صار .
وجاء العطف في قوله { فَسَجَدُواْ . . . } بالفاء المفيدة للتعقيب ، للإشارة إلى أن الملائكة قد بادروا بالامتثال بدون تردد ، ولم يصدهم ما كان في نفوسهم من التخوف من أن يكون هذا المخلوق ، مظهر فساد وسفك دماء ، لأنهم منزهون عن المعاصي .
وللعلماء في كون إبليس من الملائكة أم لا قولان :
أحدهما : أنه كان منهم لأنه - سبحانه - أمرهم بالسجود لآدم ، ولولا أنه كان منهم لما توجه إليه الأمر بالسجود ، ولو لم يتوجه إليه الأمر بالسجود لم يكن عاصياً ، ولما استحق الخزي والنكال .
ولأن الأصل في المستثنى أن يكون داخلا تحت اسم المستثنى منه حتى يقوم دليل على أنه خارج عنه . وقد اختار هذا الرأي ابن عباس ، وابن مسعود وجمهور المفسرين .
وقيل إنه ليس منهم لقوله - تعالى - { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } فهو أصل الجن ، كما أن آدم أصل الإِنس ، ولأنه خلق من نار ، والملائكة خلقوا من نور ، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة . وقد اختار هذا القول الحسن وقتادة وغيرهما .
وقد حاول ابن القيم أن يجمع بين الرأيين فقال : والصواب التفصيل في هذه المسألة ، وأن القولين في الحقيقة قول واحد ، فإن إبليس كان من الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله . كان من نار وأصل الملائكة من نور ، فالنافي كونه من الملائكة . والمثبت لم يتواردا على محل واحد .
ولما كان استثناء إبليس من الساجدين لا يدل على أنه ترك السجود عصياناً ، إذ قد يكون تركه لعذر ، دل بقول : { أبى واستكبر } على أنه امتنع من السجود أنفة ، وتعاظماً ، وأردف هذا التعاظم والغرور باعتراضه على الله - في تفصيل آدم ، فصار بذلك في فريق الكافرين ، ولذا ختمت الآية بقوله - تعالى - : { وَكَانَ مِنَ الكافرين } أي : صار بسبب عصيانه واستكباره من الكافرين بالله ، الجاحدين لنعمه ، البعيدين عن رحمته ورضوانه .
{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } لما أنبأهم بأسمائهم وعلمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له ، اعترافا بفضله ، وأداء لحقه واعتذارا عما قالوا فيه ، وقيل : أمرهم به قبل أن يسوي خلقه لقوله تعالى : { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } امتحانا لهم وإظهارا لفضله . والعاطف عطف الظرف على الظرف السابق إن نصبته بمضمر ، وإلا عطفه بما يقدر عاملا فيه على الجملة المتقدمة ، بل القصة بأسرها على القصة الأخرى ، وهي نعمة رابعة عدها عليهم . والسجود في الأصل تذلل مع تطامن قال الشاعر :
ترى الأكم فيها سجدا للحوافر *** . . .
وقلن له اسجد لليلى فاسجدا *** . . .
يعني البعير إذا طأطأ رأسه . وفي الشرع : وضع الجبهة على قصد العبادة ، والمأمور به إما المعنى الشرعي فالمسجود له بالحقيقة هو الله تعالى ، وجعل آدم قبلة لسجودهم تفخيما لشأنه ، أو سببا لوجوبه فكأنه تعالى لما خلقه بحيث يكون نموذجا للمبدعات كلها بل الموجودات بأسرها ، ونسخة لما في العالم الروحاني والجسماني وذريعة للملائكة إلى استيفاء ما قدر لهم من الكمالات ، ووصلة إلى ظهور ما تباينوا فيه من المراتب والدرجات ، أمرهم بالسجود تذللا لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته ، وشكرا لما أنعم عليهم بواسطته ، فاللام فيه كاللام في قول حسان رضي الله تعالى عنه :
أليس أول من صلى لقبلتكم *** وأعرف الناس بالقرآن والسنن
أو في قوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس }
وأما المعنى اللغوي وهو التواضع لآدم تحية وتعظيما له ، كسجود إخوة يوسف له ، أو التذلل والانقياد بالسعي في تحصيل ما ينوط به معاشهم ويتم به كمالهم . والكلام في أن المأمورين بالسجود ، الملائكة كلهم ، أو طائفة منهم ما سبق .
{ فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر } امتنع عما أمر به ، استكبارا من أن يتخذه وصلة في عبادة ربه ، أو يعظمه ويتلقاه بالتحية ، أو يخدمه ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه . والإباء : امتناع باختيار . والتكبر أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره . والاستكبار طلب ذلك بالتشبع .
