ولهذا { قَالَ } لهم نوح مجاوبا { يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } أي : على يقين وجزم ، يعني ، وهو الرسول الكامل القدوة ، الذي ينقاد له أولو الألباب ، ويضمحل في جنب عقله ، عقول الفحول من الرجال ، وهو الصادق حقا ، فإذا قال : إني على بينة من ربي ، فحسبك بهذا القول ، شهادة له وتصديقا .
{ وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ } أي : أوحى إلي وأرسلني ، ومنَّ علي بالهداية ، { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي : خفيت عليكم ، وبها تثاقلتم .
{ أَنُلْزِمُكُمُوهَا } أي : أنكرهكم على ما تحققناه ، وشككتم أنتم فيه ؟ { وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } حتى حرصتم على رد ما جئت به ، ليس ذلك ضارنا ، وليس بقادح من يقيننا فيه ، ولا قولكم وافتراؤكم علينا ، صادا لنا عما كنا عليه .
وإنما غايته أن يكون صادا لكم أنتم ، وموجبا لعدم انقيادكم للحق الذي تزعمون أنه باطل ، فإذا وصلت الحال إلى هذه الغاية ، فلا نقدر على إكراهكم ، على ما أمر الله ، ولا إلزامكم ، ما نفرتم عنه ، ولهذا قال : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ }
هذه الآية كأنه قال : أرأيتم إن هداني الله وأضلكم أأجبركم على الهدى وأنتم كارهون له معرضون عنه ، واستفهامه في هذه الآية أولاً وثانياً على جهة التقرير . وعبارة نوح عليه السلام كانت بلغته دالة على المعنى القائم بنفسه ، وهذا هو المفهوم من هذه العبارة العربية ، فبهذا استقام أن يقال كذا وكذا ، إذ القول ما أفاد المعنى القائم بنفسه .
وقوله { على بيّنة } أي على أمر بيّن جلي ، والهاء في { بيّنة } للمبالغة كعلامة ونسابة ، و «إيتاؤه الرحمة » هو هدايته للبيّنة ، والمشار إليه بهذا كله النبوءة والشرع ، وقوله { من عنده } تأكيد ، كما قال : { يطير بجناحيه }{[6308]} ، وفائدته رفع الاشتراك ولو بالاستعارة .
وقرأ جمهور الناس «فعميت » ولذلك وجهان من المعنى :
أحدهما : خفيت ، ولذلك يقال للسحاب العماء لأنه يخفي ما فيه ، كما يقال له : الغمام لأنه يغمه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «كان الله قبل أن يخلق الأشياء في عماء »{[6309]} .
والمعنى الثاني : أن تكون الإرادة : فعميتم أنتم عنها ، لكنه قلب ، كما تقول العرب : أدخلت القلنسوة في رأسي ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
ترى النور فيها مدخل الظل رأسه*** وسائره باد إلى الشمس أجمع{[6310]}
قال أبو علي : وهذا مما يقلب إذ ليس فيه إشكال وفي القرآن : { فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله }{[6311]} .
وقرأ حفص وحمزة والكسائي «فعُمّيت » بضم العين وشد الميم على بناء الفعل للمفعول وهذا إنما يكون من الإخفاء ؛ ويحتمل القلب المذكور .
وقرأ الأعمش وغيره «فعماها عليهم » . قال أبو حاتم : روى الأعمش عن ابن وثاب «وعميت » بالواو خفيفة{[6312]} .
وقوله : { أنلزمكموها } يريد إلزام جبر كالقتال ونحوه ، وأما إلزام الإيجاب فهو حاصل ، وقال النحاس : معناه أن وجبها عليكم ، وقوله في ذلك خطأ .
وفي قراءة أبي بن كعب : «أنلزمكموها من شطر أنفسنا » ، ومعناه من تلقاء أنفسنا . وروي عن ابن عباس أنه قرأ ذلك «من شطر قلوبنا » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.