تضمنت هذه السورة الكريمة الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث همته وتقوية عزيمته ليبقى مستمسكا بالحق من غير ملاينة فيه لأحد ، وتشبيه ما وقع لأهل مكة من العذاب ، بما وقع لأصحاب الجنة الذين جاءت قصتهم فيها ، وتبشير المؤمنين بما لهم عند ربهم ، وعدم التسوية بينهم وبين الكافرين ، والإنكار على المكذبين فيما يدعونه لأنفسهم بغير حق ، وتخويفهم بوصف حالهم في الآخرة ، وتهديدهم ، والنصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر والاحتمال ، وقد ختمت السورة بتمجيد القرآن الكريم .
1- ن : حرف من حروف المعجم التي بدئت بعض السور بها تحدياً للمكذبين وتنبيهاً للمصدقين .
{ ن } اختلفوا فيه فقال ابن عباس : هو الحوت . الذي على ظهره الأرض . وهو قول مجاهد ومقاتل ، والسدي ، والكلبي . وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم ، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون فمادت الأرض ، فأنبتت بالجبال ، وإن الجبال لتفخر على الأرض ، ثم قرأ ابن عباس : { ن والقلم وما يسطرون } واختلفوا في اسمه ، فقال الكلبي ومقاتل : بهموت . وقال الواقدي : ليوثا . وقال كعب : لويثا . وعن علي : اسمه بلهوث . وقالت الرواة : لما خلق الله الأرض وفتقها ، بعث من تحت العرش ملكاً فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتقه ، إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب ، باسطتين قابضتين على الأرضين السبع ، حتى ضبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار ، فأهبط الله عز وجل من الفردوس ثوراً له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة ، وجعل قرار قدمي الملك على سنامه ، فلم تستقر قدماه فأخذ ياقوتة خضراء من أعلى درجة في الفردوس ، غلظها مسيرة خمسمائة عام فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه ، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ، ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفساً فإذا تنفس مد البحر وأزبد ، وإذا رد نفسه جزر ، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار ، فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها ، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه { فتكن في صخرة }( لقمان- 16 ) ولم يكن للصخرة مستقر ، فخلق الله نوناً وهو الحوت العظيم ، فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال ، والحوت على البحر ، والبحر على متن الريح ، والريح على القدرة . يقال : فكل الدنيا كلها بما عليها حرفان ، قال لها الجبار : كوني فكانت . قال كعب الأحبار : إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس إليه ، فقال له : أتدري ما على ظهرك يا لويثا من الأمم والدواب والشجر والجبال ، لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك ، فهم لويثا أن يفعل ذلك ، فبعث الله دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه ، فعج الحوت إلى الله منها ، فأذن لها الله فخرجت . قال كعب : فوالذي نفسي بيده ، إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت إلى ذلك كما كانت . وقال بعضهم : نون آخر حروف الرحمن ، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس . وقال الحسن وقتادة والضحاك : النون الدواة . وقيل : هو قسم أقسم الله به . وقيل : فاتحة السورة . وقال عطاء : افتتاح اسمه نور ، وقال محمد بن كعب : أقسم الله بنصرته للمؤمنين . { والقلم } هو الذي كتب الله به الذكر ، وهو قلم من نور ، طوله ما بين السماء والأرض ، ويقال : أول ما خلق الله القلم ، ونظر إليه فانشق نصفين ، ثم قال : اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فجرى على اللوح المحفوظ بذلك . { وما يسطرون } يكتبون أي ما تكتب الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم .
1- سورة " ن " أو " القلم " تعتبر من أوائل السور القرآنية ، التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد ذكر السيوطي في كتابه " الإتقان " أنها السورة الثانية في النزول ، بعد سورة " العلق " ( {[1]} ) .
ويرى بعض العلماء أنها السورة الرابعة في النزول ، فقد سبقتها سور : العلق ، والمدثر ، والمزمل ، وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية .
2- والمحققون على أنها من السور المكية الخالصة ، فقد ذكر الزمخشري وابن كثير . . أنها مكية ، دون أن يذكرا في ذلك خلافا .
وقال الآلوسي : هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة ، فقد نزلت –على ما روي عن ابن عباس- [ اقرأ باسم ربك . . . ] ثم هذه ، ثم المزمل ، ثم المدثر ، وفي البحر أنها مكية بلا خلاف فيها ، بين أهل التنزيل .
