{ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } أي : من جميع الجهات والجوانب ، ومن كل طريق يتمكن فيه من إدراك بعض مقصوده فيهم .
ولما علم الخبيث أنهم ضعفاء قد تغلب الغفلة على كثير منهم ، وكان جازما ببذل مجهوده على إغوائهم ، ظن وصدق ظنه فقال : { وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } فإن القيام بالشكر من سلوك الصراط المستقيم ، وهو يريد صدهم عنه ، وعدم قيامهم به ، قال تعالى : { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }
وإنما نبهنا اللّه على ما قال وعزم على فعله ، لنأخذ منه حذرنا ونستعد لعدونا ، ونحترز منه بعلمنا ، بالطريق التي يأتي منها ، ومداخله التي ينفذ منها ، فله تعالى علينا بذلك ، أكمل نعمة .
{ ثم لآتيتنهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن إيمانهم وعن شمائلهم } أي من جميع الجهات الأربع . مثل قصده إياهم بالتسويل والإضلال من أي وجه يمكنه بإتيان العدو من الجهات الأربع ، ولذلك لم يقل من فوقهم ومن تحت أرجلهم . وقيل لم يقل من فوقهم لأن الرحمة تنزل منه ولم يقل من تحتهم لأن الإتيان منه يوحش الناس . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : من بين أيديهم من قبل الآخرة ، ومن خلفهم من قبل الدنيا ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من جهة حسناتهم وسيئاتهم . ويحتمل أن يقال من بين أيديهم من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز عنه ، ومن خلفهم من حيث لا يعلمون ولا يقدرون ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم . وإنما عدى الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما موجة إليهم وإلى الأخيرين بحرف المجاوزة فإن الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم ، ونظيره قولهم جلست عن يمينه . { ولا تجد أكثرهم شاكرين } مطيعين ، وإنما قاله ظنا لقوله تعالى : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه } لما رأى فيهم مبدأ الشر متعددا ومبدأ الخير واحداً ، وقيل سمعه من الملائكة .
هذا توكيد من إبليس في أنه يجد في إغواء بني أدم ، وهذا لم يكن حتى علم إبليس أن الله يجعل في الأرض خليفة وعلم أنه آدم وإلا فلا طريق له إلى علم أنسال آدم من ألفاظ هذه الآيات .
قال القاضي أبو محمد : ومقصد هذه الآية أن إبليس أخبر عن نفسه أنه يأتي إضلال بني آدم من كل جهة وعلى كل طريق يفسد عليه ما أمكنه من معتقده وينسيه صالح أعمال الآخرة ويغريه بقبيح أعمال الدنيا ، فعبر عن ذلك بألفاظ تقتضي الإحاطة بهم ، وفي اللفظ تجوز ، وهذا قول جماعة من المفسرين ، وقال ابن عباس فيما روى عنه : أراد بقوله { من بين أيديهم } الآخرة { ومن خلفهم } الدنيا { وعن أيمانهم } الحق ، { وعن شمائلهم } الباطل ، وقال ابن عباس أيضاً فيما روي عنه : { من بين أيديهم } هي الدنيا { ومن خلفهم } هي الآخرة { وعن أيمانهم } الحسنات { وعن شمائلهم } السيئات . وقال مجاهد : من «بين أيديهم وعن أيمانهم » : معناه حيث يبصرون «ومن خلفهم وعن شمائلهم » حيث لا يبصرون .
وقوله : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } أخبر أن سعايته تفعل ذلك ظناً منه وتوهماً في خلقة آدم حين رأى خلقته من أشياء مختلفة فعلم أنه ستكون لهم شيم تقتضي طاعته كالغل والحسد والشهوات ونحو ذلك ، قال ابن عباس وقتادة : إلا أن إبليس لم يقبل أنه يأتي بني آدم من فوقهم ولا جعل الله له سبيلاً إلى أن يحول بينهم وبين رحمة الله وعفوه ومنّه ، وما ظنه إبليس صدقه الله عز وجل . ومنه قوله : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين } فجعل أكثر العالم كفرة ، ويبينه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث : «يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم أخرج بعث النار ، فيقول : يا رب وما بعث النار ؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين وواحد إلى الجنة » ونحوه مما يخص أمة محمد عليه السلام : «ما أنتم في الأمم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود » .
قال القاضي أبو محمد : وقوله كالشعرة يحتمل أن يريد شعرة واحدة وهو بعيد لأن تناسب الحديث الأول يرده ، ويحتمل أن يريد الشعرة التي هي للجنس ، والقصد أن يشبههم بثور أسود قد أنبتت في خلال سواده شعرة بيضاء ، ويحتمل أن يريد اللمعة من الشعر الأبيض ، وهذا فيه بعد ، و { شاكرين } معناه مؤمنين لأن ابن آدم لا يشكر نعمة الله إلا بأن يؤمن ، قاله ابن عباس وغيره .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.