المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

30- أَعَمِىَ الذين كفروا ولم يبصروا أن السماوات والأرض كانتا في بدء خلقهما ملتصقتين ، فبقدرتنا فَصَلَنا كلا منهما عن الأخرى ، وجعلنا من الماء الذي لا حياة فيه كل شيء حي ؟ ! فهل بعد كل هذا يُعرضون ، فلا يؤمنون بأنه لا إله غيرنا ؟ {[127]}


[127]:{أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شيء حي}. تقرر هذه الآية معاني علمية أيدتها النظريات الحديثة في تكوين الكواكب والأرض، إذ أن السماوات والأرض كانت في الأصل متصلة بعضها ببعض علي شكل كتلة متماسكة. والحقيقة العلمية التي اتفق عليها هي أن السماوات والأرض كانت متصلتين، واستدل علي ذلك بأدلة علمية عديدة. أما الفتق فمعناه الانفصال، وهو ما قررته الآية الشريفة وأيده العلم بعد ذلك، هناك نظريات عديدة تفسر بعض الظواهر في هذا الشأن وتعجز عن تفسير الأخرى، لذلك فليس بين هذه النظريات ما هو مقطوع به لدى العلماء بالإجماع. سنذكر فيما يلي علي سبيل المثال نظريتين: النظرية الأولي: الخاصة بتكوين المجموعة الشمسية ـ مثلا ـ تقرر أن الغيم الكوني حول الشمس بدأ في التمدد في الفضاء البارد، وأخذت حبيبات الغاز الذي يتألف منه الغيم بالتكثف علي الذرات الغبارية ذات الحركة السريعة، ثم تجمعت هذه الذرات بالتصادم والتراكم، وهي تحبس في داخلها كميات من الغازات الثقيلة، وازداد التراكم والتجمع علي مر الأزمان حتى تكونت الكواكب والأقمار والأرض علي أبعاد مناسبة، ومن المعروف أن التجمع والتراكم يؤدي إلي زيادة في الضغط الذي يؤدي بدوره إلي زيادة شديدة في الحرارة، وعندما تبلورت القشرة الأرضية بالبرودة، وخلال عمليات الانفجارات البركانية العديدة التي أعقبت ذلك، حصلت الأرض علي كميات هائلة من بخار الماء وثاني أكسيد الكربون بالانفصال عن الطفوح البركانية السائلة. ومما ساعد علي تكوين الأكسوجين الطليق في الهواء بعد ذلك نشاط وتفاعل أشعة الشمس عن طريق التمثيل الضوئي مع النباتات الأولية والأعشاب. أما النظرية الثانية: الخاصة بنشأة الكون عامة، فتتلخص في قوله تعالي: {كانت رتقا} أي مضمومتين ملتحمتين في صورة كتلة واحدة، وهذا آخر ما وصل إليه البحث العلمي في نشأة الكون، وهو أنه قبل أن يأخذ صورته الحالية كان حشدا هائلا متجمعا في أبسط صورة لقوى الذرات المتصلة الواقعة تحت ضغط هائل لا يكاد يتصوره العقل، وأن جميع أجرام السماء اليوم ومحتوياتها بما فيها المجموعة الشمسية والأرض كانت مكدسة تكديسا شديدا في كرة لا يزيد نصف قطرها علي ثلاثة ملايين من الأميال. وقوله تعالي: {ففتقناهما} إشارة لما حدث لذلك السائل النووي الأولي من انفجار عظيم انتشرت بسببه مادة الكون فيما حولها من أجواء، انتهت بتكوين مختلف أجرام السماء المختلفة المنفصلة بما فيها المجموعة الشمسية والأرض. {وجعلنا من الماء كل شيء حي}: تقرر هذه الآية حقيقة علمية أثبتها أكثر من فرع من فروع العلم، وقد أثبت علم الخلية أن الماء هو المكون الهام في تركيب مادة الخلية، وهي وحدة البناء في كل حي نباتا كان أو حيوانا، وأثبت علم الكيمياء الحيوية أن الماء لازم لحدوث جميع التفاعلات والتحولات التي تتم داخل أجسام الأحياء، فهو إما وسط أو عامل مساعد أو داخل في التفاعل أو ناتج عنه. وأثبت علم وظائف الأعضاء أن الماء ضروري لقيام كل عضو بوظائفه التي بدونها لا تتوفر له مظاهر الحياة ومقوماتها. تعليق الخبراء علي الآية 31: {وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون}: لما كان باطن الأرض منصهرا سائلا، فلو فرضنا أن الجبال وضعت في بعض نواحي الكرة الأرضية كأنها صخور هائلة مرتفعة فإن ثقلها قد يؤدي بالقشرة الأرضية أن تميد أو تنثني أو تتصدع، لذلك جعل ـ جل شأنه ـ الجبال رواسي: أي ذات جذور ممتدة في داخل القشرة الأرضية إلي أعماق كبيرة تتناسب مع ارتفاعها، فهي كأنها أوتاد، كما جعل كثافة هذه الارتفاعات والجذور أقل من كثافة القشرة المحيطة بها. كل ذلك حتى يتوزع الضغط علي القشرة العميقة بحيث يكون متساويا في جميع أنحائها فلا تميد أو تتصدع، لأن التوزيع التماثلي للأثقال علي سطح كروي يكاد لا يحدث تأثيرا يذكر. وقد أثبت العلم الحديث أن توزيع اليابس والماء علي الأرض ووجود سلاسل الجبال عليها مما يحقق الوضع الذي عليه الأرض، وقد ثبت أن الجبال الثقيلة دائما أسفلها مواد هشة وخفيفة، وأن تحت ماء المحيطات توجد المواد الثقيلة الوزن، وبذلك تتوزع الأوزان علي مختلف الكرة الأرضية. وهذا التوزيع الذي أساسه الجبال دائما قصد به حفظ توازن الكرة الأرضية، ولما ارتفعت الجبال حدثت السهول والوديان والممرات بين الجبال وشواطئ البحار والمحيطات والهضبات، وكانت سبلا وطرقا.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