وفي الإتقان : استثننى منها : [ إنا بلوناهم كما بلونا . . . ] إلى قوله –تعالى- : [ لو كانوا يعلمون ]( {[2]} ) .
3- والذي تطمئن إليه النفس ، أن سورة [ ن ] من السور المكية الخالصة ، لأنه لم يقم دليل مقنع على أن فيها آيات مدنية ، بجانب أن أسلوبها وموضوعاتها تشير إلى أنها من السور المكية الخالصة .
كذلك نميل إلى أن بعض آياتها قد نزلت على الني صلى الله عليه وسلم بعد أن جهر بدعوته .
4- وقد فصل هذا المعنى بعض العلماء فقال ما ملخصه : لا يمكن تحديد التاريخ الذي نزلت فيه هذه السورة ، سواء مطلعها أو جملتها .
والروايات التي تقول : إن هذه السورة هي الثانية في النزول بعد سورة العلق كثيرة ، ولكن سياق السورة وموضوعها وأسلوبها ، يجعلنا نرجح غير هذا ، حتى ليكاد يتعين أنها نزلت بعد فترة من الدعوة العامة ، التي جاءت بعد نحو ثلاث سنوات من الدعوة الفردية ، في الوقت الذي أخذت فيه قريش تدفع هذه الدعوة وتحاربها ، وتصف الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو بريء منه ، كذلك ذكرت بعض الروايات في السورة آيات مدنية ، ونحن نستبعد هذا كذلك ، ونعتقد أن السورة كلها مكية ، لأن طابع آياتها عميق في مكيته .
والذي نرجحه بشأن السورة كلها ، أنها ليست الثانية في ترتيب النزول وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية ، بل بعد الجهر بالدعوة ، وبعد أن أخذت قريش في محاربتها بصورة عنيفة .
والسورة قد أشارت إلى شيء من عروض المشركين : [ ودوا لو تدهن فيدهنون ] وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية ، إنما تكون بعد ظهورها ، وشعور المشركين بخطرها . . ( {[3]} ) .
5- والذي يتدبر هذه السورة الكريمة ، يراها قد اشتملت على مقاصد من أبرزها : تحدي المشركين بهذا القرآن الكريم ، والثناء على النبي صلى الله عليه وسلم بأفضل أنواع الثناء [ ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم ] .
والتسلية الجميلة له صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه [ فستبصر ويبصرون . بأيكم المفتون . إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ] .
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن مهادنة المشركين أو ملاينتهم أو موافقتهم على مقترحاتهم الماكرة ، قال –تعالى- : [ ودوا لو تدهن فيدهنون ، ولا تطع كل حلاف مهين ، هماز مشاء بنميم ، مناع للخير معتد أثيم ] .
ثم نراها تضرب الأمثال لأهل مكة ، لعلهم يتعظون ويعتبرون ، ويتركون الجحود والبطر . . [ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة ، إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين . ولا يستثنون . فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون . فأصبحت كالصريم ] .
ثم نرى من مقاصدها كذلك : المقارنة بين عاقبة الأخيار والأشرار ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة .
وتسفيه أفكار المشركين وعقولهم ، بأسلوب مؤثر خلاب : [ أفنجعل المسلمين كالمجرمين ، ما لكم كيف تحكمون . أم لكم كتاب فيه تدرسون ] . .
وتهديدهم بأقصى ألوان التهديد : [ فذرني ومن يكذب بهذا الحديث ، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين . . ] .
ثم تختتم بتكرار التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، وبأمره بالصبر على أذى أعدائه : [ فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت ، إذ نادى وهو مكظوم ، لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم ، فاجتباه ربه فجعله من الصالحين . وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون . وما هو إلا ذكر للعالمين ] .
وبعد : فهذه كلمة مجملة عن سورة " القلم " تكشف عن زمان ومكان نزولها . وعن أهم المقاصد والأهداف التي اشتملت عليها .
ونسأل الله –تعالى- أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا .
افتتحت سورة " القلم " بأحد الحروف المقطعة ، وهي آخر سورة فى ترتيب المصحف ، افتتحت بواحد من هذه الحروف . أما بالنسبة لترتيب النزول ، فقد تكون أول سورة نزلت على النبى صلى الله عليه وسلم في السور المفتتحة بالحروف المقطعة .
