المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

30- أَعَمِىَ الذين كفروا ولم يبصروا أن السماوات والأرض كانتا في بدء خلقهما ملتصقتين ، فبقدرتنا فَصَلَنا كلا منهما عن الأخرى ، وجعلنا من الماء الذي لا حياة فيه كل شيء حي ؟ ! فهل بعد كل هذا يُعرضون ، فلا يؤمنون بأنه لا إله غيرنا ؟ {[127]}


[127]:{أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شيء حي}. تقرر هذه الآية معاني علمية أيدتها النظريات الحديثة في تكوين الكواكب والأرض، إذ أن السماوات والأرض كانت في الأصل متصلة بعضها ببعض علي شكل كتلة متماسكة. والحقيقة العلمية التي اتفق عليها هي أن السماوات والأرض كانت متصلتين، واستدل علي ذلك بأدلة علمية عديدة. أما الفتق فمعناه الانفصال، وهو ما قررته الآية الشريفة وأيده العلم بعد ذلك، هناك نظريات عديدة تفسر بعض الظواهر في هذا الشأن وتعجز عن تفسير الأخرى، لذلك فليس بين هذه النظريات ما هو مقطوع به لدى العلماء بالإجماع. سنذكر فيما يلي علي سبيل المثال نظريتين: النظرية الأولي: الخاصة بتكوين المجموعة الشمسية ـ مثلا ـ تقرر أن الغيم الكوني حول الشمس بدأ في التمدد في الفضاء البارد، وأخذت حبيبات الغاز الذي يتألف منه الغيم بالتكثف علي الذرات الغبارية ذات الحركة السريعة، ثم تجمعت هذه الذرات بالتصادم والتراكم، وهي تحبس في داخلها كميات من الغازات الثقيلة، وازداد التراكم والتجمع علي مر الأزمان حتى تكونت الكواكب والأقمار والأرض علي أبعاد مناسبة، ومن المعروف أن التجمع والتراكم يؤدي إلي زيادة في الضغط الذي يؤدي بدوره إلي زيادة شديدة في الحرارة، وعندما تبلورت القشرة الأرضية بالبرودة، وخلال عمليات الانفجارات البركانية العديدة التي أعقبت ذلك، حصلت الأرض علي كميات هائلة من بخار الماء وثاني أكسيد الكربون بالانفصال عن الطفوح البركانية السائلة. ومما ساعد علي تكوين الأكسوجين الطليق في الهواء بعد ذلك نشاط وتفاعل أشعة الشمس عن طريق التمثيل الضوئي مع النباتات الأولية والأعشاب. أما النظرية الثانية: الخاصة بنشأة الكون عامة، فتتلخص في قوله تعالي: {كانت رتقا} أي مضمومتين ملتحمتين في صورة كتلة واحدة، وهذا آخر ما وصل إليه البحث العلمي في نشأة الكون، وهو أنه قبل أن يأخذ صورته الحالية كان حشدا هائلا متجمعا في أبسط صورة لقوى الذرات المتصلة الواقعة تحت ضغط هائل لا يكاد يتصوره العقل، وأن جميع أجرام السماء اليوم ومحتوياتها بما فيها المجموعة الشمسية والأرض كانت مكدسة تكديسا شديدا في كرة لا يزيد نصف قطرها علي ثلاثة ملايين من الأميال. وقوله تعالي: {ففتقناهما} إشارة لما حدث لذلك السائل النووي الأولي من انفجار عظيم انتشرت بسببه مادة الكون فيما حولها من أجواء، انتهت بتكوين مختلف أجرام السماء المختلفة المنفصلة بما فيها المجموعة الشمسية والأرض. {وجعلنا من الماء كل شيء حي}: تقرر هذه الآية حقيقة علمية أثبتها أكثر من فرع من فروع العلم، وقد أثبت علم الخلية أن الماء هو المكون الهام في تركيب مادة الخلية، وهي وحدة البناء في كل حي نباتا كان أو حيوانا، وأثبت علم الكيمياء الحيوية أن الماء لازم لحدوث جميع التفاعلات والتحولات التي تتم داخل أجسام الأحياء، فهو إما وسط أو عامل مساعد أو داخل في التفاعل أو ناتج عنه. وأثبت علم وظائف الأعضاء أن الماء ضروري لقيام كل عضو بوظائفه التي بدونها لا تتوفر له مظاهر الحياة ومقوماتها. تعليق الخبراء علي الآية 31: {وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون}: لما كان باطن الأرض منصهرا سائلا، فلو فرضنا أن الجبال وضعت في بعض نواحي الكرة الأرضية كأنها صخور هائلة مرتفعة فإن ثقلها قد يؤدي بالقشرة الأرضية أن تميد أو تنثني أو تتصدع، لذلك جعل ـ جل شأنه ـ الجبال رواسي: أي ذات جذور ممتدة في داخل القشرة الأرضية إلي أعماق كبيرة تتناسب مع ارتفاعها، فهي كأنها أوتاد، كما جعل كثافة هذه الارتفاعات والجذور أقل من كثافة القشرة المحيطة بها. كل ذلك حتى يتوزع الضغط علي القشرة العميقة بحيث يكون متساويا في جميع أنحائها فلا تميد أو تتصدع، لأن التوزيع التماثلي للأثقال علي سطح كروي يكاد لا يحدث تأثيرا يذكر. وقد أثبت العلم الحديث أن توزيع اليابس والماء علي الأرض ووجود سلاسل الجبال عليها مما يحقق الوضع الذي عليه الأرض، وقد ثبت أن الجبال الثقيلة دائما أسفلها مواد هشة وخفيفة، وأن تحت ماء المحيطات توجد المواد الثقيلة الوزن، وبذلك تتوزع الأوزان علي مختلف الكرة الأرضية. وهذا التوزيع الذي أساسه الجبال دائما قصد به حفظ توازن الكرة الأرضية، ولما ارتفعت الجبال حدثت السهول والوديان والممرات بين الجبال وشواطئ البحار والمحيطات والهضبات، وكانت سبلا وطرقا.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

