المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

30- أَعَمِىَ الذين كفروا ولم يبصروا أن السماوات والأرض كانتا في بدء خلقهما ملتصقتين ، فبقدرتنا فَصَلَنا كلا منهما عن الأخرى ، وجعلنا من الماء الذي لا حياة فيه كل شيء حي ؟ ! فهل بعد كل هذا يُعرضون ، فلا يؤمنون بأنه لا إله غيرنا ؟ {[127]}


[127]:{أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شيء حي}. تقرر هذه الآية معاني علمية أيدتها النظريات الحديثة في تكوين الكواكب والأرض، إذ أن السماوات والأرض كانت في الأصل متصلة بعضها ببعض علي شكل كتلة متماسكة. والحقيقة العلمية التي اتفق عليها هي أن السماوات والأرض كانت متصلتين، واستدل علي ذلك بأدلة علمية عديدة. أما الفتق فمعناه الانفصال، وهو ما قررته الآية الشريفة وأيده العلم بعد ذلك، هناك نظريات عديدة تفسر بعض الظواهر في هذا الشأن وتعجز عن تفسير الأخرى، لذلك فليس بين هذه النظريات ما هو مقطوع به لدى العلماء بالإجماع. سنذكر فيما يلي علي سبيل المثال نظريتين: النظرية الأولي: الخاصة بتكوين المجموعة الشمسية ـ مثلا ـ تقرر أن الغيم الكوني حول الشمس بدأ في التمدد في الفضاء البارد، وأخذت حبيبات الغاز الذي يتألف منه الغيم بالتكثف علي الذرات الغبارية ذات الحركة السريعة، ثم تجمعت هذه الذرات بالتصادم والتراكم، وهي تحبس في داخلها كميات من الغازات الثقيلة، وازداد التراكم والتجمع علي مر الأزمان حتى تكونت الكواكب والأقمار والأرض علي أبعاد مناسبة، ومن المعروف أن التجمع والتراكم يؤدي إلي زيادة في الضغط الذي يؤدي بدوره إلي زيادة شديدة في الحرارة، وعندما تبلورت القشرة الأرضية بالبرودة، وخلال عمليات الانفجارات البركانية العديدة التي أعقبت ذلك، حصلت الأرض علي كميات هائلة من بخار الماء وثاني أكسيد الكربون بالانفصال عن الطفوح البركانية السائلة. ومما ساعد علي تكوين الأكسوجين الطليق في الهواء بعد ذلك نشاط وتفاعل أشعة الشمس عن طريق التمثيل الضوئي مع النباتات الأولية والأعشاب. أما النظرية الثانية: الخاصة بنشأة الكون عامة، فتتلخص في قوله تعالي: {كانت رتقا} أي مضمومتين ملتحمتين في صورة كتلة واحدة، وهذا آخر ما وصل إليه البحث العلمي في نشأة الكون، وهو أنه قبل أن يأخذ صورته الحالية كان حشدا هائلا متجمعا في أبسط صورة لقوى الذرات المتصلة الواقعة تحت ضغط هائل لا يكاد يتصوره العقل، وأن جميع أجرام السماء اليوم ومحتوياتها بما فيها المجموعة الشمسية والأرض كانت مكدسة تكديسا شديدا في كرة لا يزيد نصف قطرها علي ثلاثة ملايين من الأميال. وقوله تعالي: {ففتقناهما} إشارة لما حدث لذلك السائل النووي الأولي من انفجار عظيم انتشرت بسببه مادة الكون فيما حولها من أجواء، انتهت بتكوين مختلف أجرام السماء المختلفة المنفصلة بما فيها المجموعة الشمسية والأرض. {وجعلنا من الماء كل شيء حي}: تقرر هذه الآية حقيقة علمية أثبتها أكثر من فرع من فروع العلم، وقد أثبت علم الخلية أن الماء هو المكون الهام في تركيب مادة الخلية، وهي وحدة البناء في كل حي نباتا كان أو حيوانا، وأثبت علم الكيمياء الحيوية أن الماء لازم لحدوث جميع التفاعلات والتحولات التي تتم داخل أجسام الأحياء، فهو إما وسط أو عامل مساعد أو داخل في التفاعل أو ناتج عنه. وأثبت علم وظائف الأعضاء أن الماء ضروري لقيام كل عضو بوظائفه التي بدونها لا تتوفر له مظاهر الحياة ومقوماتها. تعليق الخبراء علي الآية 31: {وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون}: لما كان باطن الأرض منصهرا سائلا، فلو فرضنا أن الجبال وضعت في بعض نواحي الكرة الأرضية كأنها صخور هائلة مرتفعة فإن ثقلها قد يؤدي بالقشرة الأرضية أن تميد أو تنثني أو تتصدع، لذلك جعل ـ جل شأنه ـ الجبال رواسي: أي ذات جذور ممتدة في داخل القشرة الأرضية إلي أعماق كبيرة تتناسب مع ارتفاعها، فهي كأنها أوتاد، كما جعل كثافة هذه الارتفاعات والجذور أقل من كثافة القشرة المحيطة بها. كل ذلك حتى يتوزع الضغط علي القشرة العميقة بحيث يكون متساويا في جميع أنحائها فلا تميد أو تتصدع، لأن التوزيع التماثلي للأثقال علي سطح كروي يكاد لا يحدث تأثيرا يذكر. وقد أثبت العلم الحديث أن توزيع اليابس والماء علي الأرض ووجود سلاسل الجبال عليها مما يحقق الوضع الذي عليه الأرض، وقد ثبت أن الجبال الثقيلة دائما أسفلها مواد هشة وخفيفة، وأن تحت ماء المحيطات توجد المواد الثقيلة الوزن، وبذلك تتوزع الأوزان علي مختلف الكرة الأرضية. وهذا التوزيع الذي أساسه الجبال دائما قصد به حفظ توازن الكرة الأرضية، ولما ارتفعت الجبال حدثت السهول والوديان والممرات بين الجبال وشواطئ البحار والمحيطات والهضبات، وكانت سبلا وطرقا.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

