30- أَعَمِىَ الذين كفروا ولم يبصروا أن السماوات والأرض كانتا في بدء خلقهما ملتصقتين ، فبقدرتنا فَصَلَنا كلا منهما عن الأخرى ، وجعلنا من الماء الذي لا حياة فيه كل شيء حي ؟ ! فهل بعد كل هذا يُعرضون ، فلا يؤمنون بأنه لا إله غيرنا ؟ {[127]}
وعند هذا الحد من عرض الأدلة الكونية الشاهدة بالوحدة ؛ والأدلة النقلية النافية للتعدد ؛ والأدلة الوجدانية التي تلمس القلوب . . يجول السياق بالقلب البشري في مجالي الكون الضخمة ، ويد القدرة تدبره بحكمة ، وهم معرضون عن آياتها المعروضة على الأنظار والقلوب :
أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما . وجعلنا من الماء كل شيء حي ؛ أفلا يؤمنون ? وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم ، وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ؛ وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون . وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر . كل في فلك يسبحون . .
إنها جولة في الكون المعروض للأنظار ، والقلوب غافلة عن آياته الكبار ، وفيها ما يحير اللب حين يتأمله بالبصيرة المفتوحة والقلب الواعي والحس اليقظ .
وتقريره أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقتا ، مسألة جديرة بالتأمل ، كلما تقدمت النظريات الفلكية في محاولة تفسير الظواهر الكونية ، فحامت حول هذه الحقيقة التي أوردها القرآن الكريم منذ أكثر من ثلاث مائة وألف عام .
فالنظرية القائمة اليوم هي أن المجموعات النجمية - كالمجموعة الشمسية المؤلفة من الشمس وتوابعها ومنها الأرض والقمر . . كانت سديما . ثم انفصلت وأخذت أشكالها الكروية وأن الأرض كانت قطعة من الشمس ثم انفصلت عنها وبردت . .
ولكن هذه ليست سوى نظرية فلكية . تقوم اليوم وقد تنقض غدا . وتقوم نظرية أخرى تصلح لتفسير الظواهر الكونية بفرض آخر يتحول إلى نظرية . .
ونحن - أصحاب هذه العقيدة - لا نحاول أن نحمل النص القرآني المستيقن على نظرية غير مستيقنة ، تقبل اليوم وترفض غدا . لذلك لا نحاول في هذه الظلال أن نوفق بين النصوص القرآنية والنظريات التي تسمى علمية . وهي شيء آخر غير الحقائق العلمية الثابتة القابلة للتجربة كتمدد المعادن بالحرارة وتحول الماء بخارا وتجمده بالبرودة . . إلى آخر هذا النوع من الحقائق العلمية . وهي شيء آخر غير النظريات العلمية - كما بينا من قبل في الظلال - .
إن القرآن ليس كتاب نظريات علمية ولم يجيء ليكون علما تجريبيا كذلك . إنما هو منهج للحياة كلها . منهج لتقويم العقل ليعمل وينطلق في حدوده . ولتقويم المجتمع ليسمح للعقل بالعمل والانطلاق . دون أن يدخل في جزئيات وتفصيليات علمية بحتة . فهذا متروك للعقل بعد تقويمه وإطلاق سراحه .
وقد يشير القرآن أحيانا إلى حقائق كونية كهذه الحقيقة التي يقررها هنا : ( أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما )ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن . وإن كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السماوات والأرض . أو فتق السماوات عن الأرض . ونتقبل النظريات الفلكية التي لا تخالف هذه الحقيقة المجملة التي قررها القرآن . ولكننا لا نجري بالنص القرآني وراء أية نظرية فلكية ، ولا نطلب تصديقا للقرآن في نظريات البشر . وهو حقيقة مستيقنة ! وقصارى ما يقال : إن النظرية الفلكية القائمة اليوم لا تعارض المفهوم الإجمالي لهذا النص القرآني السابق عليها بأجيال !
فأما شطر الآية الثاني : ( وجعلنا من الماء كل شيء حي )فيقرر كذلك حقيقة خطيرة . يعد العلماء كشفها وتقريرها أمرا عظيما . ويمجدون " دارون " لاهتدائه إليها ! وتقريره أن الماء هو مهد الحياة الأول .
