75- جعل الله مثلا يوضح فساد ما عليه المشركون ، بعبد مملوك لا يقدر على فعل شيء ، وبحرّ رزقه الله رزقاً طيباً حلالا ، فهو يتصرف فيه ، وينفق منه في السر والجهر . هل يستوي العبيد الذين لا يقدرون على شيء ، والأحرار الذين يملكون ويتصرفون فيما يملكون ؟ إن الله ملك كل شيء ، فهو يتصرف في ملكوته كما يريد ، وغيره لا يملك أي شيء فلا يستحق أن يُعبد ويُحمد ، الثناء كله حق لله وحده ، والتنزيه له وحده ، وله العلو وحده ؛ لأن كل خير صدر عنه ، وكل جميل مرده إليه ، ولا يفعل هؤلاء ما يفعلون عن علم ، وإنما يفعلون ما يفعلون تقليداً لرؤسائهم ، بل أكثرهم لا يعلمون ، فيضيفون نعمه إلى غيره ، ويعبدونه من دونه .
ثم ضرب مثلاً للكافرين والمؤمنين ، فقال جل ذكره : { ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء } ، هذا مثل الكافر رزقه الله مالاً ، فلم يقدم فيه خيراً ، { ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً } ، هذا مثل المؤمن ، أعطاه الله مالاً ، فعمل فيه بطاعة الله ، وأنفقه في رضاء الله ، سراً وجهراً ، فأثابه الله عليه الجنة . { هل يستوون } ، ولم يقل : يستويان لمكان " من " ، وهو اسم يصلح للواحد والاثنين والجمع ، وكذلك قوله : { لا يستطيعون } ، بالجمع لأجل ما . معناه : هل يستوي هذا الفقير البخيل ، والغني السخي ؟ كذلك لا يستوي الكافر العاصي والمؤمن المطيع . وروى ابن جريج عن عطاء في قوله : { عبداً مملوكاً } ، أي : أبو جهل بن هشام ، { ومن رزقناه منا رزقاً حسناً } ، أبو بكر الصديق رضي الله عنه . ثم قال : { الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون } ، يقول ليس الأمر كما تقولون ، ما للأوثان عندهم من يد ولا معروف فتحمد عليه ، إنما الحمد الكامل لله عز وجل ؛ لأنه المنعم والخالق والرازق ، ولكن أكثر الكفار لا يعلمون .
ثم وضح لهم - سبحانه - كيف تضرب الأمثال ، فساق مثلين حكيمين يدلان على وحدانية الله - تعالى - وقدرته . .
أما المثل الأول : فيتجلى في قوله - عز وجل - : { ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ . . } ، أي : ذكر الله - تعالى - وبين ووضح لكم مثلا تستدلون به على وحدانيته - سبحانه - : وهو أن هناك عبدا رقيقا مملوكا لغيره ، وهذا العبد لا يقدر على شيء من التصرفات حتى ولو كانت قليلة .
وقوله - سبحانه - : { عبدا } ، بدل من { مثلا } ، و { مملوكا } ، صفة للعبد . ووصف - سبحانه - العبد بأنه مملوك ؛ ليحصل الامتياز بينه وبين الحر ؛ لأن كليهما يشترك في كونه عبدا لله - تعالى - . ووصفه أيضا - بأنه لا يقدر على شيء ؛ للتمييز بينه وبين المكاتب والعبد المأذون له في التصرف ؛ لأنهما يقدران على بعض التصرفات . هذا هو الجانب الأول من المثل ، أما الجانب الثاني : فيتجلى في قوله - تعالى - : { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً . . . } . قال الألوسي : " و " من " في قوله : { ومن رزقناه } ، نكرة موصوفة ، ليطابق عبدا ، فإنه نكرة موصوفة - أيضا - ، وقيل : إنها موصولة ، والأول اختيار الأكثرين ، أي : حرا رزقناه بطريق الملك ، والالتفات إلى التكلم - في { رزقناه } ؛ للإِشعار باختلاف حال ضرب المثل والرزق . . . " .
أي : ذكر الله - تعالى - لكم لتتعظوا وتتفكروا ، حال رجلين : أحدهما : عبد مملوك لا يقدر على شيء . والثاني حر مالك رزقه الله - تعالى - رزقا واسعا حلالا حسنا ، { فهو } ، أي : هذا الحر ينفق على غيره من هذا الرزق الحسن { سرا وجهرا } ، واختار - سبحانه - ضمير العظمة في قوله : { رزقناه } ؛ للإِشعار بكثره هذا الرزق وعظمته ، ويزيده كثرة وعظمة قوله - تعالى - بعد ذلك : { مِنَّا } ، أي : من عندنا وحدنا ، وليس من عند غيرنا . ووصف - سبحانه - الرزق بالحسن ؛ للإشارة إلى أنه مع كثرته فهو حلال طيب مستحسن في الشرع وفي نظر الناس .
وقال - سبحانه - : { فهو ينفق } بصيغة الجملة الاسمية ، للدلالة على ثبوت هذا الإنفاق ودوامه .