قوله تعالى : { أولم ير الذين كفروا } قرأ العامة بالواو ، وقرأ ابن كثير لم ير بغير واو ، وكذلك هو في مصاحفهم ، معناه : ألم يعلم الذين كفروا { أن السموات والأرض كانتا رتقاً } قال ابن عباس رضي الله عنهما ، والضحاك ، وعطاء ، وقتادة : كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين { ففتقناهما } فصلنا بينهما بالهواء ، والرتق في اللغة : السد ، والفتق : الشق . قال كعب : خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض ، ثم خلق ريحاً فوسطها ففتحها بها . قال مجاهد و السدي : كانت السماوات مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سماوات ، وكذلك الأرض كانت مرتتقة طبقة واحدة فجعلها سبع أرضين . قال عكرمة وعطية : كانت السماء رتقاً لا تمطر والأرض رتقاً لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات . وإنما قال : { رتقاً } على التوحيد وهو من نعت السماوات والأرض لأنه مصدر وضع موضع الاسم ، مثل الزور والصوم ونحوهما . { وجعلنا } وخلقنا{ من الماء كل شيء حي } أي : أحيينا بالماء الذي ينزل من السماء كل شيء حي أي من الحيوان ويدخل فيه النبات والشجر ، يعني أنه سبب لحياة كل شيء والمفسرون يقولون : يعني أن كل شيء حي فهو مخلوق من الماء . لقوله تعالى : { والله خلق كل دابة من ماء } قال أبو العالية : يعني النطفة ، فإن قيل : قد خلق الله بعض ما هو حي من غير الماء ؟ قيل : هذا على وجه التكثير ، يعني أن أكثر الأحياء في الأرض مخلوقة من الماء أو بقاؤه بالماء . { أفلا يؤمنون* }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

وبعد أن ساق - سبحانه - ألوانا من الأدلة الكونية الشاهدة بوحدانيته ، ومن الأدلة النقلية النافية للشركاء ، ومن الأدلة الوجدانية التى تهيج القلوب نحو الحق . . . أتبع ذلك بتحريض الكافرين على التدبر فى ملكون السموات والأرض ، لعل هذا التدبر يهديهم إلى الإيمان . فقال - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَ . . . } .

قوله { رَتْقاً } مصدر رقته رتقا : إذا سده . يقال : رتق فلان الفتق رتقا ، إذا ضمه وسده ، وهو ضد الفتق الذى هو بمعنى الشق والفصل .

وللعلماء فى معنى هذه الآية أقوال أشهرها : أن معنى { كَانَتَا رَتْقاً } أن السماء كانت صماء لا ينزل منها مطر ، وأن الأرض كانت لا يخرج منها نبات ، ففتق الله - تعالى - السماء بأن جعل المطر ينزل منها ، وفتق الأرض بأن جعل النبات يخرج منها .

وهذا التفسير منسوب إلى ابن عباس ، فقد سئل عن ذلك فقال : كانت السموات رتقا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت ، فلما خلق - سبحانه - للأرض أهلا ، فتق هذه بالمطر ، وفتق هذه بالنبات .

ومنهم من يرى أن المعنى : كانت السموات والأرض متلاصقتين كالشىء الواحد ، ففتقهما الله - تعالى - بأن فصل بينهما ، فرفع السماء إلى مكانها ، وأبقى الأرض فى مقرها ، وفصل بينهما بالهواء .

قال قتادة قوله { كَانَتَا رَتْقاً } يعنى أنهما كانا شيئا واحداً ففصل الله بينهما بالهواء .

ومنهم من يرى أن معنى " كانتا رتقا " أن السموات السبع كانت متلاصقة بعضها ببعض ففتقها الله - تعالى - بأن جعلها سبع سموات منفصلة ، والأرضون كانت كذلك رتقا ، ففصل الله - تعالى - بينها وجعلها سبعا .

قال مجاهد : كانت السموات طبقة واحدة مؤتلفة ، ففتقها فجعلها سبع سموات ، وكذلك الأرضين كانت طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبعا " .

وقد رجح بعض العلماء المعنى الأول فقال ما ملخصه : كونهما " كانتا رتقا " بمعنى أن السماء لا ينزل منها مطر ، والأرض لا تنبت ، ففتق - سبحانه - السماء بالمطر والأرض بالنبات ، هو الراجح وتدل عليه قرائن من كتاب الله - تعالى - منها :

أن قوله - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا . . } يدل على أنهم رأوا ذلك لأن الأظهر فى رأى أنها بصرية ، والذى يرونه بأبصارهم هو أن السماء تكون لا ينزل منها مطر ، والأرض لا نبات فيها . فيشاهدون بأبصارهم نزول المطر من السماء ، وخروج النبات من الأرض .

ومنها : أنه - سبحانه - أتبع ذلك بقوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } والظاهر اتصال هذا الكلام بما قبله . أى : وجعلنا من الماء الذى أنزلناه بفتقنا السماء ، وأنبتنا به أنواع النبات بفتقنا الأرض ، كل شىء حى .

ومنها : أن هذا المعنى جاء موضحا فى آيات أخرى ، كقوله - تعالى - : { والسمآء ذَاتِ الرجع والأرض ذَاتِ الصدع } والمراد بالرجع : نزول المطر من السماء تارة بعد أخرى ، والمراد بالصدع : انشقاق الأرض عن النبات . واختار هذا القول ابن جرير وابن عطية والفخر الرازى .

فإن قيل : هذا الوجه مرجوح ، لأن المطر لا ينزل من السموات ، بل من سماء واحدة وهى سماء الدنيا ؟

قلنا : إنما أطلق عليه لفظ الجمع ، لأن كل قطعة فيها سماء كما يقال : ثوب أخلاق - أى : قطع - .

والآية الكريمة مسوقة بتجهيل المشركين وتوبيخهم على كفرهم ، مع أنهم يشاهدون بأعينهم ما يدل دلالة واضحة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، ويعلمون أن من كان كذلك ، لا يصح أن تترك عبادته إلى عبادة حجر أو نحوه ، مما لا يضر ولا ينفع .