وهي حقيقة تثير الانتباه حقا . وإن كان ورودها في القرآن الكريم لا يثير العجب في نفوسنا ، ولا يزيدنا يقينا بصدق هذا القرآن . فنحن نستمد الاعتقاد بصدقه المطلق في كل ما يقرره من إيماننا بأنه من عند الله . لا من موافقة النظريات أو الكشوف العلمية له . وأقصى ما يقال هنا كذلك : إن نظرية النشوء والارتقاء لدارون وجماعته لا تعارض مفهوم النص القرآني في هذه النقطة بالذات .
ومنذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا كان القرآن الكريم يوجه أنظار الكفار إلى عجائب صنع الله في الكون ، ويستنكر ألا يؤمنوا بها وهم يرونها مبثوثة في الوجود : أفلا يؤمنون ? وكل ما حولهم في الكون يقود إلى الإيمان بالخالق المدبر الحكيم ?
يقول تعالى منبهًا على قدرته التامة ، وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء ، وقهره لجميع المخلوقات ، فقال : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : الجاحدون لإلهيته العابدون{[19612]} معه غيره ، ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق ، المستبد بالتدبير ، فكيف يليق أن يعبد غيره أو يشرك به ما سواه ، ألم{[19613]} يروا { أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا } أي : كان الجميع متصلا بعضه ببعض متلاصق متراكم ، بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر ، ففتق هذه من هذه . فجعل السموات سبعًا ، والأرض{[19614]} سبعًا ، وفصل بين سماء الدنيا والأرض بالهواء ، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض ؛ ولهذا قال : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ } أي : وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئًا فشيئًا عيانًا ، وذلك دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء :
فَفِي كُلّ شيء لَهُ آيَة *** تَدُلّ علَى أنَّه وَاحد
قال سفيان الثوري ، عن أبيه ، عن عكرمة قال : سئل ابن عباس : الليل كان قبل أو النهار ؟ فقال : أرأيتم السموات والأرض حين كانتا رتقًا ، هل كان بينهما إلا ظلمة ؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن أبي حمزة ، حدثنا حاتم ، عن حمزة بن أبي محمد ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ؛ أن رجلا أتاه يسأله عن السموات والأرض { كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } ؟ . قال : اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ، ثم تعال فأخبرني بما قال لك . قال : فذهب إلى ابن عباس فسأله . فقال ابن عباس : نعم ، كانت السموات رتقًا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقًا لا تنبت .
فلما خلق للأرض أهلا فتق هذه بالمطر ، وفتق هذه بالنبات . فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره ، فقال ابن عمر : الآن قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علمًا ، صدق - هكذا كانت . قال ابن عمر : قد كنت أقول : ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن ، فالآن قد علمت أنه قد أوتي في القرآن علمًا .
وقال عطية العَوْفي : كانت هذه رتقًا لا تمطر ، فأمطرت . وكانت هذه رتقًا لا تنبت ، فأنبتت .
وقال إسماعيل بن أبي خالد : سألت أبا صالح الحنَفِي عن قوله : { أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } ، قال : كانت السماء واحدة ، ففتق منها سبع سماوات ، وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين .
وهكذا قال مجاهد ، وزاد : ولم تكن السماء والأرض متماستين .
وقال سعيد بن جبير : بل كانت السماء والأرض ملتزقتين ، فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض ، كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه . وقال الحسن ، وقتادة ، كانتا جميعًا ، ففصل بينهما بهذا الهواء .
وقوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } أي : أصل كل الأحياء منه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهر{[19615]} ، حدثنا سعيد بن بشير ، حدثنا قتادة عن أبي ميمونة{[19616]} ، عن أبي هريرة أنه قال : يا نبي الله إذا رأيتك قرت عيني ، وطابت نفسي ، فأخبرني عن كل شيء ، قال : " كل شيء خلق من ماء " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أبي ميمونة ، عن أبي هريرة قال : قلت : يا رسول الله ، إني إذا رأيتك طابت نفسي ، وقرت عيني ، فأنبئني عن كل شيء . قال : " كل شيء خلق من ماء " قال : قلت : أنبئني عن أمر إذا عملتُ به دخلت الجنة . قال : " أفْش السلام ، وأطعم الطعام ، وصِل الأرحام ، وقم بالليل والناس نيام ، ثم ادخل الجنَّة بسلام " {[19617]} .
ورواه أيضا عبد الصمد وعفان وبَهْز ، عن همام{[19618]} . تفرد به أحمد ، وهذا إسناد على شرط الصحيحين ، إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن ، واسمه سليم ، والترمذي يصحح له . وقد رواه سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة مرسلا والله{[19619]} أعلم .