يقول تعالى منبهًا على قدرته التامة ، وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء ، وقهره لجميع المخلوقات ، فقال : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : الجاحدون لإلهيته العابدون{[19612]} معه غيره ، ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق ، المستبد بالتدبير ، فكيف يليق أن يعبد غيره أو يشرك به ما سواه ، ألم{[19613]} يروا { أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا } أي : كان الجميع متصلا بعضه ببعض متلاصق متراكم ، بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر ، ففتق هذه من هذه . فجعل السموات سبعًا ، والأرض{[19614]} سبعًا ، وفصل بين سماء الدنيا والأرض بالهواء ، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض ؛ ولهذا قال : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ } أي : وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئًا فشيئًا عيانًا ، وذلك دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء :

فَفِي كُلّ شيء لَهُ آيَة *** تَدُلّ علَى أنَّه وَاحد

قال سفيان الثوري ، عن أبيه ، عن عكرمة قال : سئل ابن عباس : الليل كان قبل أو النهار ؟ فقال : أرأيتم السموات والأرض حين كانتا رتقًا ، هل كان بينهما إلا ظلمة ؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن أبي حمزة ، حدثنا حاتم ، عن حمزة بن أبي محمد ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ؛ أن رجلا أتاه يسأله عن السموات والأرض { كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } ؟ . قال : اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ، ثم تعال فأخبرني بما قال لك . قال : فذهب إلى ابن عباس فسأله . فقال ابن عباس : نعم ، كانت السموات رتقًا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقًا لا تنبت .

فلما خلق للأرض أهلا فتق هذه بالمطر ، وفتق هذه بالنبات . فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره ، فقال ابن عمر : الآن قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علمًا ، صدق - هكذا كانت . قال ابن عمر : قد كنت أقول : ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن ، فالآن قد علمت أنه قد أوتي في القرآن علمًا .

وقال عطية العَوْفي : كانت هذه رتقًا لا تمطر ، فأمطرت . وكانت هذه رتقًا لا تنبت ، فأنبتت .

وقال إسماعيل بن أبي خالد : سألت أبا صالح الحنَفِي عن قوله : { أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } ، قال : كانت السماء واحدة ، ففتق منها سبع سماوات ، وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين .

وهكذا قال مجاهد ، وزاد : ولم تكن السماء والأرض متماستين .