والمعنى : أو لم يشاهد الذين كفروا بأبصارهم ، ويعلموا بعقولهم ، أن السموات والأرض كانتا رتقا ، بحيث لا ينزل من السماء مطر ، و لا يخرج من الأرض نبات ، ففتق الله - تعالى - السماء بالمطر ، والأرض بالنبات .

إنهم بلا شك يشاهدون ذلك ، ويعقلونه بأفكارهم . ولكنهم لاستيلاء الجحود والعناد عليهم ، يعبدون من دونه - سبحانه - مالا ينفع من عَبَده ، ولا يضر من عصاه .

وقال - سبحانه - : { كَانَتَا } بالتثنية ، باعتبار النوعين اللذين هما نوع السماء ، ونوع الأرض ، كما فى قوله - تعالى - : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ . . } وقوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ . . . } تأكيد لمضمون ما سبق ، وتقرير لوحدانيته ونفاذ قدرته - سبحانه - والجعل بمعنى الخلق . و { مِنَ } ابتدائية .

أى : وخلقنا من الماء بقدرتنا النافذة ، كل شىء متصف بالحياة الحقيقية وهو الحيوان ، أو كل شىء نام فيدخل النبات ، ويراد من الحياة ما يشمل النمو .

وهذا العام مخصوص بما سوى الملائكة والجن مما هو حى ، لأن الملائكة - كما جاء فى بعض الأخبار - خلقوا من النور ، والجن مخلوقون من النار .

قال - تعالى - { خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } قال القرطبى : وفى قوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } ثلاث تأويلات : أحدها : أنه خلق كل شىء من الماء . قاله قتادة . الثانى : حفظ حياة كل شىء بالماء : الثالث : وجعلنا من ماء الصلب - أى : النطفة - كل شىء حى . .

وقوله : { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } إنكار لعدم إيمانهم مع وضوح كل ما يدعو إلى الإيمان الحق ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه هذا الإنكار .

أى : أيشاهدون بأعينهم ما يدل على وحدانية الله وقدرته . ومع ذلك لا يؤمنون ؟ إن أمرهم هذا لمن أعجب العجب ، وأغرب الغرائب ! !

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

وعند هذا الحد من عرض الأدلة الكونية الشاهدة بالوحدة ؛ والأدلة النقلية النافية للتعدد ؛ والأدلة الوجدانية التي تلمس القلوب . . يجول السياق بالقلب البشري في مجالي الكون الضخمة ، ويد القدرة تدبره بحكمة ، وهم معرضون عن آياتها المعروضة على الأنظار والقلوب :

أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما . وجعلنا من الماء كل شيء حي ؛ أفلا يؤمنون ? وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم ، وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ؛ وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون . وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر . كل في فلك يسبحون . .

إنها جولة في الكون المعروض للأنظار ، والقلوب غافلة عن آياته الكبار ، وفيها ما يحير اللب حين يتأمله بالبصيرة المفتوحة والقلب الواعي والحس اليقظ .

وتقريره أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقتا ، مسألة جديرة بالتأمل ، كلما تقدمت النظريات الفلكية في محاولة تفسير الظواهر الكونية ، فحامت حول هذه الحقيقة التي أوردها القرآن الكريم منذ أكثر من ثلاث مائة وألف عام .

فالنظرية القائمة اليوم هي أن المجموعات النجمية - كالمجموعة الشمسية المؤلفة من الشمس وتوابعها ومنها الأرض والقمر . . كانت سديما . ثم انفصلت وأخذت أشكالها الكروية وأن الأرض كانت قطعة من الشمس ثم انفصلت عنها وبردت . .

ولكن هذه ليست سوى نظرية فلكية . تقوم اليوم وقد تنقض غدا . وتقوم نظرية أخرى تصلح لتفسير الظواهر الكونية بفرض آخر يتحول إلى نظرية . .

