151- قل لهم - يا أيها النبي - تعالوا أبيِّن لكم المحرمات التي ينبغي أن تهتموا بها وتبتعدوا عنها : لا تجعلوا لله شريكاً ما ، بأي نوع كان من أنواع الشرك ، ولا تسيئوا إلى الوالدين ، بل أحسنوا إليهما إحساناً بالغاً ، ولا تقتلوا أولادكم بسبب فقر نزل بكم ، أو تخشون نزوله في المستقبل ، فلستم أنتم الرازقين ، بل نحن الذين نرزقكم ونرزقهم ، ولا تقربوا الزنا فهو من الأمور المتناهية في القبح ، سواء منها ما ظهر للناس حين إتْيانه ، وما لم يطلع عليه إلا الله ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها لعدم موجبه ، إلا إذا كان القتل بحق تنفيذاً لحكم القضاء . أمركم الله أمراً مؤكداً باجتناب هذه المنهيّات التي تقضى بديهة العقل بالبعد عنها ، لتعقلوا ذلك .
وبعد موقف الإشهاد ورفض ما يقررونه من المحرمات ، يلقي إليهم بالمقررات الإلهية التي تتضمن ما حرمه الله حقاً . . وسنجد إلى جانب ما حرمه بعض التكاليف الإيجابية التي لها مقابل محرم . وهذه المحرمات تبدأ بالمحرم الأول . . وهو الشرك بالله . . لأن هذه هي القاعدة الأولى التي يجب أن تتقرر ، لتقوم عليها المحرمات والنواهي ، لمن استسلم لها وأسلم :
( قل : تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم : ألا تشركوا به شيئاً . وبالوالدين إحسانا ، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ، نحن نرزقكم وإياهم . ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن . ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . . ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون . . ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، حتى يبلغ أشده ، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط - لا نكلف نفسا إلا وسعها - وإذا قلتم فاعدلوا - ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا . . ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون . وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . . ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) . . .
وننظر في هذه الوصايا - التي ترد في السياق بمناسبة الحديث عن تشريعات الأنعام والثمار وأوهام الجاهلية وتصوراتها وتصرفاتها - فإذا هي قوام هذا الدين كله . . إنها قوام حياة الضمير بالتوحيد ، وقوام حياة الأسرة بأجيالها المتتابعة ، وقوام حياة المجتمع بالتكافل والطهارة فيما يجري فيه من معاملات ، وقوام حياة الإنسانية وما يحوط الحقوق فيها من ضمانات ، مرتبطة بعهد الله ، كما أنها بدئت بتوحيد الله . .
وننظر في ختام هذه الوصايا ، فإذا الله - سبحانه وتعالى - يقرر أن هذا صراطه المستقيم ؛ وكل ما عداه سبل تتفرق بالناس عن سبيله الواصل . . الوحيد . .
إنه أمر هائل هذا الذي تتضمنه الآيات الثلاث . . أمر هائل يجيء في أعقاب قضية تبدو كأنها لمحة جانبية من الجاهلية ؛ ولكنها في الحقيقة هي قضية هذا الدين الأساسية ؛ بدلالة ربطها بهذه الوصايا الهائلة الكلية . .
( قل : تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) . .
قل : تعالوا أقص عليكم ما حرمه عليكم ربكم - لا ما تدعون أنتم أنه حرمه بزعمكم - ! لقد حرمه عليكم ( ربكم ) الذي له وحده حق الربوبية - وهي القوامة والتربية والتوجيه والحاكمية - وإذن فهو اختصاصه ، وموضع سلطانه . فالذي يحرم هو " الرب " والله هو وحده الذي يجب أن يكون ربا . .
القاعدة التي يقوم عليها بناء العقيدة ؛ وترجع إليها التكاليف والفرائض ، وتستمد منها الحقوق والواجبات . . القاعدة التي يجب أن تقوم أولاً قبل الدخول في الأوامر والنواهي ؛ وقبل الدخول في التكاليف والفرائض ، وقبل الدخول في النظام والأوضاع ؛ وقبل الدخول في الشرائع والأحكام . . يجب ابتداء أن يعترف الناس بربوبية الله وحده لهم في حياتهم كما يعترفون بألوهيته وحده في عقيدتهم ؛ لا يشركون معه أحداً في ألوهيته ، ولا يشركون معه أحداً في ربوبيته كذلك . يعترفون له وحده بأنه المتصرف في شؤون هذا الكون في عالم الأسباب والأقدار ؛ ويعترفون له وحده بأنه المتصرف في حسابهم وجزائهم يوم الدين ؛ ويعترفون له وحده بأنه هو المتصرف في شؤون العباد في عالم الحكم والشريعة كلها سواء . .
إنها تنقية الضمير من أوشاب الشرك ، وتنقية العقل من أوشاب الخرافة ، وتنقية المجتمع من تقاليد الجاهلية ، وتنقية الحياة من عبودية العباد للعباد . .
إن الشرك - في كل صوره - هو المحرم الأول لأنه يجر إلى كل محرم . وهو المنكر الأول الذي يجب حشدالإنكار كله له ؛ حتى يعترف الناس أن لا إله لهم إلا الله ، ولا رب لهم إلا الله ، ولا حاكم لهم إلا الله ، ولا مشرع لهم إلا الله . كما أنهم لا يتوجهون بالشعائر لغير الله . .