{ أو لم ير الذين كفروا } أو لم يعلموا ، وقرأ ابن كثير بغير واو . { أن السموات والأرض كانتا رتقا } ذات رتق أو مرتوقتين ، وهو الضم والالتحام أي كانتا واحدا وحقيقة متحدة . { ففتقناهما } بالتنويع والتمييز ، أو كانت السموات واحدة ففتقت بالتحريكات المختلفة حتى صارت أفلاكا ، وكانت الأرضون واحدة فجعلت باختلاف كيفياتها وأحوالها طبقات أو أقاليم . وقيل { كانتا } بحيث لا فرجة بينهما ففرج . وقيل { كانتا رتقا } لا تمطر ولا تنبت ففتقناهما بالمطر والنبات ، فيكون المراد ب { السموات } سماء الدنيا وجمعها باعتبار الآفاق أو { السموات } بأسرها على أن لها مدخلا ما في الأمطار ، والكفرة وإن لم يعلموا ذلك فهم متمكنون من العلم به نظرا فإن الفتق عارض مفتقر إلى مؤثر واجب وابتداء أو بوسط ، أو استفسارا من العلماء ومطالعة للكتب ، وإنما قال { كانتا } ولم يقل كن لأن المارد جماعة السموات وجماعة الأرض . وقرىء { رتقا } بالفتح على تقدير شيئا رتقا أي مرتوقا كالرفض بمعنى المرفوض . { وجعلنا من الماء كل شيء حي } وخلقنا من الماء كل حيوان كقوله تعالى { الله خلق كل دابة من ماء } وذلك لأنه من أعظم مواده أو لفرط احتياجه إليه وانتفاعه به بعينه ، أو صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا يحيا دونه ، وقرئ " حيا " على أنه صفة { كل } أو مفعول ثان ، والظرف لغو والشيء مخصوص بالحيوان . { أفلا يؤمنون } مع ظهور الآيات .
ثم وقفهم على عبرة دالة على وحدانية الله جلت قدرته ، و «الرتق » الملتصق بعضه ببعض المبهم الذي لا صدع ولا فتح ومنه امرأة رتقاء{[8212]} ، واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { كانتا رتقاً ففتقناهما } فقالت فرقة كانت السماء ملتصقة بعضها ببعض والأرضون كذلك ففتقهما الله تعالى سبعاً سبعاً ، وعلى هذين القولين ف «الرؤية » الموقف عليها رؤية القلب ، وقال فرقة السماء قبل المطر رتق والأرض قبل النبات رتق ففتقهما تعالى بالمطر والنبات ، كما قال الله تعالى { والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع }{[8213]} [ الطارق : 11-12 ] وهذا قول حسن يجمع العبرة وتعديد النعمة والحجة بمحسوس بين ويناسب قوله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } أي من الماء الذي أوجده الفتق فيظهر معنى الآية ويتوجه الاعتبار ، وقالت فرقة السماء والأرض رتق بالظلمة وفتقهما الله تعالى بالضوء ع و «الرؤية » على هذين القولين رؤية العين ، و { الأرض } هنا اسم الجنس فهي جمع ، وقرأ الجمهور «رتْقاً » بسكون التاء ، والرتق مصدر وصف به كالزور والعدل ، وقرأ الحسن والثقفي وأبو حيوة «كانتا رتقاً » بفتح التاء وهو اسم المرتوق كالنفض والنفض والخبط والخبط{[8214]} وقال كانتا من حيث هما نوعان ونحوه قول عمرو بن شيم{[8215]} . ألم يحزنك أن جبال قيس وتغلب قد تباينتا انقطاعاً{[8216]} .
وقوله { كانتا } في القولين الأولين بمنزلة قولك كان زيد حياً ، أي لم يكن ، وفي القولين الآخرين بمنزلة قولك كان زيداً عالماً أي وهو كذلك ، وقرأ ابن كثير وحده «ألم ير » بإسقاط الواو . وقوله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } بين أنه ليس على عموم فإن الملائكة والجن قد خرجوا عن ذلك ، ولكن الوجه أن يحمل على أعم ما يمكن فالحيوان أجمع والنبات على أن الحياة فيه مستعارة داخل في هذا ، وقالت فرقة المراد ب { الماء } المني في جميع الحيوان ، ثم وقفهم على ترك الإيمان توبيخاً وتقريعاً .