{ وكان من الكافرين } أي في علم الله تعالى ، أو صار منهم باستقباحه أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم اعتقادا بأنه أفضل منه ، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوسل به كما أشعر به قوله : { أنا خير منه }جوابا لقوله : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين } . لا بترك الواجب وحده . والآية تدل على أن آدم عليه السلام أفضل من الملائكة المأمورين بالسجود له ، ولو من وجه ، وأن إبليس كان من الملائكة وإلا لم يتناوله أمرهم ولا يصح استثناؤه منهم ، ولا يرد على ذلك قوله سبحانه وتعالى : { إلا إبليس كان من الجن } لجواز أن يقال إنه كان من الجن فعلا ومن الملائكة نوعا ، ولأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما روي : أن من الملائكة ضربا يتوالدون يقال لهم الجن ومنهم إبليس . ولمن زعم أنه لم يكن من الملائكة أن يقول : إنه كان جنيا نشأ بين أظهر الملائكة ، وكان مغمورا بالألوف منهم فغلبوا عليه ، أو الجن أيضا كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم ، فإنه إذا علم أن الأكابر مأمورون بالتذلل لأحد والتوسل به ، علم أن الأصاغر أيضا مأمورون به ، والضمير في فسجدوا راجع إلى القبيلين كأنه ، قال فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس ، وأن من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم عدم العصمة ، كما أن من الإنس معصومين والغالب فيهم عدم العصمة ، ولعل ضربا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات ، وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات كالبررة والفسقة من الإنس والجن يشملهما . وكان إبليس من هذا الصنف كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فلذلك صح عليه التغير عن حاله والهبوط من محله ، كما أشار إليه بقوله عز وعلا : { إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه } لا يقال : كيف يصح ذلك والملائكة خلقت من نور والجن من نار ؟ لما روت عائشة رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام قال : " خلقت الملائكة من النور ، وخلق الجن من مارج من نار " لأنه كالتمثيل لما ذكرنا فإن المراد بالنور الجوهر المضيء والنار كذلك ، غير أن ضوءها مكدر مغمور بالدخان محذور عنه بسبب ما يصحبه من فرط الحرارة والإحراق ، فإذا صارت مهذبة مصفاة كانت محض نور ، ومتى نكصت عادت الحالة الأولى جذعة ولا تزال تتزايد حتى ينطفئ نورها ويبقى الدخان الصرف ، وهذا أشبه بالصواب وأوفق للجمع بين النصوص ، والعلم عند الله سبحانه وتعالى .
ومن فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه قد يفضي بصاحبه إلى الكفر ، والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض في سره ، وأن الأمر للوجوب ، وأن الذي علم الله تعالى من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة ، إذ العبرة بالخواتم وإن كان بحكم الحال مؤمنا وهو الموافاة المنسوبة إلى شيخنا أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى .
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 34 )
و { قلنا } كناية العظيم عن نفسه بلفظ الجمع ، وقوله للملائكة عموم فيهم .
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع( {[458]} ) : «للملائكةُ اسجدوا » برفع تاء للملائكة إتباعاً لضمة ثالث المستقبل .
وقال الزجاج : «أبو جعفر من رؤساء القرأة ولكنه غلط في هذا » .
قال أبو الفتح : لأن الملائكة في موضع جر فالتاء مكسورة كسرة إعراب ، وهذا الذي ذهب إليه أبو جعفر إنما يجوز إذا كان ما قبل الهمزة حرفاً ساكناً صحيحاً ، نحو قوله تعالى : { وقالت اخرج عليهن }( {[459]} ) [ يوسف : 31 ] والسجود في كلام العرب الخضوع والتذلل ، ومنه قول الشاعر [ زيد الخيل ] : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ترى الأُكْمَ فيهِ سُجَّداً للحوافرِ( {[460]} )
وغايته وضع الوجه بالأرض ، والجمهور على أن سجود الملائكة لآدم إيماء وخضوع ، ذكره النقاش وغيره ، ولا تدفع الآية أن يكونوا بلغوا غاية السجود .
قوله تعالى : { فقعوا له ساجدين } [ الحجر : 29 ] لا دليل فيه( {[461]} ) لأن الجاثي على ركبتيه واقع .
واختلف في حال السجود لآدم ، فقال ابن عباس : «تعبدهم الله بالسجود لآدم ، والعبادة في ذلك لله » .
وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس : «إنما كان سجود تحية كسجود أبوي يوسف عليه السلام ، لا سجود عبادة » .
وقال الشعبي : «إنما كان آدم كالقبلة( {[462]} ) ، ومعنى لآدم إلى آدم »( {[463]} ) .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وفي هذه الوجوه كلها كرامة لآدم عليه السلام .
وحكى النقاش عن مقاتل : «أن الله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم قبل أن يخلقه » .
قال : «والقرآن يرد على هذا القول » .
وقال قوم : سجود الملائكة كان مرتين ، والإجماع يرد هذا .