وإن التوحيد - على إطلاقه - لهو القاعدة الأولى التي لا يغني غناءها شيء آخر ، من عبادة أو خلق أو عمل . .
من أجل ذلك تبدأ الوصايا كلها بهذه القاعدة :
وينبغي أن نلتفت إلى ما قبل هذه الوصايا ، لنعلم ماذا يراد بالشرك الذي ينهى عنه في مقدمة الوصايا - لقد كان السياق كله بصدد قضية معينة - قضية التشريع ومزاولة حق الحاكمية في إصداره - وقبل آية واحدة كان موقف الإشهاد الذي يحسن أن نعيد نصه :
( قل : هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا . فإن شهدوا فلا تشهد معهم . ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ، والذين لا يؤمنون بالآخرة ، وهم بربهم يعدلون ) . .
يجب أن نذكر هذه الآية ، وما قلناه عنها في الصفحات السابقة لندرك ماذا يعني السياق القرآني هنا بالشرك الذي ينهى عنه ابتداءً . . إنه الشرك في الاعتقاد ، كما أنه الشرك في الحاكمية . فالسياق حاضر ، والمناسبة فيه حاضرة . .
ونحن نحتاج إلى هذا التذكير المستمر ، لأن جهود الشياطين في زحزحة هذا الدين عن مفهوماته الأساسية ، قد آتت ثمارها - مع الأسف - فجعلت مسألة الحاكمية تتزحزح عن مكان العقيدة ، وتنفصل في الحس عن أصلها الاعتقادي ! ومن ثم نجد حتى الغيورين على الإسلام ، يتحدثون لتصحيح شعيرة تعبدية ؛ أولاستنكار انحلال أخلاقي ؛ أو لمخالفة من المخالفات القانونية . ولكنهم لا يتحدثون عن أصل الحاكمية ، وموقعها من العقيدة الإسلامية ! يستنكرون المنكرات الجانبية الفرعية ، ولا يستنكرون المنكر الأكبر ؛ وهو قيام الحياة في غير التوحيد ؛ أي على غير إفراد الله - سبحانه - بالحاكمية . .
إن الله قبل أن يوصي الناس أي وصية ، أوصاهم ألا يشركوا به شيئا . في موضع من السياق القرآني يحدد المعنيّ بالشرك الذي تبدأ بالنهي عنه جميع الوصايا !
إنها القاعدة التي يرتبط على أساسها الفرد بالله على بصيرة ، وترتبط بها الجماعة بالمعيار الثابت الذي ترجع إليه في كافة الروابط ؛ وبالقيم الأساسية التي تحكم الحياة البشرية . . فلا تظل نهباً لريح الشهوات والنزوات ، واصطلاحات البشر التي تتراوح مع الشهوات والنزوات . .
( وبالوالدين إحسانا . ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ) . .
إنها رابطة الأسرة بأجيالها المتلاحقة - تقوم بعد الرابطة في الله ووحدة الاتجاه - ولقد علم الله - سبحانه - أنه أرحم بالناس من الآباء والأبناء . فأوصى الأبناء بالآباء ، وأوصى الآباء بالأبناء ؛ وربط الوصية بمعرفة ألوهيته الواحدة ، والارتباط بربوبيته المتفردة . وقال لهم : إنه هو الذي يكفل لهم الرزق ، فلا يضيقوا بالتبعات تجاه الوالدين في كبرتهما ؛ ولا تجاه الأولاد في ضعفهم ، ولا يخافوا الفقر والحاجة فالله يرزقهم جميعاً . .
( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) . .
ولما وصاهم الله بالأسرة ، وصاهم بالقاعدة التي تقوم عليها - كما يقوم عليها المجتمع كله - وهي قاعدةالنظافة والطهارة والعفة . فنهاهم عن الفواحش ظاهرها وخافيها . . فهو نهي مرتبط تماماً بالوصية السابقة عليها . . وبالوصية الأولى التي تقوم عليها كافة الوصايا .
إنه لا يمكن قيام أسرة ، ولا استقامة مجتمع ، في وحل الفواحش ما ظهر منها وما بطن . . إنه لا بد من طهارة ونظافة وعفة لتقوم الأسرة وليقوم المجتمع . والذين يحبون أن تشيع الفاحشة هم الذين يحبون أن تتزعزع قوائم الأسرة وأن ينهار المجتمع .