وقد قلنا عند تفسيرنا لسورة البقرة : وردت هذه الحروف المقطعة تارة مفردة بحرف واحد ، وتارة مركبة من حرفين أو ثلاثة ، أو أربعة ، أو خمسة .
فالسور التى بدئت بحرف واحد ثلاث سور وهى : ص ، ق ، ن .
والسور التى بدئت بحرفين تسع سور وهى : طه ، يس ، طس ، وحم ، في ست سور ، وهي : غافر ، فصلت ، الزخرف ، الدخان ، الجاثية ، الأحقاف .
والسور التى بدئت بثلاثة أحرف ، ثلاث عشرة سورة وهي : " ألم " في ست سور ، وهي : البقرة ، آل عمران ، العنكبوت ، الروم ، لقمان ، السجدة .
و { الر } في خمس سور : وهي : يونس ، هود ، يوسف ، إبراهيم ، الحجر .
و { طسم } في سورتين وهما : الشعراء ، والقصص .
وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما : الرعد ، " المر " والأعراف " المص " .
وهناك سورتان - أيضا - بدئنا بخمسة أحرف ، وهما : " مريم " " كهيعص " والشورى : " حم عسق " فيكون مجموع السور التى افتتحت بالحروف المقطعة : تسعا وعشرين سورة .
هذا ، وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ويمكن إجمال خلافهم في رأيين رئيسيين :
الرأي الأول يرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها غير معروف ، فهي من المتشابه الذي استأثر الله - تعالى - بعلمه .
وإلى هذا الرأي ذهب ابن عباس - في بعض الروايات عنه - كما ذهب إليه الشعبي ، وسفيان الثوري وغيرهم من العلماء .
فقد أخرج ابن المنذر عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال : إن لكل كتاب سرا ، وإن سر هذا القرآن في فواتح السور .
ويروى عن ابن عباس أنه قال : عجزت العلماء عن إدراكها .
وعن علي بن أبي طالب أنه قال : " إن لكل كتاب صفوة ، وصفوة الكتاب حروف التهجي " .
وفي رواية أخرى عن الشعبي أنه قال : " سر الله فلا تطلبوه "
ومن الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأي ، أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس لأنه من المتشابه ، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثل ذلك كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها .
وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ ، لم ينتف الإِفهام عنها عند كل أحد ، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يفهم المراد منها ، وكذلك بعض أصحابه المقربين ، ولكن الذي ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوائل بعض السور .
وهناك مناقشات أخرى للعلماء حول هذا الرأي ، يضيق المجال عن ذكرها .
أما الرأي الثاني فيرى أصحابه أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله - تعالى - بعلمه .
وأصحاب هذا الرأي قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها ما يأتي :
أ - أن هذه الحروف أسماء للسور ، بدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها كسورة " ص " وسورة " يس " .
ولايخلو هذا القول من الضعف ، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، والغرض من التسمية رفع الاشتباه .
ب - وقيل : إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة ، للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى .
ج - وقيل : إنها حروف مقطعة ، بعهضا من أسماء الله - تعالى - ، وبعضها من صفاته ، فمثلا : { الم } أصلها : أنا الله أعلم .
د - وقيل : إنها اسم الله الأعظم . إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلوا من مقال ، والتي أوصلها الإمام السيوطي في كتابه " الإتقان " إلى أكثر من عشرين قولا .
ه - ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال : إن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت في افتتاح بعض السور ، للإِشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين ، هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها ، ويقدرون على تأليف الكلام منها ، فإذا عجزوا عن الإِتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه في الفصاحة والبلاغة ، مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة .
وفضلا عن ذلك ، فإن تصدير هذه السور بمثل هذه الحروف المقطعة ، يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم ، إلى الإِنصات والتدبر ، لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم . وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها ، فيسمعوا حكما وحججا قد تكون سببا في هدايتهم واستجابتهم للحق .
هذه خلاصة لآراء العلماء في الحروف المقطعة ، التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع - مثلا - إلى كتاب " البرهان " للزركشي ، وكتاب " الإتقان " للسيوطي ، وتفسير " الآلوسي " .
ولفظ " ن " على الرأي الذي رجحناه ، يكون إشارة إلى إعجاز القرآن . . .
وقيل : هو من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه . .
وقد ذكر بعض المفسرين أقوالا أخرى ، لا يعتمد عليها لضعفها ، ومن ذلك قولهم : إن " نون " اسم لحوت عظيم . . أو اسم للدواة . . . وقيل : " نون " لوح من نور . .
والواو في قوله : { والقلم } للقسم ، والمراد بالقلم : جنسه ، فهو يشمل كل قلم يكتب به و " ما " في قوله { وَمَا يَسْطُرُونَ } موصولة أو مصدرية .
و { يَسْطُرُونَ } مضارع سطر - من باب نصر - ، يقال : سطر الكتاب سطرا ، إذا كتبه ، والسطر : الصف من الشجر وغيره ، وأصله من السطر بمعنى القطع ، لأن صفوف الكتابة تبدو وكأنها قطع متراصة .
القول في تأويل قوله تعالى : { نَ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنّ لَكَ لأجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ن ، فقال بعضهم : هو الحوت الذي عليه الأرَضُون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي ظَبْيان ، عن ابن عباس ، قال : «أوّل ما خلق الله من شيء القلم ، فجرى بما هو كائن ، ثم رفع بخار الماء ، فخلقت منه السموات ، ثم خلق النون فبسطت الأرض على ظهر النون ، فتحرّكت الأرض فمادت ، فأثبتت بالجبال ، فإن الجبال لتفخر على الأرض » ، قال : وقرأ : ن والقَلَمِ وما يَسْطُرُونَ .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، أو مجاهد عن ابن عباس ، بنحوه ، إلا أنه قال : فَفُتِقَتْ مِنْهُ السموات .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني سليمان ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قال : «أوّل ما خلق الله القلم ، قال : اكتب ، قال : ما أكتب ؟ قال : اكتب القدر ، قال : فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى قيام الساعة ، ثم خلق النون ، ورفع بخار الماء ، ففُتِقت منه السماء وبُسِطت الأرض على ظهر النون ، فاضطرب النون ، فمادت الأرض ، فأثبتت بالجبال ، فإنها لتفخر على الأرض » .
حدثنا واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن فُضَيل ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس قال : «أوّل ما خلق الله من شيء القلم ، فقال له : اكتب ، فقال : وما أكتب ؟ قال : اكتب القدر ، قال فجرى القلم بما هو كائن من ذلك إلى قيام الساعة ، ثم رفع بخار الماء ففتق منه السموات ، ثم خلق النون فدُحيت الأرض على ظهره ، فاضطرب النون ، فمادت الأرض ، فأُثبتت بالجبال ، فإنها لتفخر على الأرض » .
حدثنا واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس نحوه .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، أن إبراهيم بن أبي بكر ، أخبره عن مجاهد ، قال : كان يقال النون : الحوت الذي تحت الأرض السابعة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، قال : قال معمر . حدثنا الأعمش ، أن ابن عباس قال : إنْ أوّل شيء خُلق القلم ، ثم ذكر نحو حديث واصل عن ابن فضيل ، وزاد فيه : ثم قرأ ابن عباس ن وَالقَلم وَما يَسْطُرُونَ .
حدثنا بن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح ، عن ابن عباس ، قال : إن أوّل شيء خلق ربي القلم ، فقال له : اكتب ، فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ، ثم خلق النون فوق الماء ، ثم كبس الأرض عليه .
وقال آخرون : ن حرف من حروف الرحمن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبد الله بن أحمد المروزي ، قال : حدثنا عليّ بن الحسين ، قال : حدثنا أبي ، عن يزيد ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس : الر ، وحم ، ون حروف الرحمن مقطعة .
حدثني محمد بن معمر ، قال : حدثنا عباس بن زياد الباهلي ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قوله : الر ، وحم ، ون قال : اسم مقطع .
وقال آخرون : ن : الدواة ، والقلم : القلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا أخي عيسى بن عبد الله ، عن ثابت البناني ، عن ابن عباس قال : إن الله خلق النون وهي الدواة ، وخلق القلم ، فقال : اكتب ، فقال : ما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، من عمل معمول ، برّ أو فجور ، أو رزق مقسوم حلال أو حرام ، ثم ألزم كلّ شيء من ذلك شأنه دخوله في الدنيا ومقامه فيها كم ، وخروجه منها كيف ثم جعل على العباد حفظة وللكتاب خزانا ، فالحفظة ينسخون كلّ يوم من الخزان عمل ذلك اليوم ، فإذا فني الرزق وانقطع الأثر ، وانقضى الأجل ، أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم ، فتقول لهم الخزنة : ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا ، فترجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا قال : فقال ابن عباس : ألستم قوما عربا تسمعون الحفَظة يقولون : إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل ؟ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن وقتادة ، في قوله ن قال : هو الدواة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو ، عن قتادة ، قال : النون الدواة .
