7- وقلنا لهم : إن أحسنتم فأطعتم الله كان إحسانكم لأنفسكم في الدنيا والآخرة ، وإن أسأتم بالعصيان فإلى أنفسكم تسيئون . فإذا جاء وقت عقاب المرة الآخرة من مَرَّتي إفسادكم في الأرض ، بعثنا عليكم أعداءكم ، ليجعلوا آثار المساءة والذلة والكآبة بادية على وجوهكم ، وتكون العاقبة أن يدخلوا مسجد بيت المقدس ، فيخربوه كما دخلوه وخربوه أول مرة ، وليهلكوا ما غلبوا عليه إهلاكاً شديداً .
ثم قال تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } أي : فعليها ، كما قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] .
وقوله : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ } أي : المرة الآخرة{[17234]} أي : إذا أفسدتم المرة الثانية وجاء أعداؤكم { لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ } أي : يهينوكم ويقهروكم { وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ } أي بيت المقدس { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : في التي جاسوا فيها خلال الديار { وَلِيُتَبِّرُوا } أي : يدمروا ويخربوا { مَا عَلَوْا } أي : ما ظهروا عليه { تَتْبِيرًا }
{ إن أحسنتم لأنفسكم } لأن ثوابه لها . { وإن أسأتم فلها } فإن وباله عليها ، وإنما ذكرها باللازم ازدواجا . { فإذا جاء وعد الآخرة } وعد عقوبة المرة الآخرة . { ليسُوءوا وجوهكم } أي بعثناهم { وليسوءوا وجوهكم } أي يجعلوها بادية آثار المساءة فيها ، فحذف لدلالة ذكره أولا عليه . وقرأ ابن عامر وحمزة أبو بكر " ليسوء " على التوحيد ، والضمير فيه للوعد أو للعبث أو لله ، ويعضده قراءة الكسائي بالنون . وقرئ " لنسوأن " بالنون والياء والنون المخففة والمثقلة ، و " لنسوأن " بفتح اللام على الأوجه الأربعة على أنه جواب إذا واللام في قوله : { وليدخلوا المسجد } متعلق بمحذوف هو بعثناهم . { كما دخلوه أول مرة وليُتبّروا } ما ليهلكوا . { ما علوا } ما غلبوه واستولوا عليه أو مدة علوهم . { تتبيرا } ذلك بأن سلط الله عليهم الفرس مرة أخرى فغزاهم ملك بابل من ملوك الطائف اسمه جودرز ، وقيل حردوس قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلي فسألهم عنه فقالوا : دم قربان لم يقبل منا فقال : ما صدقوني فقتل عليه ألوفا منهم فلم يهدأ الدم ، ثم قال إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا ، فقالوا : إنه دم يحيى فقال لمثل هذا ينتقم ربكم منكم ، ثم قال يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك ، فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقي أحدا منهم فهدأ .
{ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها }
وقوله : { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } جاء على طريقة التجريد بأن جعلت نفس المحسن كذات يحسن لها . فاللام لتعدية فعل { أحسنتم } ، يقال : أحسنت لفلان .
وكذلك قوله : { وإن أسأتم فلها } . فقوله : { فلها } متعلق بفعل محذوف بعد فاء الجواب ، تقديره : أسأتم لها . وليس المجرور بظرف مستقر خبراً عن مبتدأ محذوف يدل عليه فعل { أسأتم } لأنه لو كان كذلك لقال فعَلَيها ، كقوله في سورة [ فصلت : 46 ] { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها }
ووجه المخالفة بين أسلوب الآيتين أن آية فصلت ليس فيها تجريد ، إذ التقدير فيها : فعمله لنفسه وإساءته عليه ، فلما كان المقدر اسماً كان المجرور بعده مستقراً غير حرف تعدية ، فجرى على ما يقتضيه الإخبار من كون الشيء المخبَر عنه نافعاً فيخبر عنه بمجرور باللام ، أو ضاراً يخبر عنه بمجرور ب ( إلى ) ، وأما آية الإسراء ففعل أحسنتم وأسأتم الواقعان في الجوابين مقتضيان التجريد فجاءا على أصل تعديتهما باللام لا لقصد نفع ولا ضر .
{ فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا }
تفريع على قوله : { وإن أسأتم فلها } [ الإسراء : 7 ] ، إذ تقدير الكلام فإذا أسأتم وجاء وعدُ المرة الآخرة .
قد حصل بهذا التفريع إيجاز بديع قضاءً لِحَقّ التقسيم الأول في قوله : { فإذا جاء وعد أولاهما } [ الإسراء : 5 ] ، ولِحَقّ إفادة ترتب مجيء وعد الآخرة على الإساءة ، ولو عطف بالواو كما هو مقتضى ظاهر التقسيم إلى مرتين فاتت إفادة الترتب والتفرع .
و{ الآخرة } صفة لمحذوف دل عليه قوله : { مرتين } ، أي وعد المرة الآخرة .
وهذا الكلام من بقية ما قضي في الكتاب بدليل تفريعه بالفاء .