وعند هذا الحد من عرض الأدلة الكونية الشاهدة بالوحدة ؛ والأدلة النقلية النافية للتعدد ؛ والأدلة الوجدانية التي تلمس القلوب . . يجول السياق بالقلب البشري في مجالي الكون الضخمة ، ويد القدرة تدبره بحكمة ، وهم معرضون عن آياتها المعروضة على الأنظار والقلوب :

أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما . وجعلنا من الماء كل شيء حي ؛ أفلا يؤمنون ? وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم ، وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ؛ وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون . وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر . كل في فلك يسبحون . .

إنها جولة في الكون المعروض للأنظار ، والقلوب غافلة عن آياته الكبار ، وفيها ما يحير اللب حين يتأمله بالبصيرة المفتوحة والقلب الواعي والحس اليقظ .

وتقريره أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقتا ، مسألة جديرة بالتأمل ، كلما تقدمت النظريات الفلكية في محاولة تفسير الظواهر الكونية ، فحامت حول هذه الحقيقة التي أوردها القرآن الكريم منذ أكثر من ثلاث مائة وألف عام .

فالنظرية القائمة اليوم هي أن المجموعات النجمية - كالمجموعة الشمسية المؤلفة من الشمس وتوابعها ومنها الأرض والقمر . . كانت سديما . ثم انفصلت وأخذت أشكالها الكروية وأن الأرض كانت قطعة من الشمس ثم انفصلت عنها وبردت . .

ولكن هذه ليست سوى نظرية فلكية . تقوم اليوم وقد تنقض غدا . وتقوم نظرية أخرى تصلح لتفسير الظواهر الكونية بفرض آخر يتحول إلى نظرية . .

ونحن - أصحاب هذه العقيدة - لا نحاول أن نحمل النص القرآني المستيقن على نظرية غير مستيقنة ، تقبل اليوم وترفض غدا . لذلك لا نحاول في هذه الظلال أن نوفق بين النصوص القرآنية والنظريات التي تسمى علمية . وهي شيء آخر غير الحقائق العلمية الثابتة القابلة للتجربة كتمدد المعادن بالحرارة وتحول الماء بخارا وتجمده بالبرودة . . إلى آخر هذا النوع من الحقائق العلمية . وهي شيء آخر غير النظريات العلمية - كما بينا من قبل في الظلال - .