وقوله : { سرا وجهرا } ، منصوبان على المصدر ، أي : إنفاق سر وجهر ، أو على الحالية ، أي : فهو ينفق منه في حالتي السر والجهر . والمراد أنه إنسان كريم ، لا يبخل بشيء مما رزقه الله ، بل ينفق منه في عموم الأحوال ، وعلى من تحسن معه النفقة سرا ، وعلى من تحسن معه النفقة جهرا . هذان هما الجانبان المتقابلان في هذا المثل ، والفرق بينهما واضح وعظيم عند كل ذي قلب سليم ، ولذا جاء بعدهما بالاستفهام الإِنكاري التوبيخى فقال : { هل يستوون } ؟ أي : هل يستوي في عرفكم أو في عرف أي عاقل ، هذا العبد المملوك العاجز الذي لا يقدر على شيء . . مع هذا الإنسان الحر المالك الذي رزقه الله - سبحانه - رزقا واسعا حلالا ، فشكر الله عليه ، واستعمله في وجوه الخير . إن مما لا شك فيه أنهما لا يستويان حتى في نظر من عنده أدنى شيء من عقل .
ومادام الأمر كذلك ، فكيف سويتم - أيها المشركون الجهلاء - في العبادة ، بين الخالق الرازق الذي يملك كل شيء ، وبين غيره من المعبودات الباطلة التي لا تسمع ولا تبصر ، ولا تعقل ، ولا تملك شيئا .
وقال - سبحانه - : { هل يستوون } ، مع أن المتقدم اثنان ؛ لأن المراد جنس العبيد والأحرار ، المدلول عليهما بقوله : { عبدا } ، وبقوله : { ومن رزقناه } . فالمقصود بالمثل كل من اتصف بهذه الأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين ، لا فردان معينان .
وقوله : { الحمد لله } ، ثناء منه - سبحانه - على ذاته ، حيث ساق - سبحانه - هذه الأمثال الواضحة للتمييز بين الحق والباطل ، أي : قل - أيها الانسان المؤمن العاقل - : { الحمد } كله { لله } - تعالى - على إرشاده لعباده المؤمنين ، وتعليمهم كيف يقذفون بحقهم على باطل أعدائهم فإذا هو زاهق .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، أي : بل أكثر هؤلاء الكافرين الضالين لا يعلمون كيف يميزون بين الحق والباطل ؛ لانطماس بصائرهم ، واستيلاء الجحود والحسد والعناد على قلوبهم .
وقال - سبحانه - { بل أكثرهم . . } ؛ للإِشعار بأن من هؤلاء الكافرين من يعلم الحق ويعرفه كما يعرف أبناءه ، ولكن الهوى والغرور والتقليد الباطل . . حال بينه وبين اتباع الحق . هذا هو المثال الأول الذي ذكره الله - تعالى - للاستدلال على بطلان التسوية بين عبادة الله - تعالى - الخالق لكل شيء والمالك لكل شيء . . وبين عبادة غيره من الأصنام والجمادات التي لا تخلق شيئا ، ولا تملك شيئا ، ولا تضر ولا تنفع .
قال العوفي ، عن ابن عباس : هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن : وكذا قال قتادة ، واختاره ابن جرير .
والعبد{[16595]} المملوك الذي لا يقدر على شيء ، مثل الكافر والمرزوق الرزق الحسن ، فهو ينفق منه سرا وجهرا ، هو{[16596]} المؤمن .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى ، فهل يستوي هذا وهذا ؟
ولما كان الفرق ما بينهما بينا واضحا ظاهرًا لا يجهله إلا كل غبي ، قال الله{[16597]} تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } . {[16598]}
ثم علمهم كيف يضرب ، فضرب مثلا لنفسه ولمن عبد دونه فقال : { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو يُنفق منه سرا وجهرا هل يستوون } ، مثل ما يشرك به بالمملوك العاجز عن التصرف رأسا ، ومثل نفسه بالحر المالك الذي رزقه الله مالا كثيرا ، فهو يتصرف فيه وينفق منه كيف يشاء ، واحتج بامتناع الاشتراك والتسوية بينهما مع تشاركهما في الجنسية والمخلوقية ، على امتناع التسوية بين الأصنام التي هي أعجز المخلوقات ، وبين الله الغني القادر على الإطلاق . وقيل : هو تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق ، وتقييد العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر ، فإنه أيضا عبد الله ، وبسلب القدرة للتمييز عن المكاتب والمأذون ، وجعله قسيما للمالك المتصرف ، يدل على أن : المملوك لا يملك ، والأظهر أن : { من } ، نكرة موصوفة ليطابق { عبدا } ، وجمع الضمير في : { يستوون } ؛ لأنه للجنسين ، فإن المعنى : هل يستوي الأحرار والعبيد ؟ { الحمد لله } ، كل الحمد له ، لا يستحقه غيره ، فضلا عن العبادة ؛ لأنه مولى النعم كلها . { بل أكثرهم لا يعلمون } ، فيضيفون نعمة إلى غيره ، ويعبدونه لأجلها .
