وقد روى شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن [ بن دابيل ]{[15995]} أن عليا ، رضي الله عنه ، قال في هذه الآية : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } قال : أخذ ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين ، فرباهما حتى استغلظا واستعلجا وشبا{[15996]} .
قال : فأوثق رِجْل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت ، وجوعهما ، وقعد هو ورجل آخر في التابوت قال : - ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم - قال : فطارا [ قال ]{[15997]} وجعل يقول لصاحبه : انظر ، ما{[15998]} ترى ؟ قال : أرى كذا وكذا ، حتى قال : أرى الدنيا كلها كأنها ذباب . قال : فقال : صوب العصا ، فصوبها ، فهبطا . قال : فهو قول الله ، عز وجل : " وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال " . قال أبو إسحاق : وكذلك هي في قراءة عبد الله : " وإن كاد مكرهم " {[15999]} .
قلت : وكذا رُوي عن أبي بن كعب ، وعمر بن الخطاب ، رضي الله عنهما ، أنهما قرآ : " وإن كاد " ، كما قرأ علي . وكذا رواه سفيان الثوري ، وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أذنان{[16000]} عن علي ، فذكر نحوه .
وكذا رُوي عن عكرمة أن سياق هذه القصة لنمرود ملك كنعان : أنه رام أسباب السماء بهذه الحيلة والمكر ، كما رام ذلك بعده فرعون ملك القبط في بناء الصرح ، فعجزا وضعفا . وهما أقل وأحقر ، وأصغر وأدحر .
وذكر مجاهد هذه القصة عن بختنصر ، وأنه لما انقطع بصره عن الأرض وأهلها ، نودي أيها الطاغية : أين تريد ؟ فَفَرق ، ثم سمع الصوت فوقه فصوب الرماح ، فصَوبت النسور ، ففزعت الجبال من هدتها ، وكادت الجبال أن تزول من حس{[16001]} ذلك ، فذلك قوله : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ }
ونقل ابن جُريج{[16002]} عن مجاهد أنه قرأها : " لَتَزُولُ منه الجبال " ، بفتح اللام الأولى ، وضم{[16003]} الثانية .
وروى العوفي عن ابن عباس في قوله : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } يقول : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال . وكذا قال الحسن البصري ، ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من كفرهم بالله وشركهم به ، ما ضر ذلك شيئا من الجبال ولا غيرها ، وإنما عاد وبال ذلك على أنفسهم .
قلت : ويشبه هذا إذا قوله تعالى : { وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا } [ الإسراء : 37 ] .
والقول الثاني في تفسيرها : ما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } يقول شركهم ، كقوله : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } [ مريم : 90 - 91 ] ، وهكذا قال الضحاك وقتادة .
يجوز أن يكون عطفَ خبر على خبر ، ويجوز أن يكون حالاً من { الناس } في قوله : { وأنذر الناس } ، أي أنذرهم في حال وقوع مكرهم .
والمكر : تبييت فعل السوء بالغير وإضمارُهُ . وتقدم في قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله } في سورة آل عمران ( 54 ) ، وفي قوله : { أفأمنوا مكر الله } في سورة الأعراف ( 99 ) .
{ وانتصب مكرهم } الأول على أنه مفعول مطلق لفعل { مكروا } لبيان النوع ، أي المكر الذي اشتهروا به ، فإضافة { مكر } إلى ضمير { هم } من إضافة المصدر إلى فاعله . وكذلك إضافة { مكر } الثاني إلى ضمير { هم } .
والعندية إما عندية عِلم ، أي وفي علم الله مكرهم ، فهو تعري بالوعيد والتهديد بالمؤاخذة بسوء فعلهم ، وإما عندية تكوين ما سُمي بمكر الله وتقديره في إرادة الله فيكون وعيداً بالجزاء على مكرهم .
وقرأ الجمهور { لتزول } بكسر اللام وبنصب الفعل المضارع بعدها فتكون ( إن ) نافية ولام { لتزول } لام الجحود ، أي وما كان مكرهم زائلة منه الجبال ، وهو استخفاف بهم ، أي ليس مكرهم بمتجاوز مكر أمثالهم ، وما هو بالذي تزول منه الجبال . وفي هذا تعريض بأن الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذين يريد المشركون المكر بهم لا يزعزعهم مكرهم لأنهم كالجبال الرواسي .
وقرأ الكسائي وحده بفتح اللام الأولى من { لَتزولُ } ورفع اللام الثانية على أن تكون { إنْ } مخففة من { إنْ } المؤكدة وقد أكمل إعمالها ، واللام فارقة بينها وبين النافية ، فيكون الكلام إثباتاً لزوال الجبال من مكرهم ، أي هو مكر عظيم لَتزول منه الجبال لو كان لها أن تزول ، أي جديرة ، فهو مستعمل في معنى الجدارة والتأهل للزوال لو كانت زائلة . وهذا من المبالغة في حصول أمر شنيع أو شديد في نوعه على نحو قوله تعالى : { يكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً } [ سورة مريم : 90 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.