( وإذ قال إبراهيم : رب اجعل هذا بلدا آمنا ، وارزق أهله من الثمرات . . من آمن منهم بالله واليوم الآخر . . قال : ومن كفر فأمتعه قليلا ، ثم أضطره إلى عذاب النار ، وبئس المصير ) . .
ومرة أخرى يؤكد دعاء إبراهيم صفة الأمن للبيت . ومرة أخرى يؤكد معنى الوراثة للفضل والخير . . إن إبراهيم قد أفاد من عظة ربه له في الأولى . لقد وعى منذ أن قال له ربه : ( لا ينال عهدي الظالمين ) . .
وعى هذا الدرس . . فهو هنا ، في دعائه أن يرزق الله أهل هذا البلد من الثمرات ، يحترس ويستثني ويحدد من يعني :
( من آمن منهم بالله واليوم الآخر ) . .
إنه إبراهيم الأواه الحليم القانت المستقيم ، يتأدب بالأدب الذي علمه ربه ، فيراعيه في طلبه ودعائه . . وعندئذ يجيئه رد ربه مكملا ومبينا عن الشطر الآخر الذي سكت عنه . شطر الذين لا يؤمنون ، ومصيرهم الأليم :
( قال : ومن كفر فأمتعه قليلا ، ثم أضطره إلى عذاب النار ، وبئس المصير ) . .
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }( 126 )
وقوله تعالى : { وإذا قال إبراهيم } الآية ، دعا إبراهيم عليه السلام لذريته وغيرهم بمكة بالأمن ورغد العيش ، و { اجعل } لفظه الأمر وهو في حق الله تعالى رغبة ودعاء ، و { آمناً } معناه من الجبابرة والمسلطين والعدو المستأصل والمثلات( {[1242]} ) التي تحل بالبلاد .
وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفراً لا ماء فيه ولا نبات ، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيره ، ونبتت فيها أنواع الثمرات .
وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم أمر جبريل صلوات الله عليه فاقتلع فلسطين ، وقيل قطعة من الأردن فطاف بها حول البيت سبعاً وأنزلها بوجّ( {[1243]} ) ، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف( {[1244]} ) .
واختلف في تحريم مكة متى كان ؟ فقالت فرقة : جعلها الله حراماً يوم خلق السموات والأرض ، وقالت فرقة : حرمها إبراهيم .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والأول قاله النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته ثاني يوم الفتح( {[1245]} ) ، والثاني قاله أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيح عنه : «اللهم إن إبراهيم حرم مكة ، وإني حرمت المدينة ، ما بين لابتيها حرام »( {[1246]} )
ولا تعارض بين الحديثين ، لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه ، وكون الحرمة مدة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان ، والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور( {[1247]} ) ، وكل مقال من هذين الإخبارين حسن في مقامه ، عظم الحرمة ثاني يوم الفتح على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى ، وذكر إبراهيم عند تحريمه المدينة مثالاً لنفسه ، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضاً من قبل الله تعالى من نافذ قضائه وسابق علمه ، و { من } بدل من قوله { أهله } ، وخص إبراهيم المؤمنين بدعائه . ( {[1248]} )
وقوله تعالى : { ومن كفر } الآية قال أبي بن كعب وابن إسحاق وغيرهما : هذا القول من الله عز وجل لإبراهيم ، وقرؤوا «فأمتّعه » بضم الهمزة وفتح الميم وشد التاء ، «ثم أضطُّره » بقطع الألف وضم الراء ، وكذلك قرأ السبعة حاشا ابن عامر ، فإنه قرأ «فأمْتِعه » بضم الهمزة وسكون الميم وتخفيف التاء ، { ثم أضطره } بقطع الألف ، وقرأ يحيى بن وثاب «فأمتعه » كما قرأ ابن عامر «ثم إضطره » بكسر الهمزة على لغة قريش في قولهم لا إخال ، وقرأ أبي بن كعب «فنمتعه » «ثم نضطره »( {[1249]} ) ، و { من } شرط والجواب في { فأمتعه } ، وموضع { من } رفع على الابتداء والخبر( {[1250]} ) ، ويصح أن يكون موضعها نصباً على تقدير وأرزق من كفر ، فلا تكون شرطاً .
وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هذا القول هو من إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، وقرؤوا «فأَمْتعه » بفتح الهمزة وسكون الميم «ثم اضطره » بوصل الألف وفتح الراء ، وقرئت بالكسر ، ويجوز فيها الضم ، وقرأ ابن محيصن «ثم اطّره » بإدغام الضاد في الطاء ، وقرأ يزيد بن أبي حبيب «ثم اضطُره » بضم الطاء .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فكأن إبراهيم عليه السلام دعا للمؤمنين وعلى الكافرين( {[1251]} ) .
و { قليلاً } معناه مدة العمر ، لأن متاع الدنيا قليل ، وهو نعت إما لمصدر كأنه قال : متاعاً قليلاً : وإما لزمان ، كأنه قال : وقتاً قليلاً أو زمناً قليلاً ، و { المصير } مفعل كموضع من صار يصير : و «بيس » أصلها بئس ، وقد تقدمت في «بيسما »( {[1252]} ) ، وأمتعه معناه أخوله الدنيا وأبقيه فيها بقاء قليلاً ، لأنه فان منقض ، وأصل المتاع الزاد ، ثم استعمل فيما يكون آخر أمر الإنسان أو عطائه أو أفعاله ، قال الشاعر [ سليمان بن عبد الملك ] : [ الطويل ]
وَقَفْتُ على قَبْرٍ غريبٍ بقفرةٍ . . . متاع قليل من حبيبٍ مفارقِ( {[1253]} )
ومنه تمتيع الزوجات( {[1254]} ) ، ويضطر الله الكافر إلى النار جزاء على كفره .