وقوله : { ضرب الله مثلاً } الآية ، هو مثال في هذه الآية هو عبد بهذه الصفة ، مملوك لا يقدر على شيء من المال ولا من أمر نفسه ، وإنما هو مسخر بإرادة سيده مدبر ، ولا يلزم من هذا أن العبيد كلهم بهذه الصفة ، كما انتزع بعض من ينتحل الفقه ، وقد قال في المثال : لا يقدر على شيء فيلزم على هذا الانتزاع أن يكون مؤمناً ينفق بحسب الطاعة ، وذلك أنه أشرف أن يكون مثالاً ، والرزق ما صح الانتفاع به ، وقال أبو منصور في عقيدته{[7377]} : الرزق ما وقع الاغتذاء به ، وهذه الآية ترد على هذا التخصيص ، وكذلك قوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون }{[7378]} [ البقرة : 30 ] ، و { أنفقوا مما رزقناكم }{[7379]} [ البقرة : 254 ] ، وغير ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم : «جعل رزقي في ظل رمحي »{[7380]} ، وقوله : «أرزاق أمتي في سنابك خيلها ، وأسنة رماحها ، فالغنيمة كلها رزق » ، والصحيح أن ما صح الانتفاع به هو الرزق ، وهو مراتب أعلاها ما تغذي به ، وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه الانتفاع في قوله :«يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت »{[7381]} .
قال القاضي أبو محمد : وفي معنى اللباس ، يدخل المركوب ونحوه ، واختلف الناس في الذي هو له هذا المثيل ، فقال قتادة وابن عباس : هو مثل الكافر والمؤمن ، فكأن الكافر مملوك مصروف عن الطاعة ، فهو لا يقدر على شيء لذلك . ويشبه ذلك العبد المذكور .
قال القاضي أبو محمد : والتمثيل على هذا التأويل إنما وقع في جهة الكافر فقط ، جعل له مثالاً ، ثم قرن بالمؤمن المرزوق ، إلا أن يكون المرزوق ليس بمؤمن ، وإنما هو مثال للمؤمن ، فيقع التمثيل من جهتين ، وقال مجاهد والضحاك : هذا المثال والمثال الآخر الذي بعده إنما هو لله تعالى والأصنام ، فتلك هي للعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء ، والله تعالى تتصرف قدرته دون معقب ، وكذلك فسر الزجاج على نحو قول مجاهد .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل أصوب ؛ لأن الآية تكون من معنى ما قبلها وبعدها في تبين أمر الله والرد على أمر الأصنام ، وذكر الطبري عن ابن عباس أنه قال : نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان ، وعبد كان له ، وروي تعيين غير هذا ولا يصح إسناده .
قال القاضي أبو محمد : والمثل لا يحتاج إلى تعيين أحد ، وقوله : { الحمد لله } ، شكر على بيان الأمر بهذا المثال وعلى إذعان الخصم له ، وهذا كما تقول لمن أذعن لك . في حجة وسلم ما تبني أنت عليه قولك : الله أكبر ، على هذا يكون كذا وكذا ، فلما قال هنا { هل يستوون } ؟ فكأن الخصم قال له لا فقال الحمد لله ظهرت الحجة ، وقوله : { بل أكثرهم لا يعلمون } ، يريد لا يعلمون أبداً ، ولا يداخلهم إيمان ، ويتمكن على هذا قوله : { أكثرهم } ؛ لأن الأقل من الكفار هو الذي آمن من أولئك ، ولو كان معنى قوله : { لا يعلمون } ، أي : الآن ، لكان قوله : { أكثرهم } ، بمعنى : الاستيعاب ؛ لأنه لم يكن أحد منهم يعلم .
أعقب زجرهم عن أن يشبّهوا الله بخلقه أو أن يشبّهوا الخلق بربّهم بتمثيل حالهم في ذلك بحال من مثل عبداً بسيّده في الإنفاق ، فجملة { ضرب الله مثلاً عبداً } الخ مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يملك رزقاً من السموات والأرض شيئاً ولا يستطيعون } [ سورة النحل : 73 ] .
فشبّه حال أصنامهم في العجز عن رزقهم بحال مملوك لا يقدر على تصرّف في نفسه ولا يملك مالاً ، وشبّه شأن الله تعالى في رَزقه إيّاهم بحال الغنيّ المالك أمر نفسه بما شاء من إنفاق وغيره ، ومعرفة الحالين المشبّهتين يدلّ عليها المقام ، والمقصود نفي المماثلة بين الحالتيْن ، فكيف يزعمون مماثلة أصنامهم لله تعالى في الإلهية ، ولذلك أعقب بجملة { هل يستوون } .
وذيّل هذا التمثيل بقوله تعالى : { بل أكثرهم لا يعلمون } كما في سورة إبراهيم ( 26 ) { ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة } إلى قوله تعالى : { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة } الآية ، فإن المقصود في المقامين متّحد ، والاختلافُ في الأسلوب إنما يومىء إلى الفرق بين المقصود أولاً والمقصود ثانياً كما أشرنا إليه هنالك .
والعبد : الإنسان الذي يملكه إنسان آخر بالأسر أو بالشّراء أو بالإرث .