والفواحش : كل ما أفحش - أي تجاوز الحد - وإن كانت أحيانا تخص بنوع منها هو فاحشة الزنا . ويغلب على الظن أن يكون هذا هو المعنى المراد في هذا الموضع . لأن المجال مجال تعديد محرمات بذاتها ، فتكون هذه واحدة منها بعينها . وإلا فقتل النفس فاحشة ، وأكل مال اليتيم فاحشة ، والشرك بالله فاحشة الفواحش . فتخصيص( الفواحش )هنا بفواحش الزنا أولى بطبيعة السياق . وصيغة الجمع ، لأن هذه الجريمة ذات مقدمات وملابسات كلها فاحشة مثلها . فالتبرج ، والتهتك ، والاختلاط المثير ، والكلمات والإشارات والحركات والضحكات الفاجرة ، والإغراء والتزيين والاستثارة . . . كلها فواحش تحيط بالفاحشة الأخيرة . وكلها فواحش منها الظاهر ومنها الباطن . منها المستسر في الضمير ومنها البادي في الجوارح . منها المخبوء المستور ومنها المعلن المكشوف ! وكلها مما يحطم قوام الأسرة ، وينخر في جسم الجماعة ، فوق ما يلطخ ضمائر الأفراد ، ويحقر من اهتماماتهم ، ومن ثم جاءت بعد الحديث عن الوالدين والأولاد .
ولأن هذه الفواحش ذات إغراء وجاذبية ، كان التعبير : ولا تقربوا . . للنهي عن مجرد الاقتراب ، سداً للذرائع ، واتقاء للجاذبية التي تضعف معها الإرادة . . لذلك حرمت النظرة الثانية - بعد الأولى غير المتعمدة - ولذلك كان الاختلاط ضرورة تتاح بقدر الضرورة . ولذلك كان التبرج - حتى بالتعطر في الطريق - حراماً ، وكانت الحركات المثيرة ، والضحكات المثيرة ، والإشارت المثيرة ، ممنوعة في الحياة الإسلامية النظيفة . . فهذا الدين لا يريد أن يعرض الناس للفتنة ثم يكلف أعصابهم عنتا في المقاومة ! فهو دين وقاية قبل أن يقيم الحدود ، ويوقع العقوبات . وهو دين حماية للضمائر والمشاعر والحواس والجوارح . وربك أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير
وكذلك نعلم ما الذي يريده بهذا الدين ، وبحياة المجتمع كله وبحياة الأسرة ، من يزينون للناس الشهوات ، ومن يطلقون الغرائر من عقالها بالكلمة والصورة والقصة والفيلم وبالمعسكر المختلط وبسائر أدوات التوجيه والإعلام !
( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) . .
ويكثر في السياق القرآني مجيء النهي عن هذه المنكرات الثلاثة متتابعة : الشرك ، والزنا ، وقتل النفس . . ذلك أنها كلها جرائم قتل في الحقيقة ! الجريمة الأولى جريمة قتل للفطرة ؛ والثانية جريمة قتل للجماعة ، والثالثة جريمة قتل للنفس المفردة . . إن الفطرة التي لا تعيش على التوحيد فطرة ميتة . والجماعة التي تشيع فيها الفاحشة جماعة ميتة ، منتهية حتماً إلى الدمار . والحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية والحضارة الفارسية . شواهد من التاريخ . ومقدمات الدمار والانهيار في الحضارة الغربية تنبىء بالمصير المرتقب لأمم ينخرفيها كل هذا الفساد . والمجتمع الذي تشيع فيه المقاتل والثارات ، مجتمع مهدد بالدمار . ومن ثم يجعل الإسلام عقوبة هذه الجرائم هي أقسى العقوبات ، لأنه يريد حماية مجتمعه من عوامل الدمار .
ولقد سبق النهي عن قتل الأولاد من إملاق . فالآن ينهى عن قتل( النفس )عامة . فيوحي بأن كل قتل فردي إنما يقع على جنس( النفس )في عمومه . تؤيد هذا الفهم آية : ( . . . أنه من قتل نفساً ، بغير نفس أو فساد في الأرض ، فكأنما قتل الناس جميعاً ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ) . . فالاعتداء إنما يقع على حق الحياة ذاتها ، وعلى النفس البشرية في عمومها . وعلى هذه القاعدة كفل الله حرمة النفس ابتداء . وهناك طمأنينة الجماعة المسلمة في دار الإسلام وأمنها ، وانطلاق كل فرد فيها ليعمل وينتج آمناً على حياته ، لا يُؤذى فيها إلا بالحق . والحق الذي تؤخذ به النفس بينه الله في شريعته ، ولم يتركه للتقدير والتأويل . ولكنه لم يبينه ليصبح شريعة إلا بعد أن قامت الدولة المسلمة ، وأصبح لها من السلطان ما يكفل لها تنفيذ الشريعة !
وهذه اللفتة لها قيمتها في تعريفنا بطبيعة منهج هذا الدين في النشأة والحركة . فحتى هذه القواعد الأساسية في حياة المجتمع ، لم يفصلها القرآن إلا في مناسبتها العملية .
وقبل أن يمضي السياق في بيان المحرمات والتكاليف ، يفصل بين هذا القسم والذي يليه بإبراز وصية الله وأمره وتوجيهه :
( ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ) .
وهذا التعقيب يجيء وفق المنهج القرآني في ربط كل أمر وكل نهي بالله . تقريرا لوحدة السلطة التي تأمر وتنهى في الناس ، وربطاً للأوامر والنواهي بهذه السلطة التي تجعل للأمر والنهي وزنه في ضمائر الناس !
كذلك تجيء فيه الإشارة إلى التعقل . فالعقل يقتضي أن تكون هذه السلطة وحدها هي التي تعبد الناس لشرعها . وقد سبق أنها سلطة الخالق الرازق المتصرف في حياة الناس !