إن القرآن ليس كتاب نظريات علمية ولم يجيء ليكون علما تجريبيا كذلك . إنما هو منهج للحياة كلها . منهج لتقويم العقل ليعمل وينطلق في حدوده . ولتقويم المجتمع ليسمح للعقل بالعمل والانطلاق . دون أن يدخل في جزئيات وتفصيليات علمية بحتة . فهذا متروك للعقل بعد تقويمه وإطلاق سراحه .

وقد يشير القرآن أحيانا إلى حقائق كونية كهذه الحقيقة التي يقررها هنا : ( أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما )ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن . وإن كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السماوات والأرض . أو فتق السماوات عن الأرض . ونتقبل النظريات الفلكية التي لا تخالف هذه الحقيقة المجملة التي قررها القرآن . ولكننا لا نجري بالنص القرآني وراء أية نظرية فلكية ، ولا نطلب تصديقا للقرآن في نظريات البشر . وهو حقيقة مستيقنة ! وقصارى ما يقال : إن النظرية الفلكية القائمة اليوم لا تعارض المفهوم الإجمالي لهذا النص القرآني السابق عليها بأجيال !

فأما شطر الآية الثاني : ( وجعلنا من الماء كل شيء حي )فيقرر كذلك حقيقة خطيرة . يعد العلماء كشفها وتقريرها أمرا عظيما . ويمجدون " دارون " لاهتدائه إليها ! وتقريره أن الماء هو مهد الحياة الأول .

وهي حقيقة تثير الانتباه حقا . وإن كان ورودها في القرآن الكريم لا يثير العجب في نفوسنا ، ولا يزيدنا يقينا بصدق هذا القرآن . فنحن نستمد الاعتقاد بصدقه المطلق في كل ما يقرره من إيماننا بأنه من عند الله . لا من موافقة النظريات أو الكشوف العلمية له . وأقصى ما يقال هنا كذلك : إن نظرية النشوء والارتقاء لدارون وجماعته لا تعارض مفهوم النص القرآني في هذه النقطة بالذات .

ومنذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا كان القرآن الكريم يوجه أنظار الكفار إلى عجائب صنع الله في الكون ، ويستنكر ألا يؤمنوا بها وهم يرونها مبثوثة في الوجود : أفلا يؤمنون ? وكل ما حولهم في الكون يقود إلى الإيمان بالخالق المدبر الحكيم ?

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

يقول تعالى منبهًا على قدرته التامة ، وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء ، وقهره لجميع المخلوقات ، فقال : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : الجاحدون لإلهيته العابدون{[19612]} معه غيره ، ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق ، المستبد بالتدبير ، فكيف يليق أن يعبد غيره أو يشرك به ما سواه ، ألم{[19613]} يروا { أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا } أي : كان الجميع متصلا بعضه ببعض متلاصق متراكم ، بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر ، ففتق هذه من هذه . فجعل السموات سبعًا ، والأرض{[19614]} سبعًا ، وفصل بين سماء الدنيا والأرض بالهواء ، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض ؛ ولهذا قال : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ } أي : وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئًا فشيئًا عيانًا ، وذلك دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء :

فَفِي كُلّ شيء لَهُ آيَة *** تَدُلّ علَى أنَّه وَاحد

قال سفيان الثوري ، عن أبيه ، عن عكرمة قال : سئل ابن عباس : الليل كان قبل أو النهار ؟ فقال : أرأيتم السموات والأرض حين كانتا رتقًا ، هل كان بينهما إلا ظلمة ؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن أبي حمزة ، حدثنا حاتم ، عن حمزة بن أبي محمد ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ؛ أن رجلا أتاه يسأله عن السموات والأرض { كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } ؟ . قال : اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ، ثم تعال فأخبرني بما قال لك . قال : فذهب إلى ابن عباس فسأله . فقال ابن عباس : نعم ، كانت السموات رتقًا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقًا لا تنبت .