وقد وُصف { عبداً } هنا بقوله : { مملوكاً } تأكيداً للمعنى المقصود وإشعاراً لما في لفظ عبد من معنى المملوكية المقتضية أنه لا يتصرّف في عمله تصرف الحرّية .
وانتصب { عبداً } على البدلية من قوله تعالى : { مثلاً } وهو على تقدير مضاف ، أي حال بعد ، لأن المثل هو للهيئة المنتزعة من مجموع هذه الصّفات . وجملة { لا يقدر على شيء } صفة { عبداً } ، أي عاجزاً عن كلّ ما يقدر عليه الناس ، كأن يكون أعمى وزمناً وأصمّ ، بحيث يكون أقل العبيد فائدة .
فهذا مَثَل لأصنامهم ، كما قال تعالى : { والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون أموات غير أحياء } [ سورة النحل : 20 ] ، وقوله تعالى : { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً } [ سورة العنكبوت : 17 ] .
ومن } موصولة ما صدْقها حُرّ ، بقرينة أنه وقع في مقابلة عبد مملوك ، وأنه وصف بالرزق الحسن فهو ينفق منه سرّاً وجهراً ، أي كيف شاء . وهذا من تصرّفات الأحرار ، لأن العبيد لا يملكون رزقاً في عرف العرب . وأما حكم تملّك العبد مالاً في الإسلام فذلك يرجع إلى أدلّة أخرى من أصول الشريعة الإسلامية ولا علاقة لهذه الآية به .
والرزق : هنا اسم للشيء المرزوق به .
والحَسن : الذي لا يشوبه قبح في نوعه مثل قِلّة وجدان وقت الحاجة ، أو إسراع فسادٍ إليه كسوس البُرّ ، أو رداءة كالحشف . ووجه الشبه هو المعنى الحاصل في حال المشبّه به من الحقارة وعدم أهليّة التصرّف والعجز عن كل عمل ، ومن حال الحرية والغنى والتصرّف كيف يشاء .
وجعلت جملة { فهو ينفق منه } مفرّعة على التي قبلها دون أن تجعل صفة للرزق للدّلالة على أن مضمون كلتا الجملتين مقصودٌ لذاته كمالٌ في موصوفه ، فكونه صاحب رزق حَسَن كمال ، وكونه يتصرّف في رزقه بالإعطاء كمال آخر ، وكلاهما بضدّ نقائص المملوك الذي لا يقدر على شيء من الإنفاق ولا ما ينفق منه .
وجعل المسند فعلاً للدّلالة على التقوّي ، أي ينفق إنفاقاً ثابتاً . وجعل الفعل مضارعاً للدّلالة على التجدّد والتكرر . أي ينفق ويزيد .
و { سراً وجهراً } حالان من ضمير { ينفق } ، وهما مصدران مؤوّلان بالصّفة ، أي مُسرّاً وجاهراً بإنفاقه . والمقصود من ذكرهما تعميم الإنفاق ، كناية عن استقلال التصرّف وعدم الوقاية من مانع إيّاه عن الإنفاق .
وهذا مثَل لغنى الله تعالى وجوده على الناس .
وجملة { هل يستوون } بيان لجملة { ضرب الله مثلاً } ، فبُيّن غرض التشبيه بأنّ المثل مراد منه عدم تساوي الحالتين ليستدلّ به على عدم مساواة أصحاب الحالة الأولى لصاحب الصّفة المشبّهة بالحالة الثانية .
والاستفهام مستعمل في الإنكار .
وأما جملة { الحمد لله } فمعترضة بين الاستفهام المفيد للنفي وبين الإضراب ب { بل } الانتقالية . والمقصود من هذه الجملة أنه تبيّن من المثل اختصاص الله بالإنعام فوجب أن يختصّ بالشكر وأن أصنامهم لا تستحقّ أن تشكر .
ولما كان الحمد مظهراً من مظاهر الشكر في مظهر النّطق جعل كناية عن الشكر هنا ، إذ كان الكلام على إخلال المشركين بواجب الشكر إذْ أثنوا على الأصنام وتركوا الثناء على الله ، وفي الحديث « الحمدُ رأس الشّكر »{[260]} .
جيء بهذه الجملة البليغة الدّلالة المفيدة انحصار الحمد في مِلْك الله تعالى ، وهو إما حصر ادّعائي لأن الحمد إنما يكون على نعمة ، وغير الله إذا أنعم فإنما إنعامه مظهر لنعمة الله تعالى التي جرت على يديه ، كما تقدم في صدر سورة الفاتحة ، وإما قصر إضافي قصرَ إفراد للردّ على المشركين إذ قسموا حمدهم بين الله وبين آلهتهم .
ومناسبة هذا الاعتراض هنا تقدُّم قوله تعالى : { وبنعمت الله هم يكفرون } [ سورة النحل : 72 ] { ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً } [ سورة النحل : 73 ] . فلما ضرب لهم المثل المبيّن لخطئهم وأعقب بجملة { هل يستوون } ثُني عنان الكلام إلى الحمد لله لا للأصنام .