وهذا وذلك فوق ما في الطائفة الأولى من التجانس . وما بين الطائفة الثانية كذلك من التجانس . فجعل هذه في آية ، وتلك في آية ، وبينهما هذا الإيقاع .
قال داود الأوْدِي ، عن الشعبي ، عن علَقْمَة ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : من أراد أن يقرأ صحيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه ، فليقرأ هؤلاء{[11335]} الآيات : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } إلى قوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا بكر بن محمد الصيرفي بمرو ، حدثنا عبد الصمد بن الفضل ، حدثنا مالك بن إسماعيل النَّهدي ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة قال : سمعت ابن عباس يقول : في{[11336]} الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب ، ثم قرأ : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ] }{[11337]} .
ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه{[11338]} .
قلت : ورواه زُهَيْر وقيس بن الربيع كلاهما عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن قيس ، عن ابن عباس ، به . والله{[11339]} أعلم .
وروى الحاكم أيضًا في مستدركه{[11340]} من حديث يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن أبي إدريس ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيكم يبايعني على ثلاث ؟ " - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } حتى فرغ من الآيات - فمن وفى فأجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئًا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته{[11341]} ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله ، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه " .
ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . وإنما اتفقا على حديث الزهري ، عن أبي إدريس ، عن عبادة : " بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا " الحديث . وقد روى سفيان بن حُسَين كلا الحديثين ، فلا ينبغي أن ينسب إلى الوهم في أحد الحديثين إذا جمع بينهما ، والله أعلم{[11342]} .
وأما تفسيرها فيقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد - لهؤلاء المشركين الذين [ أشركوا و ]{[11343]} عبدوا غير الله ، وحرموا ما رزقهم الله ، وقتلوا أولادهم وكل ذلك فعلوه بآرائهم وتسويل الشياطين لهم ، { قُلْ } لهم { تَعَالَوْا } أي : هلموا وأقبلوا : { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } أي : أقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقًا لا تخرصًا ، ولا ظنًا ، بل وحيًا منه وأمرًا من عنده :
{ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } وكأن في الكلام محذوفًا دل عليه السياق ، وتقديره : وأوصاكم{[11344]} { أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } ؛ ولهذا قال في آخر الآية : { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وكما قال الشاعر :
حَجَّ وأوصَى بسُلَيمى الأعْبُدَا *** أنْ لا تَرَى ولا تُكَلِّم أحَدا
ولا يَزَلْ شَرَابُها مُبَرَّدا{[11345]} .
وتقول العرب : أمرتك ألا تقوم .
وفي الصحيحين من حديث أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا من أمتك ، دخل الجنة . قلت : وإن زنا وإن سرق ؟ قال : وإن زنا وإن سرق . قلت : وإن زنا وإن سرق ؟ قال : وإن زنا وإن سرق . قلت : وإن زنا وإن سرق ؟ قال : وإن زنا وإن سرق ، وإن شرب الخمر " : وفي بعض{[11346]} الروايات أن القائل ذلك إنما هو أبو ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه ، عليه{[11347]} السلام ، قال في الثالثة : " وإن رغم أنفُ أبي ذر " {[11348]} فكان أبو ذر يقول بعد تمام الحديث : وإن رغم أنف أبي ذر .
وفي بعض المسانيد والسنن عن أبي ذر [ رضي الله عنه ]{[11349]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي ، ولو أتيتني بقراب الأرض خطيئة أتيتك بقرابها مغفرة ما لم تشرك بي شيئا ، وإن أخطأت حتى تبلغ خطاياك عَنَان السماء ثم استغفرتني ، غفرت لك " {[11350]} .
ولهذا شاهد في القرآن ، قال الله تعالى{[11351]} : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ، 116 ] .
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود : " من مات لا يشرك بالله شيئًا ، دخل الجنة " {[11352]} والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدًا .
وروى ابن مَرْدُوَيه من حديث عبادة وأبي الدرداء : " لا تشركوا بالله شيئًا ، وإن قُطِّعتم أو صُلِّبتم أو حُرِّقتم " {[11353]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عَوْف الحِمْصي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا نافع بن يزيد حدثني سيار بن عبد الرحمن ، عن يزيد بن قَوْذر ، عن سلمة بن شُرَيح ، عن عبادة بن الصامت قال : أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع خصال : " ألا تشركوا بالله شيئًا ، وإن حرقتم وقطعتم وصلبتم " {[11354]} .
وقوله تعالى : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي : وأوصاكم وأمركم بالوالدين إحسانا ، أي : أن تحسنوا إليهم ، كما قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 ] .
وقرأ بعضهم : " ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " .
والله تعالى كثيرًا ما يقرن بين طاعته وبر الوالدين ، كما قال : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ لقمان : 14 ، 15 ] . فأمر بالإحسان إليهما ، وإن كانا مشركين بحسبهما ، وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } الآية . [ البقرة : 83 ] . والآيات في هذا كثيرة . وفي الصحيحين عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : " الصلاة على وقتها " . قلت : ثم أيّ ؟ قال : " بر الوالدين " . قلت : ثم أيّ ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " . قال ابن مسعود : حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته{[11355]} لزادني{[11356]} .
وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه بسنده عن أبي الدرداء ، وعن عبادة بن الصامت ، كل منهما يقول : أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم : " أطع والديك ، وإن أمراك أن تخرج لهما من الدنيا ، فافعل " {[11357]} .
ولكن في إسناديهما ضعف ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } لما أوصى{[11358]} تعالى ببر الآباء والأجداد ، عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد ، فقال تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ } وذلك أنهم كانوا يقتلون أولادهم كما سَوَّلت لهم الشياطين ذلك ، فكانوا يئدون البنات خَشْيَة العار ، وربما قتلوا بعض الذكور خيفةَ الافتقار ؛ ولهذا جاء في الصحيحين ، من حديث عبد الله ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله ندّا وهو خلَقَكَ " . قلت : ثم أيّ ؟ قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعَم معك " . قلت : ثم أيّ ؟ قال : " أن تُزَاني حليلة جارك " . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ] }{[11359]} [ الفرقان : 68 ] . {[11360]}
وقوله : { مِنْ إِمْلاقٍ } قال ابن عباس ، وقتادة ، والسُّدِّي : هو الفقر ، أي : ولا تقتلوهم من فقركم الحاصل ، وقال في سورة " سبحان " : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [ الإسراء : 31 ] ، أي : خشية{[11361]} حصول فقر ، في الآجل ؛ ولهذا قال هناك : { نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ } فبدأ برزقهم للاهتمام بهم ، أي : لا تخافوا من فقركم بسببهم ، فرزقهم على الله . وأما في هذه الآية فلما كان الفقر حاصلا قال : { نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } ؛ لأنه الأهم هاهنا ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } كقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] . وقد تقدم تفسيرها في قوله : { وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ } [ الأنعام : 12 ] .
وفي الصحيحين ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أحد أغْيَر من الله ، من أجل ذلك حَرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطنَ " {[11362]} .
وقال عبد الملك بن عُمَيْر ، عن وَرّاد ، عن مولاه المغيرة قال : قال سعد بن عبادة : لو رأيت مع امرأتي رجلا لضربته بالسيف غير مُصْفَح . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أتعجبون من غيرة سعد ! فوالله لأنا أغير من سعد ، والله أغير مني ، من أجل ذلك حَرّم الفواحش ما ظهر منها وما بَطَن " . أخرجاه{[11363]} .
وقال كامل أبو العلاء ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، إنا{[11364]} . نغار . قال : " والله إني لأغار ، والله أغير مني ، ومن غيرته نهى عن الفواحش " {[11365]} .
رواه ابن مَرْدُوَيه ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، وهو على شرط الترمذي ، فقد روي بهذا السند : " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين " {[11366]} .
وقوله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ } وهذا مما نص تبارك وتعالى على النهي عنه تأكيدًا ، وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، فقد جاء في الصحيحين ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " {[11367]} .
وفي لفظ لمسلم{[11368]} والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم . . . " وذكره ، قال الأعمش : فحدثت به إبراهيم ، فحدثني عن الأسود ، عن عائشة [ رضي الله عنها ]{[11369]} ، بمثله{[11370]} .
وروى أبو داود ، والنسائي ، عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال : زانٍ مُحْصَن يُرْجَم ، ورجل قتل رَجُلا مُتَعمِّدا فيقتل ، ورجل يخرج من الإسلام حارب الله ورسوله ، فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض " . وهذا لفظ النسائي{[11371]} .
وعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، أنه قال وهو محصور : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يَحِلُّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كَفَر بعد إسلامه ، أو زنا بعد إحصانه ، أو قتل نفسا بغير نفس " . فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ، ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منه بعد إذ هداني الله ، ولا قتلت نفسا ، فبم تقتلونني . رواه الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه . وقال الترمذي : هذا حديث حسن{[11372]} .
وقد جاء النهي والزجر والوعيد في قتل المعاهدَ - وهو المستأمن من أهل الحرب - كما رواه البخاري ، عن عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل مُعاهِدًا لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد{[11373]} من مسيرة أربعين عاما " {[11374]} .
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل معاهَدًا له ذِمَّة الله وذمَّة رسوله ، فقد أخفر بذمة الله ، فلا يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خَريفًا " .
رواه ابن ماجه ، والترمذي وقال : حسن صحيح{[11375]} .
وقوله : { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي : هذا ما{[11376]} وصاكم به لعلكم تعقلون عنه أمره ونهيه .
استئناف ابتدائي للانتقال من إبطال تحريم ما ادّعوا تحريمه من لحوم الأنعام ، إلى دعوتهم لمعرفة المحرّمات ، التي علمُها حقّ وهو أحقّ بأنْ يعلموه ممّا اختلقوا من افترائهم وموّهوا بجدلهم . والمناسبة لهذا الانتقال ظاهرة فالمقام مقامُ تعليم وإرشاد ، ولذلك ابتدىء بأمر الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بفعل القول استرعاء للأسماع كما تقدّم آنفاً .