فلما خلق للأرض أهلا فتق هذه بالمطر ، وفتق هذه بالنبات . فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره ، فقال ابن عمر : الآن قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علمًا ، صدق - هكذا كانت . قال ابن عمر : قد كنت أقول : ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن ، فالآن قد علمت أنه قد أوتي في القرآن علمًا .

وقال عطية العَوْفي : كانت هذه رتقًا لا تمطر ، فأمطرت . وكانت هذه رتقًا لا تنبت ، فأنبتت .

وقال إسماعيل بن أبي خالد : سألت أبا صالح الحنَفِي عن قوله : { أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } ، قال : كانت السماء واحدة ، ففتق منها سبع سماوات ، وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين .

وهكذا قال مجاهد ، وزاد : ولم تكن السماء والأرض متماستين .

وقال سعيد بن جبير : بل كانت السماء والأرض ملتزقتين ، فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض ، كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه . وقال الحسن ، وقتادة ، كانتا جميعًا ، ففصل بينهما بهذا الهواء .

وقوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } أي : أصل كل الأحياء منه .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهر{[19615]} ، حدثنا سعيد بن بشير ، حدثنا قتادة عن أبي ميمونة{[19616]} ، عن أبي هريرة أنه قال : يا نبي الله إذا رأيتك قرت عيني ، وطابت نفسي ، فأخبرني عن كل شيء ، قال : " كل شيء خلق من ماء " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أبي ميمونة ، عن أبي هريرة قال : قلت : يا رسول الله ، إني إذا رأيتك طابت نفسي ، وقرت عيني ، فأنبئني عن كل شيء . قال : " كل شيء خلق من ماء " قال : قلت : أنبئني عن أمر إذا عملتُ به دخلت الجنة . قال : " أفْش السلام ، وأطعم الطعام ، وصِل الأرحام ، وقم بالليل والناس نيام ، ثم ادخل الجنَّة بسلام " {[19617]} .

ورواه أيضا عبد الصمد وعفان وبَهْز ، عن همام{[19618]} . تفرد به أحمد ، وهذا إسناد على شرط الصحيحين ، إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن ، واسمه سليم ، والترمذي يصحح له . وقد رواه سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة مرسلا والله{[19619]} أعلم .


[19612]:- في أ : "العابدين".
[19613]:- في أ : "أولم"."
[19614]:- في ف ، أ : "والأرضين".
[19615]:- في ف ، أ : "الجماهير".
[19616]:- في ف ، أ : "أبي ميمون".
[19617]:- المسند (2/295) ورواه الحاكم في المستدرك (4/129) من طريق يزيد بن هارون وصححه. ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (642) "موارد" من طريق أبي عامر العقدي عن همام به.
[19618]:- المسند (2/323 - 493) من طريق عبد الصمد ، (2/323) من طريق عفان ، (2/324) من طريق بهز. وقال الهيثمي في المجمع (5/16) : "رجاله رجال الصحيح ، خلا أبي ميمونة وهو ثقة".
[19619]:- في ف : "فالله".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

ثم وقفهم على عبرة دالة على وحدانية الله جلت قدرته ، و «الرتق » الملتصق بعضه ببعض المبهم الذي لا صدع ولا فتح ومنه امرأة رتقاء{[8212]} ، واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { كانتا رتقاً ففتقناهما } فقالت فرقة كانت السماء ملتصقة بعضها ببعض والأرضون كذلك ففتقهما الله تعالى سبعاً سبعاً ، وعلى هذين القولين ف «الرؤية » الموقف عليها رؤية القلب ، وقال فرقة السماء قبل المطر رتق والأرض قبل النبات رتق ففتقهما تعالى بالمطر والنبات ، كما قال الله تعالى { والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع }{[8213]} [ الطارق : 11-12 ] وهذا قول حسن يجمع العبرة وتعديد النعمة والحجة بمحسوس بين ويناسب قوله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } أي من الماء الذي أوجده الفتق فيظهر معنى الآية ويتوجه الاعتبار ، وقالت فرقة السماء والأرض رتق بالظلمة وفتقهما الله تعالى بالضوء ع و «الرؤية » على هذين القولين رؤية العين ، و { الأرض } هنا اسم الجنس فهي جمع ، وقرأ الجمهور «رتْقاً » بسكون التاء ، والرتق مصدر وصف به كالزور والعدل ، وقرأ الحسن والثقفي وأبو حيوة «كانتا رتقاً » بفتح التاء وهو اسم المرتوق كالنفض والنفض والخبط والخبط{[8214]} وقال كانتا من حيث هما نوعان ونحوه قول عمرو بن شيم{[8215]} . ألم يحزنك أن جبال قيس وتغلب قد تباينتا انقطاعاً{[8216]} .