وجملة { بل أكثرهم لا يعلمون } إضراب للانتقال من الاستدلال عليهم إلى تجهيلهم في عقيدتهم .
وأسند نفي العلم إلى أكثرهم لأن منهم من يعلم الحقّ ويكابر استبقاء للسيادة واستجلاباً لطاعة دهمائهم ، فهذا ذَمّ لأكثرهم بالصراحة وهو ذمّ لأقلّهم بوصمة المكابرة والعناد بطريق التعريض .
وهذا نظير قوله تعالى في سورة الزمر ( 29 ) { ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلَما لرجل هل يستويان مثلاً الحمدُ لله بل أكثرهم لا يعلمون } وإنما جاءت صيغة الجمع في قوله تعالى { هل يستوون } لمراعاة أصحاب الهيئة المشبّهة ، لأنها أصنام كثيرة كل واحد منها مشبّه بعبد مملوك لا يقدر على شيء ، فصيغة الجمع هنا تجريد للتمثيلية ، أي هل يستوي أولئك مع الإله الحقّ القادر المتصرّف . وإنما أجري ضمير جمعهم على صيغة جمع العالم تغليباً لجانب أحد التمثيلين وهو جانب الإله القادر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ضرب للكفار مثلا ليعتبروا، فقال: {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء}، من الخير والمنفعة في طاعة الله عز وجل... يقول: فكذلك الكافر لا يقدر أن ينفق خيرا لمعاده، ثم قال عز وجل: {ومن رزقناه منا رزقا حسنا}، يعني: واسعا، وهو المؤمن... {فهو ينفق منه}، فيما ينفعه في آخرته، {سرا وجهرا}، يعني: علانية، {هل يستون}، الكافر الذي لا ينفق خيرا لمعاده، والمؤمن الذي ينفق في خير لمعاده، ثم جمعهم، فقال تعالى: {الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون}، بتوحيد الله عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وشَبّه لكم شَبها أيها الناس للكافر من عبيده، والمؤمن به منهم. فأما مثَل الكافر: فإنه لا يعمل بطاعة الله، ولا يأتي خيرا، ولا ينفق في شيء من سبيل الله ماله لغلبة خذلان الله عليه، كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء فينفقه. وأما المؤمن بالله: فإنه يعمل بطاعة الله، وينفق في سبيله ماله، كالحرّ الذي آتاه الله مالاً فهو ينفق منه سرّا وجهرا، يقول: بعلم من الناس وغير علم. {هَلْ يَسْتَوُونَ} يقول: هل يستوي العبد الذي لا يملك شيئا ولا يقدر عليه، وهذا الحرّ الذي قد رزقه الله رزقا حسنا، فهو ينفق كما وَصَف؟ فكذلك لا يستوي الكافر العامل بمعاصي الله المخالف أمره، والمؤمن العامل بطاعته...
وقوله: {الحَمْدُ لِلّهِ}، يقول: الحمد الكامل لله خالصا دون ما تَدْعُون أيها القوم من دونه من الأوثان، فإياه فاحمدوا دونها.
وقوله: {بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} يقول: ما الأمر كما تفعلون، ولا القول كما تقولون، ما للأوثان عندهم من يد ولا معروف فتُحْمد عليه، إنما الحمد لله، ولكن أكثر هؤلاء الكفرة الذين يعبدونها لا يعلمون أن ذلك كذلك، فهم بجهلهم بما يأتون ويَذَرون، يجعلونها لله شركاء في العبادة والحمد.
وكان مجاهد يقول: ضرب الله هذا المثل، والمثل الآخر بعده لنفسه، والآلهة التي تعبد من دونه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: أن من لا يقدر، لا يملك أن يُنْفِق في الشاهد عندكم ليس كمن يملك، ويقدر أن ينفق، فهو كقوله: {هل يستوي الأعمى والبصير} (الرعد: 16). وكقوله: {مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} (هود: 24)، أي: ليس يستوي البصير والأعمى، والأصم والسميع. فعلى ذلك لا يستوي من يملك الإنفاق والإنعام على الخلق، وهو المعبود الحق، ومن لا يملك ذلك، وهو المعبود الباطل...
والثاني: ضرب مثل المؤمن والكافر: إن الكافر لا ينفق ما أنعم عليه من المال في طاعة الله ولا في خيراته، والمؤمن ينفق ما أنعم عليه وأُعطي، في طاعة الله وخيراته. فليسا بسواء: من أنفق في طاعة الله كمن لا ينفق شيئا:
أحدهما: يكون ضرب مثل الإله الحق والمعبود الحق بالمعبود الباطل.
والثاني: يكون ضرب مثل المؤمن بالكافر...
ثم في الآية وجوه من الدلائل... أن العبد لا يملك حقيقة الملك حين ذكر: {عبدا مملوكا لا يقدر على شيء} وإن قدر ما يملك، إنما يملك بإذن من له الملك. وكذلك الخلائق كلهم، لا يملكون حقيقة الإملاك، إنما حقيقة الملك في الأشياء لله، وإن قدر ما يملكون إنما يملكون بالإذن على قدر ما أذن لهم...