وعُقّب بفعل : { تعالوا } اهتماماً بالغرض المنتقل إليه بأنَّه أجدى عليهم من تلك السّفاسف التي اهتمّوا بها وهذا على أسلوب قوله تعالى : { ليس البِرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن بالله واليوم الآخر } [ البقرة : 177 ] الآيات . وقوله : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كَمَنْ آمن بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 19 ] الآية ، ليعلموا البون بين ما يَدعون إليه قومهم وبين ما يدعوهم إليه الإسلام ، من جلائل الأعمال ، فيعلموا أنَّهم قد أضاعوا أزمانهم وأذهانهم .
وافتتاحه بطلب الحضور دليل على أنّ الخطاب للمشركين الذين كانوا في إعراض . وقد تلا عليهم أحكاماً قد كانوا جارين على خلافها ممّا أفسد حالهم في جاهليتهم ، وفي ذلك تسجيل عليهم بسوء أعمالهم ممّا يؤخذ من النّهي عنها والأمر بضدّها .
وقد انقسمت الأحكام التي تضمّنتها هذه الجمل المتعاطفة في الآيات الثّلاث المفتتحة بقوله : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى ثلاثة أقسام :
الأوّل : أحكام بها إصلاح الحالة الاجتماعية العامَّة بين النّاس وهو ما افتتح بقوله : { ألاَّ تشركوا به شيئاً } .
الثّاني : ما به حفظ نظام تعامل النّاس بعضِهم مع بعض وهو المفتتح بقوله : { ولا تَقْرَبوا مال اليتيم } [ الأنعام : 152 ] .
الثّالث : أصل كلي جامع لجميع الهدى وهو اتّباع طريق الإسلام والتّحرّز من الخروج عنه إلى سبل الضّلال وهو المفتتح بقوله : { وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] .
وقد ذيّل كلّ قسم من هذه الأقسام بالوصاية به بقوله : { ذلكم وصاكم به } ثلاث مرّات .
و ( تعالَ ) فعل أمر ، أصله يُؤْمر به من يراد صعوده إلى مكان مرتفع فوق مكانه ، ولعلّ ذلك لأنَّهم كانوا إذا نَادوا إلى أمر مهمّ ارتقَى المنادي على ربوة ليُسمَع صوته ، ثمّ شاع إطلاق ( تَعالَ ) على طلب المجيء مجازاً بعلاقة الإطلاق فهو مجاز شائع صار حقيقة عرفية ، فأصله فعل أمر لا محالة من التعالي وهو تكلّف الاعتلاء ثمّ نقل إلى طلب الإقبال مطلقاً ، فقيل : هو اسم فعلِ أمر بمعنى ( اقدَمْ ) ، لأنَّهم وجدوه غير متصرّف في الكلام إذ لا يقال : تعاليتُ بمعنى ( قَدِمت ) ، ولا تعالَى إليّ فلان بمعنى جاء ، وأيّاً ما كان فقد لزمته علامات مناسبة لحال المخاطب به فيقال : تعالوا وتَعالَيْن . وبذلك رجَّح جمهور النّحاة أنَّه فعل أمر وليس باسْم فِعل ، ولأنَّه لو كان اسم فعل لما لحقتْه العلامات ، ولكان مثل : هَلُمّ وهَيْهات .
و { أتْلُ } جواب { تعالوا } ، والتّلاوة القراءة ، والسّردُ وحكاية اللّفظ ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } [ البقرة : 102 ] . و { ألاَّ تشركوا } تفسير للتّلاوة لأنَّها في معنى القول .
وذُكرَت فيما حرّم الله عليهم أشياءُ ليست من قبيل اللّحوم إشارة إلى أنّ الاهتمام بالمحرّمات الفواحش أولى من العكوف على دراسة أحكام الأطعمة ، تعريضاً بصرف المشركين همتّهم إلى بيان الأطعمة وتضييعهم تزكية نفوسهم وكفّ المفاسد عن النّاس ، ونظيره قوله : { قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده } إلى قوله { إنَّما حرم ربِّي الفواحش ما ظهر منها } [ الأعراف : 32 ، 33 ] الآية .
وقد ذُكرت المحرّمات : بعضها بصيغة النّهي ، وبعضها بصيغة الأمر الصّريح أو المؤوّل ، لأنّ الأمر بالشّيء يقتضي النّهي عن ضدّه ، ونكتة الاختلاف في صيغة الطّلب لهاته المعدودات سنبيّنها .
و { أنْ } تفسيرية لفعل : { أتل } لأنّ التّلاوة فيها معنى القول . فجملة : { ألا تشركوا } في موقع عطف بيان . والابتداء بالنَّهي عن الإشراك لأنّ إصلاح الاعتقاد هو مفتاح باب الإصلاح في العاجل ، والفلاح في الآجل .
