79- ما يصيبك - أيها النبي - من رخاء ونعمة وعافية وسلامة فمن فضل اللَّه عليك ، يتفضل به إحسانا منه إليك ، وما أصابك من شدة ومشقة وأذى ومكروه فمن نفسك بسبب تقصير أو ذنب ارتكبته . والخطاب للنبي لتصوير النفس البشرية وإن لم يقع منه ما يستوجب السيئة ، وأرسلناك رسولاً من عندنا للناس جميعاً ، واللَّه شهيد على تبليغك وعلى إجابتهم ، وكفي به عليماً .
وفي الحالتين يكون وجود الحدث وتحققه من عند الله . . وهذا ما تقرره الآية الأولى . .
( ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك . . )
فإنها تقرر حقيقة أخرى . ليست داخلة ولا متداخلة مع مجال الحقيقة الأولى . . إنها في واد آخر . . والنظرة فيها من زاوية أخرى :
إن الله - سبحانه - قد سن منهجا ، وشرع طريقا ، ودل على الخير ، وحذر من الشر . . فحين يتبع الإنسان هذا المنهج ، ويسير في هذا الطريق ، ويحاول الخير ، ويحذر الشر . . فإن الله يعينه على الهدى كما قال : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) . . ويظفر الإنسان بالحسنة . . ولا يهم أن تكون من الظواهر التي يحسبها الناس من الخارج كسبا . . إنما هي الحسنة فعلا في ميزان الله تعالى . . وتكون من عند الله . لأن الله هو الذيسن المنهج وشرع الطريق ودل على الخير وحذر من الشر . . وحين لا يتبع الإنسان منهج الله الذي سنه ، ولا يسلك طريقه الذي شرعه ، ولا يحاول الخير الذي دله عليه ، ولا يحذر الشر الذي حذره منه . . حينئذ تصيبه السيئة . السيئة الحقيقية . سواء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا . . ويكون هذا من عند نفسه . لأنه هو الذي لم يتبع منهج الله وطريقه . .
وهذا معنى غير المعنى الأول ، ومجال غير المجال الاول . . كما هو واضح فيما نحسب . .
ولا يغير هذا من الحقيقة الأولى شيئا . وهي أن تحقق الحسنة ، وتحقق السيئة ووقوعهما لا يتم إلا بقدرة الله وقدره . لأنه المنشى ء لكل ما ينشأ . المحدث لكل ما يحدث . الخالق لكل ما يكون . . أيا كانت ملابسة إرادة الناس وعملهم في هذا الذي يحدث ، وهذا الذي يكون .
ثم يبين لهم حدود وظيفة الرسول [ ص ] وعمله وموقف الناس منه ، وموقفه من الناس ، ويرد الأمر كله إلى الله في النهاية :
( وأرسلناك للناس رسولا . وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله . ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا ) . .
إن وظيفة الرسول هي أداء الرسالة . لا إحداث الخير ولا إحداث السوء . فهذا من أمر الله - كما سلف - والله شهيد على أنه أرسل النبي [ ص ] لأداء هذه الوظيفة ( وكفى بالله شهيدًا ) . .
ثم قال تعالى - مخاطبًا - للرسول [ صلى الله عليه وسلم ]{[7921]} والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } أي : من فضل الله ومنه ولطفه ورحمته { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } أي : فمن قبلك ، ومن عملك أنت كما قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] .
قال السدي ، والحسن البصري ، وابن جُريج ، وابن زيد : { فَمِنْ نَفْسِكَ } أي : بذنبك .
وقال قتادة : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } عقوبة يا ابن آدم بذنبك . قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا يصيب رجلا خَدْش عود ، ولا عثرة قدم ، ولا اختلاج عِرْق ، إلا بذنب ، وما يعفو الله أكثر " .
وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلا في الصحيح : " والذي نفسي بيده ، لا يصيب المؤمن هَمٌّ ولا حَزَنٌ ، ولا نَصَبٌ ، حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله عنه بها من خطاياه " . {[7922]}
وقال أبو صالح : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } أي : بذنبك ، وأنا الذي قدرتها عليك . رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا سهل - يعني ابن بَكَّار - حدثنا الأسود بن شيبان ، حدثني عقبة بن واصل بن أخي مُطَرِّف ، عن مُطَرِّف بن عبد الله قال : ما تريدون من القدر ، أما تكفيكم الآية التي في سورة النساء : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وِإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } أي : من نفسك ، والله ما وُكِلُوا إلى القدر وقد أُمِروا وإليه يصيرون .
وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضا ، ولبسطه موضع آخر .
وقوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا } أي : تبلغهم شرائع الله ، وما يحبه ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه .
{ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } أي : على أنه أرسلك ، وهو شهيد أيضا بينك وبينهم ، وعالم بما تبلغهم إياه ، وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادًا .
قالت فرقة : { ما } شرطية ، ودخلت { من } بعدها لأن الشرط ليس بواجب فأشبه النفي الذي تدخله { من } ، وقالت فرقة { ما } بمعنى الذي ، و { من } لبيان الجنس ، لأن المصيب للإنسان أشياء كثيرة : حسنة وسيئة ، ورخاء وشدة ، وغير ذلك ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وغيره داخل في المعنى ، وقيل : الخطاب للمرء على الجملة ، ومعنى هذه الآية عند ابن عباس وقتادة والحسن والربيع وابن زيد وأبي صالح وغيرهم ، القطع واستئناف الإخبار من الله تعالى ، بأن الحسنة منه وبفضله ، والسيئة من الإنسان بإذنابه ، وهي من الله بالخلق والاختراع ، وفي مصحف ابن مسعود ، «فمن نفسك » «وأنا قضيتها عليك »{[4156]} وقرأ بها ابن عباس ، وحكى أبو عمرو أنها في مصحف ابن مسعود «وأنا كتبتها » وروي أن أبياً وابن مسعود قرآ «وأنا قدرتها عليك » ويعضد هذا التأويل أحاديث عن النبي عليه السلام معناها : أن ما يصيب ابن آدم من المصائب ، فإنما هي عقوبة ذنوبه ، ومن ذلك أن أبا بكر الصديق لما نزلت { من يعمل سوءاً يجز به }{[4157]} جزع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «ألست تمرض ؟ ألست تسقم ؟ ألست تغتم ؟ »{[4158]} وقال أيضاً عليه السلام : «ما يصيب الرجل خدشة عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر »{[4159]} ففي هذا بيان أو تلك كلها مجازاة على ما يقع من الإنسان ، وقالت طائفة : معنى الآية كمعنى التي قبلها في قوله : { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله } [ النساء : 78 ] على تقدير حذف يقولون ، فتقديره : فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ، يقولون : ما أصابك من حسنة ، ويجيء القطع على هذا القول من قوله : { وأرسلنا } وقالت طائفة : بل القطع في الآية من أولها ، والآية مضمنة الإخبار أن الحسنة من الله وبفضله ، وتقدير ما بعده { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } ، على جهة الإنكار والتقرير{[4160]} ، فعلى هذه المقالة ألف الاستفهام محذوفة من الكلام{[4161]} ، وحكى هذا القول المهدوي ، و { رسولاً } نصب على الحال ، وهي حال تتضمن معنى التأكيد في قوله تعالى ، { وأرسلناك للناس رسولاً } ثم تلاه بقوله : { وكفى بالله شهيداً } توعد للكفرة ، وتهديد تقتضيه قوة الكلام ، لأن المعنى شهيداً على من كذبه .