وقال آخرون : ن : لوح من نوره ، ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن شبيب المكتّب ، قال : حدثنا محمد بن زياد الجزري ، عن فرات بن أبي الفرات ، عن معاوية بن قرّة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ن وَالقَلَمِ وما يَسْطُرُونَ : «لوح من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة » .
وقال آخرون : ن : قَسَم أقسم الله به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : { ن وَالقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونَ } يُقْسِم الله بما شاء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : { ن وَالقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونَ } قال : هذا قسم أقسم الله به .
وقال آخرون : هي اسم من أسماء السورة .
وقال آخرون : هي حرف من حروف المعجم ، وقد ذكرنا القول فيما جانس ذلك من حروف الهجاء التي افتتحت بها أوائل السور ، والقول في قوله نظير القول في ذلك .
واختلفت القرّاء في قراءة : ن ، فأظهر النون فيها وفي يس عامة قرّاء الكوفة خلا الكسائيّ ، وعامة قرّاء البصرة ، لأنها حرف هجاء ، والهجاء مبني على الوقوف عليه وإن اتصل ، وكان الكسائي يُدغم النون الآخرة منهما ويخفيها بناء على الاتصال .
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان فصيحتان ، بأيتهما قرأ القارىء أصاب ، غير أن إظهار النون أفصح وأشهر ، فهو أعجب إليّ . وأما القلم : فهو القلم المعروف ، غير أن الذي أقسم به ربنا من الأقلام : القلم الذي خلقه الله تعالى ذكره ، فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة .
حدثني محمد بن صالح الأغاطي ، قال حدثنا عباد بن العوّام ، قال : حدثنا عبد الواحد بن سليم ، قال : سمعت عطاء ، قال : سألت الوليد بن عبادة بن الصامت : كيف كانت وصية أبيك حين حشره الموت ؟ فقال : دعاني فقال : أي بنيّ اتق الله واعلم أنك لن تتقي الله ، ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده ، والقدرِ خيره وشرّه ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّ أوّلَ ما خَلَقَ اللّهُ خَلَقَ القَلَمَ ، فَقالَ لَهُ : اكْتُبْ ، قالَ : يا رَبّ ومَا أكْتُبْ ؟ قالَ : اكْتُبَ القَدَرَ ، قالَ : فَجَرَى القَلَمُ فِي تِلْكَ السّاعَةِ بِمَا كانَ ، ومَا هُوَ كائِنٌ إلى الأبَدِ » .
حدثني محمد بن عبد الله الطوسي ، قال : حدثنا عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : أخبرنا عبد الله بن المبارك ، قال : أخبرنا رباح بن زيد ، عن عمرو بن حبيب ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس أنه كان يحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أوّلُ شَيْءٍ خَلَقَ اللّهُ القَلَمَ ، وأمَرَهُ فَكَتَبَ كُلّ شَيْءٍ » .
حدثنا موسى بن سهل الرملي ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا ابن المبارك بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثنا موسى بن سهل الرملي ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا ابن المبارك بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد قال : قلت لابن عباس : إن ناسا يكذّبون بالقدر ، فقال : إنهم يكذّبون بكتاب الله ، لأخذنّ بشَعْر أحدهم ، فلا يقصّن به ، إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا ، فكان أوّل ما خلق الله القلم ، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فإنما يجري الناس على أمر قد فُرِغ منه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو هاشم ، أنه سمع مجاهدا ، قال : سمعت عبد الله لا ندري ابن عمر أو ابن عباس قال : إن أوّل ما خلق الله القلم ، فجرى القلم بما هو كائن وإنما يعمل الناس اليوم فيما قد فُرِغ منه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني معاوية بن صالح وحدثني عبد الله بن آدم ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الليث بن سعد عن معاوية بن صالح ، عن أيوب بن زياد ، قال : ثني عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، قال : أخبرني أبي ، قال : قال أبي عُبادة بن الصامت : يا بنيّ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّ أوّلَ ما خَلَقَ اللّهُ القَلَمَ ، فَقالَ لَهُ : اكْتُبْ فَجَرَى فِي تِلْكَ السّاعَةِ بِمَا هُوَ كائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ » .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ن وَالقَلَمِ قال : الذي كُتِبَ به الذكر .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، أخبره عن إبراهيم بن أبي بكر ، عن مجاهد ، في قوله : ن والقَلَمِ قال : الذي كتب به الذكر .