ولاماتُ « ليسوؤوا ، وليدخلوا ، وليتبروا » للتعليل ، وليست للأمر لاتفاق القراءات المشهورة على كسر اللامين الثاني والثالث ، ولو كانا لامَيْ أمرٍ لكانَا ساكنين بعد واو العطف ، فيتعين أن اللام الأول لام أمر{[266]} لا لام جر . والتقدير فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عباداً لنا ليسوؤا وجوهكم الخ .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص ، وأبو جعفر ، ويعقوب { ليسوؤا } بضمير الجمع مثل أخواته الأفعاللِ الأربعة . والضمائر راجعة إلى محذوف دلّ عليه لام التعليل في قوله : { ليسوؤا } إذ هو متعلق بما دل عليه قوله في { وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا } [ الإسراء : 5 ] ، فالتقدير : فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عليكم عباداً لنا ليسوؤوا وجوهكم . وليست عائدة إلى قوله : عبادا لنا } المصرح به في قوله : { فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأس شديد } [ الإسراء : 5 ] ، لأن الذين أساؤوا ودخلوا المسجد هذه المرة أمة غير الذين جاسوا خلال الديار حسب شهادة التاريخ وأقوال المفسرين كما سيأتي .
وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف ليسوءَ } بالإفراد والضمير لله تعالى . وقرأ الكسائي { لنَسوء } بنون العظمة . وتوجيهُ هاتين القراءتين من جهة موافقة رسم المصحف أن الهمزة المفتوحة بعد الواو قد ترسم بصورة ألف ، ، فالرسم يسمح بقراءة واو الجماعة على أن يكون الألف ألف الفرق وبقراءتي الإفراد على أن الألف علامة الهمزة .
وضميرا « ليسوءوا وليدخلوا » عائدان إلى { عباداً لنا } [ الإسراء : 5 ] باعتبار لفظه لا باعتبار ما صدق المعاد ، على نحو قولهم : عندي درهم ونصفه ، أي نصف صاحب اسم درهم ، وذلك تعويل على القرينة لاقتضاء السياق بُعد الزمن بين المرتين : فكان هذا الإضمار من الإيجاز .
وضمير كما دخلوه } عائد إلى العباد المذكور في ذكر المرة الأولى بقرينة اقتضاء المعنى مراجع الضمائر كقوله تعالى : { وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها } [ الروم : 9 ] ، وقول عباس بن مرداس :
عُدنا ولولا نحن أحدق جمعهم *** بالمسلمين وأحرزوا ما جَمّعوا
فالسياق دال على معاد ( أحرزوا ) ومعاد ( جَمّعوا ) .
وسَوْء الوجوه : جَعْل المساءة عليها ، أي تسليط أسباب المساءة والكآبة عليكم حتى تبدو على وجوهكم لأن ما يخالج الإنسان من غم وحزن ، أو فرح ومسرة يظهر أثره على الوجه دون غيره من الجسد ، كقول الأعشى :
وأقدِمْ إذا ما أعين الناس تَفْرق
أراد إذا ما تفرق الناس وتظهر علامات الفرق في أعينهم .
ودخول المسجد دخول غزو بقرينة التشبيه في قوله : { كما دخلوه أول مرة } المراد منه قوله : { فجاسوا خلال الديار } [ الإسراء : 5 ] .
والتتبِير : الإهلاك والإفساد .
و{ ما علوا } موصول هو مفعول « يتبروا » ، وعائد الصلة محذوف لأنه متصل منصوب ، والتقدير : ما علوه ، والعلو علو مجازي وهو الاستيلاء والغلب .
ولم يعدهم الله في هذه المرة إلا بتوقع الرحمة دون رد الكرة ، فكان إيماء إلى أنهم لا مُلك لهم بعد هذه المرة . وبهذا تبين أن المشار إليه بهذه المرة الآخرة هو ما اقترفه اليهود من المفاسد والتمرد وقتل الأنبياء والصالحين والاعتداء على عيسى وأتباعه ، وقد أنذرهم النبي مَلاّخي في الإصحاحين الثالث والرابع من كتابه وأنذرهم زكرياء ويحيى وعيسى{[267]} فلم يرعووا فضربهم الله الضربة القاضية بيد الرومان .
وبيان ذلك : أن اليهود بعد أن عادوا إلى أورشليم وجددوا ملكهم ومسجدهم في زمن ( داريوس ) وأطلق لهم التصرف في بلادهم التي غلبهم عليها البابليون وكانوا تحت نفوذ مملكة فارس ، فمكثوا على ذلك مائتي سنة من سنة 530 إلى سنة 330 قبل المسيح ، ثم أخذ ملكهم في الانحلال بهجوم البطالسة ملوك مصر على أورشليم فصاروا تحت سلطانهم إلى سنة 166 قبل المسيح إذ قام قائد من إسرائيل اسمه ( ميثيا ) وكان من اللاويين فانتصر لليهود وتولى الأمر عليهم وتسلسل الملك بعده في أبنائه في زمن مليء بالفتن إلى سنة أربعين قبل المسيح . دخلت المملكة تحت نفوذ الرومانيين وأقاموا عليها أمراء من اليهود كان أشهرهم ( هيرودس ) ثم تمردوا للخروج على الرومانيين ، فأرسَل فيصر رومية القائدَ ( سيسيَانوس ) مع ابنه القائد ( طيطوس ) بالجيوش في حدود سنة أربعين بعد المسيح فخربت أورشليم واحترق المسجد ، وأسر ( طيطوس ) نيفاً وتسعين ألفاً من اليهود ، وقُتل من اليهود في تلك الحروب نحو ألف ألف ، ثم استعادوا المدينة وبقي منهم شرذمة قليلة بها إلى أن وافاهم الأمبراطور الروماني ( أدريانوس ) فهدمها وخربها ورمى قناطير المِلح على أرضها كيلا تعود صالحة للزراعة ، وذلك سنة 135 للمسيح . وبذلك انتهى أمر اليهود وانقرض ، وتفرقوا في الأرض ولم تخرج أورشليم من حكم الرومان إلا حين فتحها المسلمون في زمن عمر بن الخطاب سنة 16 ه صلحاً مع أهلها وهي تسمى يومئذٍ ( إيلياء ) .