ونحن - أصحاب هذه العقيدة - لا نحاول أن نحمل النص القرآني المستيقن على نظرية غير مستيقنة ، تقبل اليوم وترفض غدا . لذلك لا نحاول في هذه الظلال أن نوفق بين النصوص القرآنية والنظريات التي تسمى علمية . وهي شيء آخر غير الحقائق العلمية الثابتة القابلة للتجربة كتمدد المعادن بالحرارة وتحول الماء بخارا وتجمده بالبرودة . . إلى آخر هذا النوع من الحقائق العلمية . وهي شيء آخر غير النظريات العلمية - كما بينا من قبل في الظلال - .

إن القرآن ليس كتاب نظريات علمية ولم يجيء ليكون علما تجريبيا كذلك . إنما هو منهج للحياة كلها . منهج لتقويم العقل ليعمل وينطلق في حدوده . ولتقويم المجتمع ليسمح للعقل بالعمل والانطلاق . دون أن يدخل في جزئيات وتفصيليات علمية بحتة . فهذا متروك للعقل بعد تقويمه وإطلاق سراحه .

وقد يشير القرآن أحيانا إلى حقائق كونية كهذه الحقيقة التي يقررها هنا : ( أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما )ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن . وإن كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السماوات والأرض . أو فتق السماوات عن الأرض . ونتقبل النظريات الفلكية التي لا تخالف هذه الحقيقة المجملة التي قررها القرآن . ولكننا لا نجري بالنص القرآني وراء أية نظرية فلكية ، ولا نطلب تصديقا للقرآن في نظريات البشر . وهو حقيقة مستيقنة ! وقصارى ما يقال : إن النظرية الفلكية القائمة اليوم لا تعارض المفهوم الإجمالي لهذا النص القرآني السابق عليها بأجيال !

فأما شطر الآية الثاني : ( وجعلنا من الماء كل شيء حي )فيقرر كذلك حقيقة خطيرة . يعد العلماء كشفها وتقريرها أمرا عظيما . ويمجدون " دارون " لاهتدائه إليها ! وتقريره أن الماء هو مهد الحياة الأول .

وهي حقيقة تثير الانتباه حقا . وإن كان ورودها في القرآن الكريم لا يثير العجب في نفوسنا ، ولا يزيدنا يقينا بصدق هذا القرآن . فنحن نستمد الاعتقاد بصدقه المطلق في كل ما يقرره من إيماننا بأنه من عند الله . لا من موافقة النظريات أو الكشوف العلمية له . وأقصى ما يقال هنا كذلك : إن نظرية النشوء والارتقاء لدارون وجماعته لا تعارض مفهوم النص القرآني في هذه النقطة بالذات .

ومنذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا كان القرآن الكريم يوجه أنظار الكفار إلى عجائب صنع الله في الكون ، ويستنكر ألا يؤمنوا بها وهم يرونها مبثوثة في الوجود : أفلا يؤمنون ? وكل ما حولهم في الكون يقود إلى الإيمان بالخالق المدبر الحكيم ?

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } .

يقول تعالى ذكره : أو لم ينظر هؤلاء الذي كفروا بالله بأبصار قلوبهم ، فيروا بها ، ويعلموا أن السموات والأرض كانتا رَتْقا : يقول : ليس فيهما ثقب ، بل كانتا ملتصقتين يقال منه : رتق فلان الفتق : إذا شدّه ، فهو يرتقه رَتْقا ورتوقا ومن ذلك قيل للمرأة التي فرجها ملتحم : رتقاء . ووحد الرّتقْ ، وهو من صفة السماء والأرض ، وقد جاء بعد قوله : كانَتا لأنه مصدر ، مثل قول الزّور والصوم والفطر .

وقوله : فَفَتَقْناهُما يقول : فصدعناهما وفرجناهما .

ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله السموات والأرض بالرتق ، وكيف كان الرتق ، وبأيّ معنى فتق ؟ فقال بعضهم : عَنَى بذلك أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين ففصل الله بينهما بالهواء . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أوَ لَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أنّ السَمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقا يقول : ملتصقتين .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أوَ لَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رتْقا فَفَتَقْناهما . . . الاَية ، يقول : كانتا ملتصقتين ، فرفع السماء ووضع الأرض .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ كانتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما كان ابن عباس يقول : كانتا ملتزقتين ، ففتقهما الله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما قال : كان الحسن وقَتادة يقولان : كانتا جميعا ، ففصل الله بينهما بهذا الهواء .

وقال آخرون : بل معنى ذلك أن السموات كانت مرتتقة طبقة ، ففتقها الله فجعلها سبع سموات . وكذلك الأرض كانت كذلك مرتتقة ، ففتقها فجعلها سبع أرضين ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تبارك وتعالى : رَتْقا فَفَتَقْناهُما من الأرض ستّ أرضين معها فتلك سبع أرضين معها ، ومن السماء ستّ سموات معها فتلك سبع سموات معها . قال : ولم تكن الأرض والسماء متماسّتين .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : رَتْقا فَفَتَقْناهُما قال : فتقهنّ سبع سموات بعضهنّ فوق بعض ، وسبع أرضين بعضهنّ تحت بعض .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم .

حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، قال : سألت أبا صالح عن قوله : كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما قال : كانت الأرض رتقا والسموات رتقا ، ففتق من السماء سبع سموات ، ومن الأرض سبع أرضين .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كانت سماء واحدة ثم فتقها ، فجعلها سبع سموات في يومين ، في الخميس والجمعة ، وإنما سُمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض ، فذلك حين يقول : خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ في سِتّةِ أيّامٍ يقول : كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما .

وقال آخرون : بل عُني بذلك أن السموات كانت رتقا لا تمطر والأرض كذلك رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات . ذكر من قال ذلك :

حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة : أوَ لَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما قال : كانتا رتقا لا يخرج منهما شيء ، ففتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات . قال : وهو قوله : والسّماءِ ذَاتِ الرّجْعِ والأرْضِ ذَاتِ الصّدْعِ .

حدثني الحسين بن عليّ الصدائي ، قال : حدثنا أبي ، عن الفضيل بن مرزوق ، عن عطية ، في قوله : أوَ لَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما قال : كانت السماء رتقا لا تمطر والأرض رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات وجعل من الماء كلّ شيء حيّ ، أفلا يؤمنون ؟

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : أوَ لَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أن السّمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما قال : كانت السموات رتقا لا ينزل منها مطر ، وكانت الأرض رتقا لا يخرج منها نبات ، ففتقهما الله ، فأنزل مطر السماء ، وشقّ الأرض فأخرج نباتها . وقرأ : فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الماء كلّ شَيْءٍ حَيّ أفَلا يُؤْمِنُونَ .

وقال آخرون : إنما قيل فَفَتَقْناهُما لأن الليل كان قبل النهار ، ففتق النهار . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبيه ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال : خلق الليل قبل النهار . ثم قال : كانَتا رَتْقا فَفَتَقْنَاهُما .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : أو لم ير الذي كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا من المطر والنبات ، ففتقنا السماء بالغيث والأرض بالنبات .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك لدلالة قوله : وجَعَلْنا مِنَ الماءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ على ذلك ، وأنه جلّ ثناؤه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه .

فإن قال قائل : فإن كان ذلك كذلك ، فكيف قيل : أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ، والغيث إنما ينزل من السماء الدنيا ؟ قيل : إن ذلك مختلف فيه ، قد قال قوم : إنما ينزل من السماء السابعة ، وقال آخرون : من السماء الرابعة ، ولو كان ذلك أيضا كما ذكرت من أنه ينزل من السماء الدنيا ، لم يكن في قوله : أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ دليل على خلاف ما قلنا ، لأنه لا يمتنع أن يقال «السموات » والمراد منها واحدة فتجمع ، لأن كل قطعة منها سماء ، كما يقال : ثوب أخلاق ، وقميص أسمال .