وقوله { كانتا } في القولين الأولين بمنزلة قولك كان زيد حياً ، أي لم يكن ، وفي القولين الآخرين بمنزلة قولك كان زيداً عالماً أي وهو كذلك ، وقرأ ابن كثير وحده «ألم ير » بإسقاط الواو . وقوله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } بين أنه ليس على عموم فإن الملائكة والجن قد خرجوا عن ذلك ، ولكن الوجه أن يحمل على أعم ما يمكن فالحيوان أجمع والنبات على أن الحياة فيه مستعارة داخل في هذا ، وقالت فرقة المراد ب { الماء } المني في جميع الحيوان ، ثم وقفهم على ترك الإيمان توبيخاً وتقريعاً .


[8212]:جاء في اللسان (رتق): "وهي رتقاء بينة الرتق: التصق ختانها فلم تنل لارتتاق ذلك الموضع منها، فهي لا يستطاع جماعها".
[8213]:الآيتان (11، 12) من سورة (الطارق).
[8214]:قال ابن جني في المحتسب: "قد كثر عنهم مجيء المصدر على فعل ساكن العين، واسم المفعول منه على فعل مفتوحها، وذلك قولهم: النفض للمصدر والنفض للمنفوض، والخبط المصدر والخبط الشيء المخبوط، والطرد المصدر والطرد المطرود، وإن كان يستعمل مصدرا نحو الحلب والحلب، فقراءة الجماعة: {كانت رتقا} كأنه مما وضع من المصادر موضع اسم المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق، وأما [رتقا] بفتح التاء فهو المرتوق، أي: كانتا شيئا واحدا مرتوقا".
[8215]:هكذا في الأصول، وهو خطأ من النساخ، فالاسم الحقيقي للشاعر هو عمير بن شييم، من بني تغلب، وهو المعرف باسم القطامي ـ بضم القاف وفتحها ـ، راجع ترجمته في الأغاني، وخزانة الأدب، والاشتقاق، والمؤتلف، والجمحي، والمرزباني.
[8216]:هذا البيت من قصيدة للقطامي، ومطلعها: "قفي قبل التفرق يا ضباعا"، وقد قالها يمدح زفر بن الحارث الكلابي الذي أسره في حرب كانت بين قيس عيلان وتغلب، وأرادت قيس قتل القطامي، لكن زفر حال بينهم وبينه، ومن عليه، ووهب له مائة ناقة، ورده إلى تغلب مكرما، فقال: أأكفر بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا؟ والمراد بالحبال في البيت ما بين قيس وتغلب من علاقات وعهود، وتباينت: تفرقت واختلفت، أي: انقطعت الصلات بينهما، والشاهد أن الشاعر قال: تباينتا بلفظ التثنية، مع أن (حبال) جمع، فكان الظاهر أن يقول: تباينت انقطاعا، وأن يراعى الجمع في الحبال، ولكنه راعى أنهما نوعان، حبال لقيس وحبال لتغلب. ومثل هذا البيت قول الأسود بن يعفر: إن المنية والحتوف كلاهما توفي المخارم يرقبان سوادي فقد قال: يرقبان، ولو جرى على ما يقتضيه الظاهر لقال: ترقب سوادي، لأن المنية والحتوف عدة أشياء.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

{ أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما }

قرأ الجمهور { أوَ لم } بواو بعد الهمزة وهي واو العطف ، فالجملة معطوفة عطف الاستدلال على الخلق الثاني بالخلق الأول وما فيه من العجائب . وقرأ ابن كثير { ألم يَر } بدون واو عطف . قال أبو شامة : ولم تثبت الواو في مصاحف أهل مكة . قلت : معناه أنها لم تثبت في المصحف الذي أرسل به عثمان إلى مكة فالتزمَ قراء مكة رِواية عدم الواو إلى أن قرأ بها ابن كثير ، وأهملت غير قراءته .

والاستفهام على كِلتا القراءتين إنكاري ، توجه الإنكار على إهمالهم للنظر .

والرؤيةُ تحتمل أن تكون بصرية وأن تكون علمية . والاستفهام صالح لأن يتوجه إلى كلتيهما لأن إهمال النظر في المشاهدات الدالة على علم ما ينقذ علمه من التورط في العقائد الضالة حقيق بالإنكار ، وإنكار أعمال الفكر في دلالة الأشياء على لوازمها حتى لا يقع أحد في الضلال جديرٌ أيضاً بالإنكار أو بالتقرير المشوب بإنكار كما سنفصله .

والرَّتق : الاتصال والتلاصق بين أجزاء الشيء .

والفَتق : ضده ، وهو الانفصال والتباعد بين الأجزاء .

والإخبار عن السماوات والأرض بأنهما رَتق إخبار بالمصدر للمبالغة في حصول الصفة .

ثم إن قوله تعالى { كانتا } يحتمل أن تكونا معاً رتقاً واحداً بأن تكون السماوات والأرض جسماً ملتئماً متصلاً . ويحتمل أن تكون كل سماء رتقاً على حدتها ، والأرض رتقاً على حدتها وكذلك الاحتمال في قوله تعالى { ففتقناهما } .

وإنما لم يقل نحو : فصارتا فتقاً ، لأن الرتق متمكن منهما أشدّ تمكن كما قلنا ليستدل به على عظيم القدرة في فتقهما ، ولدلالة الفعل على حدثان الفتق إيماء إلى حدوث الموجودات كلها وأن ليس منها أزلي .

والرتق يحتمل أن يراد به معاننٍ تنشأ على محتملاتها معاننٍ في الفتق ، فإن اعتبرنا الرؤية بصرية فالرتقُ المشاهد هو ما يشاهده الرائي من عدم تخلل شيء بين أجزاء السماوات وبين أجزاء الأرض ، والفتقُ هو ما يشاهده الرائي من ضد ذلك حين يرى المطر نازلاً من السماء ويرى البرْق يلعج منها والصواعق تسقط منها فذلك فتقها ، وحين يرى انشقاق الأرض بماء المطر وانبثاق النبات والشجر منها بعد جفافها ، وكل ذلك مشاهد مرئي دال على تصرف الخالق ، وفي هذا المعنى جمع بين العبرة والمنة ، كما قال ابن عطية أي هو عبرة دلالةٍ على عظم القدرة وتقريب لكيفية إحياء الموتى كما قال تعالى : { فأحيينا به الأرض بعد موتها } في سورة فاطر ( 9 ) .

وإن اعتبرنا الرؤية علمية احتمل أن يراد بالرتق مثل ما أريد به على اعتبار كون الرؤية بصرية ، وكان الاستفهام أيضاً إنكارياً متوجهاً إلى إهمالهم التدبر في المشاهدات . واحتمل أن يراد بالرتق معانٍ غيرُ مشاهدةٍ ولكنها مما ينبغي طلب العلم به لما فيه من الدلائل على عظم القدرة وعلى الوحدانية ، فيحتمل أن يراد بالرتق والفتق حقيقتاهما ، أي الاتصال والانفصال .

ثم هذا الاحتمال يجوز أن يكون على معنى الجملة ، أي كانت السماوات والأرض رتقاً واحداً ، أي كانتا كُتلة واحدة ثم انفصلتْ السماوات عن الأرض كما أشار إليه قوله تعالى : { وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء } في سورة هود ( 7 ) .