وقوله : { وبالوالدين إحسانا } عطف على جملة : { ألاَّ تشركوا } . و { إحسانا } مصدر ناب مناب فعله ، أي وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، وهو أمر بالإحسان إليهما فيفيد النّهي عن ضدّه : وهو الإساءة إلى الوالدين ، وبذلك الاعتبار وقع هنا في عداد ما حَرّم الله لأنّ المحرّم هو الإساءة للوالدين . وإنَّما عدل عن النّهي عن الإساءة إلى الأمر بالإحسان اعتناء بالوالدين ، لأن الله أراد برهما ، والبرّ إحسان ، والأمرُ به يتضمّن النَّهي عن الإساءة إليهما بطريق فحوى الخطاب ، وقد كان كثير من العرب في جاهليتهم أهل جلافة ، فكان الأولاد لا يوقّرون آباءهم إذا أضعفهم الكبر . فلذلك كثرت وصاية القرآن بالإحسان بالوالدين .
وقوله : { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } جملة عطفت على الجملة قبلها أريد به النّهي عن الوأد ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى في هذه السّورة ( 137 ) : { وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } و ( مِنْ ) تعليلية ، وأصلها الابتدائيّة فجعل المعلول كأنَّه مبتدىء من علّته .
والإملاق : الفقر ، وكونه علّة لقتل الأولاد يقع على وجهين : أن يكون حاصلاً بالفعل ، وهو المراد هنا ، وهو الذي تقتضيه ( من ) التّعليلية ، وأن يكون متوقَّع الحصول كما قال تعالى ، في آية سورة الإسراء ( 31 ) : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } لأنَّهم كانوا يئدون بناتهم إمّا للعجز عن القيام بهنّ وإمَّا لتوقّع ذلك . قال إسحاق بن خلف ، وهو إسلامي قديم :
إذَا تذكرتُ بنتي حين تندبني *** فاضت لعبرة بنتي عبرتي بدم
أحاذر الفقر يوماً أن يُلِمّ بها *** فيُكشفَ السترُ عن لحم على وضم
وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وكذلك زيَّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } في هذه السورة ( 137 ) .
وجملة : { نحن نرزقكم وإياهم } معترضة ، مستأنفة ، علّة للنّهي عن قتلهم ، إبطالاً لمعذرتهم : لأنّ الفقر قد جعلوه عذراً لقتل الأولاد ، ومع كون الفقر لا يصلح أن يكون داعياً لقتل النّفس ، فقد بيّن الله أنَّه لمّا خَلق الأولاد فقد قدّر رزقهم ، فمن الحماقة أن يظنّ الأب أنّ عجزه عن رزقهم يخوّله قتلهم ، وكان الأجدر به أن يكتسِبَ لهم .
وعُدل عن طريق الغيبة الذي جرى عليه الكلام من قوله : { ما حرم ربكم } إلى طريق التكلّم بضمير : نرزقكم تذكيراً بالذي أمر بهذا القول كلّه ، حتى كأنّ الله أقحمَ كلامَه بنفسه في أثناء كلام رسوله الّذي أمره به ، فكلّم النّاس بنفسه ، وتأكيداً لتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم . وذكَرَ الله رزقهم مع رزق آبائهم ، وقدم رزق الآباء للإشارة إلى أنَّه كما رزق الآباء ، فلم يموتوا جوعاً ، كذلك يرزق الأبناء ، على أن الفقر إنَّما اعترى الآباء فلِمَ يُقتل لأجله الأبناء .
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي . هنا لإفادة الاختصاص : أي نحن نرزقكم وإيَّاهم لا أنتم ترزقون أنفسكم ولا ترزقون أبناءكم . وقد بيّنتُ آنفاً أنّ قبائل كثيرة كانت تئد البنات . فلذلك حذروا في هذه الآية .
وجملة : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } عطف على ما قبله . وهو نهي عن اقتراف الآثام ، وقد نهى عن القرب منها ، وهو أبلغ في التّحذير من النّهي عن ملابستها : لأنّ القرب من الشّيء مظنّة الوقوع فيه ، ولمّا لم يكن للإثم قرب وبعد كان القرب مراداً به الكناية عن ملابسة الإثم أقلّ ملابسة ، لأنَّه من المتعارف أن يقال ذلك في الأمور المستقرة في الأمكنة إذا قيل لا تقرب منها فُهم النّهي عن القرب منها ليكون النّهي عن ملابستها بالأحرى ، فلمّا تعذّر المعنى المطابقي هنا تعيّنت إرادة المعنى الالتزامي بأبلغ وجه .
والفواحش : الآثام الكبيرة ، وهي المشتملة على مفاسد ، وتقدّم بيانها عند قوله تعالى : { إنَّما يأمركم بالسّوء والفحشاء } في سورة البقرة ( 169 ) .
{ وما ظهر منها } ما يظهرونه ولا يسْتَخْفُون به ، مثل الغضب والقذف . { وما بطن } ما يستخْفون به وأكثره الزّنا والسّرقة وكانا فاشيين في العرب .
ومن المفسّرين من فسّر الفواحش بالزّنا ، وجعل ما ظهر منها ما يفعله سفهاؤهم في الحوانيت وديار البغايا ، وبما بطَن اتَّخاذ الأخدان سِرّاً ، وروي هذا عن السُدّي . وروي عن الضحّاك وابن عبّاس : كان أهل الجاهليّة يرون الزّنا سِراً حلالاً ، ويستقبحونه في العلانية ، فحرّم الله الزّنى في السرّ والعلانية . وعندي أن صيغة الجمع في الفواحش ترجح التّفسير الأوّل كقوله تعالى : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } [ النجم : 32 ] . ولعلّ الذي حمل هؤلاء على تفسير الفواحش بالزّنى قوله في سورة الإسراء ( 32 ) في آيات عَدَّدت منهيات كثيرة تشابه آيات هذه السورة وهي قوله : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } وليس يلزم أن يكون المراد بالآيات المتماثلة واحداً .