فإن قال قائل : وكيف قيل إن السموات والأرض كانتا ، فالسموات جمع ، وحكم جمع الإناث أن يقال في قليلة كنّ ، وفي كثيره كانت ؟ قيل : إنما قيل ذلك كذلك لأنهما صنفان ، فالسموات نوع ، والأرض آخر وذلك نظير قول الأسود بن يعفر :

إنّ المَنِيّةَ والحتُوُفَ كِلاهُما *** تُوفِي المَخارِمَ يَرْقُبانِ سَوَادِي

فقال : «كلاهما » ، وقد ذكر المنية والحتوف لِما وصفت من أنه عنى النوعين . وقد أُخبرت عن أبي عبيدة معمر بن المثني ، قال : أنشدني غالب النفيلي للقطامي :

ألَمْ يحْزُنْكَ أنّ حِبالَ قَيْسٍ *** وَتَغْلِبَ قَدْ تَبايَنَتا انْقِطاعَا

فجعل حبال قيس وهي جمع وحبال تغلب وهي جمع اثنين .

وقوله : وَجَعَلْنا مِنَ المَاءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ يقول تعالى ذكره : وأحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كلّ شيء . كما :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَجَعَلْنا مِنَ المَاء كُلّ شَيْءٍ حَيّ قال : كلّ شيء حيّ خُلق من الماء .

فإن قال قائل : وكيف خصّ كل شيء حيّ بأنه جعل من الماء دون سائر الأشياء غيره ، فقد علمت أنه يحيا بالماء الزروع والنبات والأشجار وغير ذلك مما لا حياة له ، ولا يقال له حيّ ولا ميت ؟ قيل : لأنه لا شيء من ذلك إلا وله حياة وموت ، وإن خالف معناه في ذلك معنى ذوات الأرواح في أنه لا أرواح فيهنّ وأن في ذوات الأرواح أرواحا فلذلك قيل : وَجَعَلْنا مِنَ المَاءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ .

وقوله : أفَلا يُؤْمِنُون يقول : أفلا يصدّقون بذلك ، ويقرّون بألوهة من فعل ذلك ويفردونه بالعبادة ؟

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

{ أو لم ير الذين كفروا } أو لم يعلموا ، وقرأ ابن كثير بغير واو . { أن السموات والأرض كانتا رتقا } ذات رتق أو مرتوقتين ، وهو الضم والالتحام أي كانتا واحدا وحقيقة متحدة . { ففتقناهما } بالتنويع والتمييز ، أو كانت السموات واحدة ففتقت بالتحريكات المختلفة حتى صارت أفلاكا ، وكانت الأرضون واحدة فجعلت باختلاف كيفياتها وأحوالها طبقات أو أقاليم . وقيل { كانتا } بحيث لا فرجة بينهما ففرج . وقيل { كانتا رتقا } لا تمطر ولا تنبت ففتقناهما بالمطر والنبات ، فيكون المراد ب { السموات } سماء الدنيا وجمعها باعتبار الآفاق أو { السموات } بأسرها على أن لها مدخلا ما في الأمطار ، والكفرة وإن لم يعلموا ذلك فهم متمكنون من العلم به نظرا فإن الفتق عارض مفتقر إلى مؤثر واجب وابتداء أو بوسط ، أو استفسارا من العلماء ومطالعة للكتب ، وإنما قال { كانتا } ولم يقل كن لأن المارد جماعة السموات وجماعة الأرض . وقرىء { رتقا } بالفتح على تقدير شيئا رتقا أي مرتوقا كالرفض بمعنى المرفوض . { وجعلنا من الماء كل شيء حي } وخلقنا من الماء كل حيوان كقوله تعالى { الله خلق كل دابة من ماء } وذلك لأنه من أعظم مواده أو لفرط احتياجه إليه وانتفاعه به بعينه ، أو صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا يحيا دونه ، وقرئ " حيا " على أنه صفة { كل } أو مفعول ثان ، والظرف لغو والشيء مخصوص بالحيوان . { أفلا يؤمنون } مع ظهور الآيات .