إن العبد لا يملك الإنفاق والتصدق حين قال: {عبدا مملوكا لا يقدر على شيء}، ثم قال في من يملك: {ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق}، دل أنه لا يملك العبد الإنفاق والهبة...
{هل يستوون} مثلا، {الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون}، قال بعضهم: ذكر الحمد لله على إثر ما ذكر أنه عرف رسوله النعم وأنواع المنافع، ثم عرفه على إثر ذلك الحمد...
ثم قوله تعالى: {لا يعلمون}، يحتمل نفي العلم عنهم لما لم ينتفعوا بما علموا، أو على حقيقة النفي لما لم ينظروا في الآيات والحجج، ولم يتأملوا فيها، فلم يعلموا، والله أعلم...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
، ومعنى الآية: هل يستوي هذا الفقر والبخل والغنى والسخاء، فكذلك لا يستوي الكافر العاصي المخالف لأمر الله، والمؤمن المطيع له.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وفي هذه الآية دلالة على أن المملوك لا يملك شيئا، لأن قوله "مملوكا لا يقدر على شيء "ليس المراد به: نفي القدرة، لأنه قادر على التصرف، وإنما المراد: أنه لا يملك التصرف في الأموال، وذلك عام في جميع ما يملك ويتصرف فيه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم علمهم كيف تضرب، فقال: مثلكم في إشراككم بالله الأوثان، مثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حرّ مالك قد رزقه الله مالاً، فهو يتصرف فيه، وينفق منه كيف شاء.
فإن قلت: لم قال: {مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَيء} وكل عبد مملوك، وغير قادر على التصرف؟ قلت: أما ذكر المملوك، فليميز من الحرّ؛ لأن اسم العبد يقع عليهما جميعاً؛ لأنهما من عباد الله. وأما: {لاَّ يَقْدِرُ على شَيء}، فليجعل غير مكاتب ولا مأذون له؛ لأنهما يقدران على التصرف. واختلفوا في العبد هل يصح له ملك؟ والمذهب الظاهر أنه لا يصحّ له.
فإن قلت: {من}، في قوله: {وَمَن رزقناه} ما هي؟ قلت: الظاهر أنها موصوفة، كأنه قيل: وحراً رزقناه؛ ليطابق عبداً. ولا يمتنع أن تكون موصولة.
فإن قلت: لم قيل: {يَسْتَوُونَ} على الجمع؟ قلت: معناه: هل يستوي الأحرار والعبيد؟
القول الأول: أن المراد أنا لو فرضنا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء، وفرضنا حرا كريما غنيا كثير الإنفاق سرا وجهرا، فصريح العقل يشهد بأنه لا تجوز التسوية بينهما في التعظيم والإجلال فلما لم تجز التسوية بينهما مع استوائهما في الخلقة والصورة والبشرية، فكيف يجوز للعاقل أن يسوي بين الله القادر على الرزق والأفضال، وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر البتة...
والقول الثاني: أن المراد بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء هو الكافر، فإنه من حيث إنه بقي محروما عن عبودية الله تعالى وعن طاعته صار كالعبد الذليل الفقير العاجز، والمراد بقوله: {ومن رزقناه منا رزقا حسنا} هو المؤمن فإنه مشتغل بالتعظيم لأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله فبين تعالى أنهما لا يستويان في المرتبة والشرف والقرب من رضوان الله تعالى...
واعلم أن القول الأول أقرب، لأن ما قبل هذه الآية وما بعدها إنما ورد في إثبات التوحيد، وفي الرد على القائلين بالشرك فحمل هذه الآية على هذا المعنى أولى...
المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بقوله: {عبدا مملوكا لا يقدر على شيء}.
والقول الثالث: أنه عام في كل عبد بهذه الصفة وفي كل حر بهذه الصفة، وهذا القول هو الأظهر، لأنه هو الموافق لما أراده الله تعالى في هذه الآية، والله أعلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ختم سبحانه بذلك؛ تأكيداً لإبطال مذهب عبدة الأصنام، بسلب العلم الذي هو مناط السداد عنهم، حسن أن يصل به قوله -إقامة للدليل على علمه بأن أمثاله لا يتطرق إليها الطعن، ولا يتوجه نحوها الشكوك -: {ضرب الله}، أي: الذي له كمال العلم وتمام القدرة، {مثلاً}، بالأحرار والعبيد له ولما عبدتموه معه؛ ثم أبدل من مثلاً: {عبداً}، ولما كان العبد يطلق على الحر بالنسبة إلى الله تعالى، قال تعالى: {مملوكاً}، لا مكاتباً ولا فيه شائبة للحرية، {لا يقدر على شيء} بإذن سيده ولا غيره، وهذا مثل شركائهم، ثم عطف على:"عبداً"، قوله: {ومن رزقناه منا}، من الأحرار، {رزقاً حسناً}، واسعاً طيباً، {فهو ينفق منه} دائماً، وهو معنى: {سراً وجهراً}، وهذا مثل الإله وله المثل الأعلى؛ ثم بكتهم إنكاراً عليهم بقوله تعالى: {هل يستوون}، أي: هذان الفريقان الممثل بهما؛ لأن المراد الجنس، فإذا كان لا يسوغ في عقل أن يسوي بين مخلوقين: أحدهما حر مقتدر والآخر مملوك عاجز، فكيف يسوي بين حجر موات أو غيره وبين الله الذي له القدرة التامة على كل شيء؟
ولما كان الجواب قطعاً: لا، وعلم أن الفاضل ما كان مثالاً له سبحانه، على أن من سوى بينهما، أو فعل ما يؤول إلى التسوية أجهل الجهلة.