وقال سعيد بن جبير : بل كانت السماء والأرض ملتزقتين ، فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض ، كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه . وقال الحسن ، وقتادة ، كانتا جميعًا ، ففصل بينهما بهذا الهواء .

وقوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } أي : أصل كل الأحياء منه .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهر{[19615]} ، حدثنا سعيد بن بشير ، حدثنا قتادة عن أبي ميمونة{[19616]} ، عن أبي هريرة أنه قال : يا نبي الله إذا رأيتك قرت عيني ، وطابت نفسي ، فأخبرني عن كل شيء ، قال : " كل شيء خلق من ماء " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أبي ميمونة ، عن أبي هريرة قال : قلت : يا رسول الله ، إني إذا رأيتك طابت نفسي ، وقرت عيني ، فأنبئني عن كل شيء . قال : " كل شيء خلق من ماء " قال : قلت : أنبئني عن أمر إذا عملتُ به دخلت الجنة . قال : " أفْش السلام ، وأطعم الطعام ، وصِل الأرحام ، وقم بالليل والناس نيام ، ثم ادخل الجنَّة بسلام " {[19617]} .

ورواه أيضا عبد الصمد وعفان وبَهْز ، عن همام{[19618]} . تفرد به أحمد ، وهذا إسناد على شرط الصحيحين ، إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن ، واسمه سليم ، والترمذي يصحح له . وقد رواه سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة مرسلا والله{[19619]} أعلم .


[19612]:- في أ : "العابدين".
[19613]:- في أ : "أولم"."
[19614]:- في ف ، أ : "والأرضين".
[19615]:- في ف ، أ : "الجماهير".
[19616]:- في ف ، أ : "أبي ميمون".
[19617]:- المسند (2/295) ورواه الحاكم في المستدرك (4/129) من طريق يزيد بن هارون وصححه. ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (642) "موارد" من طريق أبي عامر العقدي عن همام به.
[19618]:- المسند (2/323 - 493) من طريق عبد الصمد ، (2/323) من طريق عفان ، (2/324) من طريق بهز. وقال الهيثمي في المجمع (5/16) : "رجاله رجال الصحيح ، خلا أبي ميمونة وهو ثقة".
[19619]:- في ف : "فالله".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

{ أو لم ير الذين كفروا } أو لم يعلموا ، وقرأ ابن كثير بغير واو . { أن السموات والأرض كانتا رتقا } ذات رتق أو مرتوقتين ، وهو الضم والالتحام أي كانتا واحدا وحقيقة متحدة . { ففتقناهما } بالتنويع والتمييز ، أو كانت السموات واحدة ففتقت بالتحريكات المختلفة حتى صارت أفلاكا ، وكانت الأرضون واحدة فجعلت باختلاف كيفياتها وأحوالها طبقات أو أقاليم . وقيل { كانتا } بحيث لا فرجة بينهما ففرج . وقيل { كانتا رتقا } لا تمطر ولا تنبت ففتقناهما بالمطر والنبات ، فيكون المراد ب { السموات } سماء الدنيا وجمعها باعتبار الآفاق أو { السموات } بأسرها على أن لها مدخلا ما في الأمطار ، والكفرة وإن لم يعلموا ذلك فهم متمكنون من العلم به نظرا فإن الفتق عارض مفتقر إلى مؤثر واجب وابتداء أو بوسط ، أو استفسارا من العلماء ومطالعة للكتب ، وإنما قال { كانتا } ولم يقل كن لأن المارد جماعة السموات وجماعة الأرض . وقرىء { رتقا } بالفتح على تقدير شيئا رتقا أي مرتوقا كالرفض بمعنى المرفوض . { وجعلنا من الماء كل شيء حي } وخلقنا من الماء كل حيوان كقوله تعالى { الله خلق كل دابة من ماء } وذلك لأنه من أعظم مواده أو لفرط احتياجه إليه وانتفاعه به بعينه ، أو صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا يحيا دونه ، وقرئ " حيا " على أنه صفة { كل } أو مفعول ثان ، والظرف لغو والشيء مخصوص بالحيوان . { أفلا يؤمنون } مع ظهور الآيات .