وقوله : ومَا يَسْطُرُون ، يقول : والذي يخُطّون ويكتبون . وإذا وُجّهَ التأويل إلى هذا الوجه كان القسم بالخلق وأفعالهم . وقد يحتمل الكلام معنى آخر ، وهو أن يكون معناه : وسطرهم ما يسطرون ، فتكون «ما » بمعنى المصدر . وإذا وُجه التأويل إلى هذا الوجه ، كان القسم بالكتاب ، كأنه قيل : ن والقلم والكتاب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما يَسْطُرُونَ قال : وما يَخُطّون .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ومَا يَسْطُرُونَ ، يقول : يكتبون .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ومَا يَسْطُرُون ، قال : وما يكتبون .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ومَا يَسْطُرُونَ : وما يكتبون .
يقال منه : سطر فلان الكتاب فهو يَسْطُر سَطْرا : إذا كتبه ومنه قول رُؤبة بن العجّاج :
وهي مكية ولا خلاف فيها بين أحد من أهل التأويل{[1]} .
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ( 1 )
{ ن } حرف مقطع في قول الجمهور من المفسرين ، فيدخله من الخلاف ما يدخل أوائل السور ، ويختص هذا الموضع من الأقوال بأن قال مجاهد وابن عباس : نون ، اسم الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع فيما يروى . وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك : النون اسم للدواة ، فهذا إما أن يكون لغة لبعض العرب ، أو تكون لفظة أعجمية عربت ، قال الشاعر : [ الوافر ]
إذا ما الشوق برح بي إليهم . . . ألقت النون بالدمع السجوم{[11227]}
فمن قال إنه اسم الحوت جعل { القلم } الذي خلقه الله تعالى وأمره فكتب الكائنات وجعل الضمير في { يسطرون } للملائكة ، ومن قال بأن «نون » اسم للدواة ، جعل { القلم } هذا المتعارف بأيدي الناس . نص ذلك ابن عباس وجعل الضمير في { يسطرون } للناس ، فجاء القسم على هذا بمجموع أم الكتاب الذي هو قوام للعلوم والمعارف وأمور الدنيا والآخرة ، فإن القلم أخ اللسان ، ومطية الفطنة ، ونعمة من الله عامة . وروى معاوية بن قرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ن } لوح من نور{[11228]} ، وقال ابن عباس وغيره : هو حرف من حروف الرحمن ، وقالوا إنه تقطع في القرآن : { الر } [ يونس : 1 ، هود : 1 ، يوسف : 1 ، إبراهيم : 1 ، الحجر : 1 ] و { حم } [ غافر : 1 ، فصلت : 1 ، الشورى : 1 ، الزخرف : 1 ، الدخان : 1 ، الجاثية : 1 ، الأحقاف : 1 ] ، و { ن } ، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف «نونَ » بالنصب ، والمعنى : اذكر نونَ ، وهذا يقوى مع أن يكون اسماً للسورة ، فهو مؤنث سمي به مؤنث ، ففيه تأنيث وتعريف ، ولذلك لم ينصرف ، وانصرف نوح ، لأن الخفة بكونه على ثلاثة أحرف غلبت على العجمة ، وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق والحسن : «نونِ » بكسر النون ، وهذا كما تقول في القسم بالله ، وكما تقول : «جبر »{[11229]} وقيل كسرت لاجتماع الساكنين ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم : «نونْ » بسكون النون ، وهذا على أنه حرف منفصل فحقه الوقوف عليه ، وقرأ قوم ، منهم الكسائي : { ن والقلم } بالإدغام دون غنة ، وقرأ آخرون بالإدغام وبغنة ، وقرأ الكسائي ويعقوب عن نافع وأبو بكر عن عاصم بالإخفاء بين الإدغام والإظهار . و { يسطرون } معناه : يكتبون سطوراً ، فإن أراد الملائكة فهو كتب الأعمال وما يؤمرون به ، وإن أراد بني آدم ، فهي الكتب المنزلة والعلوم وما جرى مجراها .