فثبت مضمون: {إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون}، وأن غيره تعالى لا يساوي شيئاً، فثبت بلا ريب أنه المختص بالمثل الأعلى، فعبر عن ذلك بقوله تعالى: {الحمد لله}، أي: له الإحاطة بالعلم، وجميع صفات الكمال التي منها اختصاصه بالشكر؛ لكونه هو المنعم وليس لغيره إحاطة بشيء من ذلك ولا غيره، فكأنهم قالوا: نحن نعلم ذلك، فقيل: {بل أكثرهم}، أي: في الظاهر والباطن- بما أشار إليه الإضمار {لا يعلمون}؛ لكونهم يسوون به غيره، ومن نفى عنه العلم -الذي هو أعلى صفات الكمال- كان في عداد الأنعام، فهم لذلك يشبهون به ما ذكر، ويضربون الأمثال الباطلة، ويضيفون نعمه إلى ما لا يعد، ولعله أتى بضمير الغيبة لقصر ذلك على من ختم بموته على الضلال، أو يقال: وهو أرشق: لما كان الجواب قطعاً: لا يستوون والفاضل مثالك، فقد علم كل ذي لب أن لك المثل الأعلى، فترجم عن وصفه بقوله: "الحمد لله"، أي: الإحاطة بصفات الكمال للملك الأعظم، وعن نسبتهم إلى علم ذلك بقوله تعالى: {بل أكثرهم لا يعلمون}، أي: ليس لهم علم بشيء أصلاً؛ لأنهم يعملون في هذا بالجهل، فنسبتهم إلى الغباوة أحسن في حقهم من نسبتهم إلى الضلال على علم، وسيأتي في سورة لقمان إن شاء الله تعالى ما يكون نافعاً في هذا المقام، وإنما فسرت الحمد بما تقدم لأنه قد مضى في سورة الفاتحة أن مادة "حمد "تدور على بلوغ الغاية، ويلزم منه الاتساع والإحاطة والاستدارة، فيلزمها مطأطأة الرأس وقد يلزم الغاية الرضى فيلزمه الشكر، وبيانه أن الحمد بمعنى الرضا والشكر؛ لأنهما يكونان غالباً عن غاية الإحسان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يضرب لهم مثلين للسيد المالك الرازق وللمملوك العاجز الذي لا يملك ولا يكسب. لتقريب الحقيقة الكبرى التي غفلوا عنها. حقيقة أن ليس لله مثال، وما يجوز أن يسووا في العبادة بين الله وأحد من خلقه وكلهم لهم عبيد:... والمثل الأول مأخوذ من واقعهم، فقد كان لهم عبيد مملوكون، لا يملكون شيئا ولا يقدرون على شيء. وهم لا يسوون بين العبد المملوك العاجز والسيد المالك المتصرف. فكيف يسوون بين سيد العباد ومالكهم وبين أحد أو شيء مما خلق. وكل مخلوقاته له عبيد؟...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والعبد: الإنسان الذي يملكه إنسان آخر بالأسر أو بالشّراء أو بالإرث...
والحَسن: الذي لا يشوبه قبح في نوعه مثل قِلّة وجدان وقت الحاجة، أو إسراع فسادٍ إليه كسوس البُرّ، أو رداءة كالحشف. ووجه الشبه هو... فكونه صاحب رزق حَسَن كمال، وكونه يتصرّف في رزقه بالإعطاء كمال آخر، وكلاهما بضدّ نقائص المملوك الذي لا يقدر على شيء من الإنفاق ولا ما ينفق منه...
وهذا مثَل لغنى الله تعالى وجوده على الناس...
والاستفهام مستعمل في الإنكار...
ولما كان الحمد مظهراً من مظاهر الشكر في مظهر النّطق جعل كناية عن الشكر هنا، إذ كان الكلام على إخلال المشركين بواجب الشكر... جيء بهذه الجملة البليغة الدّلالة المفيدة انحصار الحمد في مِلْك الله تعالى... وأسند نفي العلم إلى أكثرهم لأن منهم من يعلم الحقّ ويكابر استبقاء للسيادة واستجلاباً لطاعة دهمائهم، فهذا ذَمّ لأكثرهم بالصراحة وهو ذمّ لأقلّهم بوصمة المكابرة والعناد بطريق التعريض...
وإنما جاءت صيغة الجمع في قوله تعالى {هل يستوون} لمراعاة أصحاب الهيئة المشبّهة، لأنها أصنام كثيرة كل واحد منها مشبّه بعبد مملوك لا يقدر على شيء، فصيغة الجمع هنا تجريد للتمثيلية، أي هل يستوي أولئك مع الإله الحقّ القادر المتصرّف. وإنما أجري ضمير جمعهم على صيغة جمع العالم تغليباً لجانب أحد التمثيلين وهو جانب الإله القادر...