وقوله تعالى : { إلا إبليس } نصب على الاستثناء المتصل ، لأنه من الملائكة على قول الجمهور ، وهو ظاهر الآية ، وكان خازناً وملكاً على سماء الدنيا والأرض ، والأرض ، واسمه عزازيل ، قاله ابن عباس .
وقال ابن زيد والحسن : «هو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر ، ولم يكن قط ملكاً » .
وقد روي نحوه عن ابن عباس أيضاً ، قال : «واسمه الحارث »( {[464]} ) .
وقال شهر بن حوشب : كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيراً ، وتعبد وخوطب معها( {[465]} ) ، وحكاه الطبري عن ابن مسعود : والاستثناء على هذه الأقوال منقطع ، واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله تعالى قال صفة للملائكة : «لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون »( {[466]} ) .
ورجح الطبري قول من قال : «إن إبليس كان من الملائكة » . وقال : «ليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة والنسل فيه حين غضب عليه ما يدفع أنه كان من الملائكة » .
وقوله عز وجل : { كان من الجن ففسق عن أمر ربه }( {[467]} ) [ الكهف : 50 ] يتخرج على أنه عمل عملهم فكان منهم في هذا ، أو على أن الملائكة قد تسمى جناً لاستتارها ، قال تعالى : { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً }( {[468]} ) [ الصافات : 158 ] .
وقال الأعشى( {[469]} ) في ذكر سليمان عليه السلام : [ الطويل ]
وسخّر من جن الملائك تسعة . . . قياماً لديه يعملون بلا أجْرِ
أو على أن يكون نسبهم إلى الجنة كما ينسب إلى البصرة بصريّ ، لما كان خازناً عليها ، و { إبليس } لا ينصرف لأنه اسم أعجمي معرف( {[470]} ) .
قال الزجاج : «ووزنه فِعْليل » .
وقال ابن عباس والسّدي وأبو عبيدة وغيرهم : هو مشتق من أبلس إذا أبعد عن الخير ، ووزنه على هذا إفعيل ولم تصرفه هذه الفرقة لشذوذه ، وأجروه مجرى إسحاق من أسحقه الله ، وأيوب من آب يؤوب ، مثل قيوم من قام يقوم ، ولما لم تصرف هذه -ولها وجه من الاشتقاق- كذلك لم يصرف هذا وإن توجه اشتقاقه لقلته وشذوذه ، ومن هذا المعنى قول الشاعر العجاج : [ الرجز ] .
يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا . . . قال نعمْ أعرفه وأبلسا( {[471]} )
أي تغير وبعد عن العمار والإنس به ومثله قول الآخر : [ الرجز ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وفي الوجوه صفرة وإبلاس( {[472]} )
ومنه قوله تعالى : { فإذا هم مبلسون }( {[473]} ) [ الأنعام : 44 ] أي يائسون عن الخير مبعدون منه فيما يرون- و { أبى } معناه امتنع من فعل ما أمر به ، و { استكبر } دخل في الكبرياء ، والإباية مقدمة على الاستكبار في ظهورهما عليه ، والاستكبار والأنفة مقدمة في معتقده . ( {[474]} )
وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال : بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر والشح( {[475]} ) ، حسد إبليس آدم وتكبر ، وشح آدم في آكله من شجرة قد نهي عن قربها .
حكى المهدوي عن فرقة أن معنى { وكان من الكافرين } : وصار( {[476]} ) من الكافرين .
وقال ابن فورك : «وهذا خطأ ترده الأصول » .
وقالت فرقة : «قد كان تقدم قبل من الجن من كفر فشبهه الله بهم وجعله منهم ، لما فعل في الكفر فعلهم » .
وذكر الطبري عن أبي العالية أنه كان يقول : «وكان من الكافرين معناه : من العاصين » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وتلك معصية كفر لأنها عن معتقد فاسد صدرت .
وروي أن الله تعالى خلق خلقاً وأمرهم بالسجود لآدم فعصوا فأحرقهم بالنار ، ثم خلق آخرين وأمرهم بذلك فعصوا فأحرقهم ، ثم خلق الملائكة فأمرهم بذلك فسجدوا .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والإسناد في مثل هذا غير وثيق .
وقال جمهور المتأولين : معنى { وكان من الكافرين } أي في علم الله تعالى أنه سيكفر ، لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة . ( {[477]} )
وذهب الطبري : إلى أن الله أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم وهم اليهود الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، مع علمهم بنبوته ومع تقدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم ، واختلف هل كفر إبليس جهلاً أو عناداً على قولين بين أهل السنة ، ولا خلاف أنه كان عالماً بالله قبل كفره ، فمن قال إنه كفر جهلاً : قال : «إنه سلب العلم عند كفره » . ومن قال كفر عناداً قال : «كفر ومعه علمه » ، قال : والكفر عناداً مع بقاء العلم مستبعد ، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن شاء( {[478]} ) . ولا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة ، وبعد إخراجه قال لآدم اسكن .