ويجوز على هذا الاحتمال أن يكون الرتق والفتق على التوزيع ، أي كانت السماوات رتقاً في حد ذاتها وكانت الأرض رتقاً في حد ذاتها ثم فتق الله السماوات وفتق الله الأرض ، وهذا كقوله تعالى : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم } في سورة فصّلت ( 912 ) .

وعلى هذين الاحتمالين يكون الاستفهام تقريرياً عن إعراضهم عن استماع الآيات التي وصفت بدء الخلق ومشوباً بالإنكار على ذلك .

وعلى جميع التقادير فالمقصود من ذلك أيضاً الاستدلال على أن الذي خلق السماوات والأرض وأنشأهما بعد العدم قادر على أن يخلق الخلق بعد انعدامه قال تعالى : { أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم } [ الإسراء : 99 ] .

ويحتمل أن يراد بالرتق العدم وبالفتق الإيجاد . وإطلاق الرؤية على العلم على هذا الاحتمال ظاهر لأن الرتق والفتق بهذا المعنى محقق أمرهما عندهم قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] .

ويحتمل أن يراد بالرتق الظلمة وبالفتق النور ، فالموجودات وجدت في ظلمة ثم أفاض الله عليها النور بأن أوجد في بعض الأجسام نوراً أضاء الموجودات .

ويحتمل أن يراد بالرتق اتحاد الموجودات حين كانت مادة واحدة أو كانت أثيراً أو عَمَاء كما جاء في الحديث : " كان في عماء " فكانت جنساً عالياً متحداً ينبغي أن يطلق عليه اسم مخلوق ، وهو حينئذ كلي انحصر في فرد . ثم خلق الله من ذلك الجنس أبْعاضاً وجعل لكل بَعض مميزات ذاتيةً فصيّر كل متميز بحقيقة جنساً فصارتْ أجناساً . ثم خلق في الأجناس مميزات بالعوارض لحقائقها فصارت أنواعاً . وهذا الاحتمال أسعد بطريقة الحكماء وقد اصطلحوا على تسمية هذا التمييز بالرتق والفتق ، وبعض من الصوفية وهو صاحب « مرآة العارفين » جعل الرتق عَلَماً على العنصر الأعظم يعني الجسمَ الكل ، والجسم الكل هو الفلك الأعظم المعبر عنه بالعرش . ذكر ذلك الحكيمُ الصوفي لطف الله الأرضرومي صاحب « مَعارج النور في أسماء الله الحسنى » المتوفى في أواخر القرن الثاني عشر الذي دخل تونس عام 1185هـ في مقدمات كتابه « معارج النور » وفي رسالة له سماها « رسالة الفتق والرتق » .

والظاهر أن الآية تشمل جميع ما يتحقق فيه معاني الرتق والفتق إذ لا مانع من اعتبار معنى عام يجمعها جميعاً ، فتكون الآية قد اشتملت على عبرة تعم كل الناس وكل عبرة خاصة بأهل النظر والعلم فتكون من معجزات القرآن العلمية التي أشرنا إليها في مقدمات هذا التفسير .

{ وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ }

زيادة استدلال بما هو أظهر لرؤية الأبصار وفيه عبرة للناس في أكثر أحواله . وهو عبرة للمتأملين في دقائقه في تكوين الحيوان من الرطوبات . وهي تكوين التناسل وتكوين جميع الحيوان فإنه لا يتكون إلا من الرطوبة ولا يعيش إلا ملابساً لها فإذا انعدمت منه الرطوبة فقد الحياة ، ولذلك كان استمرار الحمى مفضياً إلى الهزال ثم إلى الموت .

و { جَعَل } هنا بمعنى خَلق ، متعدية إلى مفعول واحد لأنها غير مراد منها التحول من حال إلى حال .

و { من الماء } متعلق ب { جعلنا . } و ( مِن ) ابتدائية . وفرع عليه { أفلا يؤمنون } إنكاراً عليهم عدم إيمانهم الإيمان الذي دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان بوحدانية الله