وبعد أن هيأنا ربنا سبحانه لتلقي الأمثال، وأعد أذهاننا لاستقبال الأمثال منه سبحانه.. أتى بهذا المثل... والحق سبحانه لا يترك لنا الجواب، إلا إذا كان الجواب سيأتي على وفق ما يريد.. ولا جواب يعقل لهذا السؤال إلا أن نقول: لا يستوون.. وكأن الحق سبحانه جعلنا ننطق نحن بهذا الحكم...
ومن هنا تتضح الحكمة في أن الله تعالى ترك الحكم بنفسه في هذا المثل، وأتى به على صورة سؤال؛ ليأخذ الحكم من أفواههم ويشهدوا هم على أنفسهم؛ ليقطع عليهم سبيل الإنكار والجدال...
قوله تعالى: {هل يستوون... عدل عن المثنى إلى الجمع... لأن المثل وإن ضرب بمفرد مقابل مفرد إلا أنه ينطبق على عديدين.. مفرد شائع في عديد مملوكين، وفي عديد من السادة أصحاب الرزق الحسن، ذلك ليعمم ضرب المثل...
{بل أكثرهم لا يعلمون}، قوله: {أكثرهم لا يعلمون}، يدل على أن الأقلية تعلم، وهذا ما يسمونه "صيانة الاحتمال"؛ لأنه لما نزل القرآن الكريم كان هناك جماعة من الكفار ومن أهل الكتاب يفكرون في الإيمان واعتناق هذا الدين، فلو نفى القرآن العلم عن الجميع فسوف يصدم هؤلاء، وربما صرفهم عما يفكرون فيه من أمر الإيمان، فالقرآن يصون الاحتمال في أن أناساً منهم عندهم علم، ويرغبون في الإيمان...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إن الله يضرب المثل من داخل حياة الناس؛ لينقلهم من خلاله إلى الفكرة التوحيدية التي تمثل مضمونه الفكري. وهو أسلوب عمليّ غايته تحريك فكر الإنسان للدخول في مقارنةٍ واعية، بين ما يحيط به، وبين الفكرة التي يريد له الداعية أن يعتقد بها...
{الْحَمْدُ لِلَّهِ}، أي: الثناء والمدح له، في ما يتصف به من الصفات التي لا نهاية لها في مضمونها الإلهي، ولا حدّ، وليس لغيره مثل هذا الحمد، بل كل حمدٍ لغيره فهو مستمد منه؛ لأن كل شيء من شؤون المخلوقين هو مخلوق له... {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} حقيقة الوجود، وما هي خصائص الخالق وخصائص المخلوق؛ لأنهم في غفلةٍ عن ذلك كله؛ لاستغراقهم داخل الأفكار الموروثة التي لا يتحركون خطوةً واحدةً بعيداً عنها في اتجاه فكرٍ جديد. وتلك هي مشكلة الذين لا يعلمون، ولا يريدون أن يخرجوا من دائرة الجهل إلى دائرة العلم، تحت تأثير العصبية العمياء التي تقدس الخطأ، وتحترم الخرافة، وتستسلم للجهل؛ لأنها لا تريد أن تخرج من حالة الاسترخاء الفكري إلى حالة الجهد الذي يبحث فيه الإنسان عن الجديد في العقيدة وفي الشريعة وفي الحياة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ضمن التعقيب على الآيات السابقة التي تحدثت عن: الإِيمان، الكفر، المؤمنين، الكافرين والمشركين، تشخص الآيات مورد البحث حال المجموعتين: (المؤمنين والكافرين)، بضرب مثلين حيين وواضحين. يشبه المثال الأوّل المشركين بعبد مملوك لا يستطيع القيام بأية خدمة لمولاه، ويشبه المؤمنين بإِنسان غني، يستفيد الجميع من إِمكانياته.. (ضرب اللّه مثلا عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء).
والعبد ليس له قدرة تكوينية؛ لأنّه أسير بين قبضة مولاه، ومحدود الحال في كل شيء، وليس له قدرة تشريعية أيضاً؛ لأنّ حق التصرف بأمواله، (إِنْ كان له مال)، وكل ما يتعلق به هو بيد مولاه، وبعبارة أُخرى: إنّه عبد للمخلوق، ولا يعني ذلك إِلاّ الأسر والمحدودية في كل شيء. أمّا ما يقابل ذلك، فالإنسان المؤمن الذي يتمتع بأنواع المواهب والرزق الحسن: (ومَنْ رزقناه منّا رزقاً حسناً)، والإِنسان الحر مع ما له من إِمكانيات واسعة، (وهو ينفق منه سراً وجهراً)، فاحكموا: (هل يستوون). قطعاً، لا.. فإِذنْ: (الحمد لله).
اللّه الذي يكون عبده حُرّ وقادر ومنفق، وليس الأصنام التي عبادها أسرى وعديمو القدرة ومحددون (بل أكثرهم لا يعلمون).