وتقدّم القول في : { ما ظهر منها وما بطن } عند قوله تعالى : { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } في هذه السّورة ( 120 .
وأعقب ذلك بالنّهي عن قتل النّفس ، وهو من الفواحش على تفسيرها بالأعمّ ، تخصيصاً له بالذّكر : لأنَّه فساد عظيم ، ولأنّه كان متفشياً بين العرب .
والتّعريف في النّفس تعريف الجنس ، فيفيد الاستغراق .
ووصفت { بالتي حَرّم الله } تأكيداً للتّحريم بأنَّه تحريم قديم فإنّ الله حرّم قتل النّفس من عهد آدم ، وتعليق التّحريم بالنّفس : هو على وجه دلالة الاقتضاء ، أي حرّم الله قتلها على ما هو المعروف في تعليق التّحريم والتّحليل بأعيان الذّوات أنَّه يراد تعليقه بالمعنى الذي تستعمل تلك الذّات فيه كقوله : { أحلّت لكم بهيمة الأنعام } [ المائدة : 1 ] أي ، أكلها ، ويجوز أن يكون معنى : { حرم الله } جعلها الله حَرَماً أي شيئاً محترماً لا يعتدى عليه ، كقوله تعالى : { إنَّما أمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة الذي حرمها } [ النمل : 91 ] . وفي الحديث : « وإنِّي أحَرّم ما بين لابَتَيْها » .
وقوله : { إلا بالحق } استثناء مفرّغ من عموم أحوال ملابسة القتل ، أي لا تقتلوها في أيَّة حالة أو بأي سبب تنتحلونه إلاّ بسبب الحقّ ، فالباء للملابسة أو السببيّة .
والحقّ ضدّ الباطل ، وهو الأمر الذي حَقّ ، أي ثبت أنّه غير باطل في حكم الشّريعة وعند أهل العقول السّليمة البريئة من هوى أو شهوة خاصّة ، فيكونُ الأمرَ الذي اتَّفقت العقول على قبوله ، وهو ما اتَّفقت عليه الشّرائع ، أو الذي اصطلح أهل نزعة خاصّة على أنَّه يحقّ وقوعه وهو ما اصطلحت عليه شريعة خاصّة بأمّة أو زمن .
فالتّعريف في : { الحق } للجنس ، والمراد به ما يتحقّق فيه ماهية الحقّ المتقدّم شرحها ، وحيثما أطلق في الإسلام فالمراد به ماهيته في نظر الإسلام ، وقد فصّل الإسلام حقّ قتل النّفس بالقرآن والسنّة ، وهو قتل المحارب والقصاص ، وهذان بنصّ القرآن ، وقتل المرتدّ عن الإسلام بعد استتابَته ، وقتل الزّاني المحصن ، وقتل الممتنع من أداء الصّلاة بعد إنظاره حتّى يخرج وقتها ، وهذه الثّلاثة وردت بها أحاديث عن النّبيء صلى الله عليه وسلم ومنه القتل الناشىء عن إكراه ودفاعٍ مأذونٍ فيه شرعاً وذلك قتل من يُقتل من البغاة وهو بنصّ القرآن ، وقتل من يقتل من مانعي الزّكاة وهو بإجماع الصّحابة ، وأمّا الجهاد فغير داخل في قوله : { إلا بالحق } ، ولكنّ قتل الأسير في الجهاد إذا كان لمصلحة كان حقّاً ، وقد فصلنا الكلام على نظير هذه الآية في سورة الإسراء .
والإشارة بقوله : { ذلكم وصاكم به } إلى مجموع ما ذكر ، ولذلك أفرد اسم الإشارة باعتبار المذكور ، ولو أتى بإشارة الجمع لكان ذلك فصيحاً ، ومنه : { كل أولئك كان عنه مسؤلاً } [ الإسراء : 36 ] .
وتقدّم معنى الوصاية عند قوله : { أم كنتم شهداء إذ وصّاكم الله بهذا } [ الأنعام : 144 ] آنفاً .
وقوله : { لعلكم تعقلون } رجاء أن يعقلوا ، أي يصيروا ذوي عقول لأنّ ملابسة بعض هذه المحرّمات ينبىء عن خساسة عقل ، بحيث ينزّل ملابسوها منزلة من لا يعقل ، فلذلك رُجي أن يعقلوا .
وقوله : { ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } تذييل جعل نهاية للآية ، فأومأ إلى تنهية نوع من المحرّمات وهو المحرّمات الرّاجع تحريمها إلى إصلاح الحالة الاجتماعيّة للأمّة ، بإصلاح الاعتقاد ، وحفظ نظام العائلة والانكفاف عن المفاسد ، وحفظ النّوع بترك التّقاتل .