151- قل لهم - يا أيها النبي - تعالوا أبيِّن لكم المحرمات التي ينبغي أن تهتموا بها وتبتعدوا عنها : لا تجعلوا لله شريكاً ما ، بأي نوع كان من أنواع الشرك ، ولا تسيئوا إلى الوالدين ، بل أحسنوا إليهما إحساناً بالغاً ، ولا تقتلوا أولادكم بسبب فقر نزل بكم ، أو تخشون نزوله في المستقبل ، فلستم أنتم الرازقين ، بل نحن الذين نرزقكم ونرزقهم ، ولا تقربوا الزنا فهو من الأمور المتناهية في القبح ، سواء منها ما ظهر للناس حين إتْيانه ، وما لم يطلع عليه إلا الله ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها لعدم موجبه ، إلا إذا كان القتل بحق تنفيذاً لحكم القضاء . أمركم الله أمراً مؤكداً باجتناب هذه المنهيّات التي تقضى بديهة العقل بالبعد عنها ، لتعقلوا ذلك .
{ 151 - 153 } { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } لهؤلاء الذين حرموا ما أحل الله . { تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } تحريما عاما شاملا لكل أحد ، محتويا على سائر المحرمات ، من المآكل والمشارب والأقوال والأفعال . { أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } أي : لا قليلا ولا كثيرا .
وحقيقة الشرك بالله : أن يعبد المخلوق كما يعبد الله ، أو يعظم كما يعظم الله ، أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية والإلهية ، وإذا ترك العبد الشرك كله صار موحدا ، مخلصا لله في جميع أحواله ، فهذا حق الله على عباده ، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا .
ثم بدأ بآكد الحقوق بعد حقه فقال : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } من الأقوال الكريمة الحسنة ، والأفعال الجميلة المستحسنة ، فكل قول وفعل يحصل به منفعة للوالدين أو سرور لهما ، فإن ذلك من الإحسان ، وإذا وجد الإحسان انتفى العقوق .
{ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ } من ذكور وإناث { مِنْ إِمْلَاقٍ } أي : بسبب الفقر وضيقكم من رزقهم ، كما كان ذلك موجودا في الجاهلية القاسية الظالمة ، وإذا كانوا منهيين عن قتلهم في هذه الحال ، وهم أولادهم ، فنهيهم عن قتلهم لغير موجب ، أو قتل أولاد غيرهم ، من باب أولى وأحرى .
{ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } أي : قد تكفلنا برزق الجميع ، فلستم الذين ترزقون أولادكم ، بل ولا أنفسكم ، فليس عليكم منهم ضيق . { وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ } وهي : الذنوب العظام المستفحشة ، { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } أي : لا تقربوا الظاهر منها والخفي ، أو المتعلق منها بالظاهر ، والمتعلق بالقلب والباطن .
والنهي عن قربان الفواحش أبلغ من النهي عن مجرد فعلها ، فإنه يتناول النهي عن مقدماتها ووسائلها الموصلة إليها .
{ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ } وهي : النفس المسلمة ، من ذكر وأنثى ، صغير وكبير ، بر وفاجر ، والكافرة التي قد عصمت بالعهد والميثاق . { إِلَّا بِالْحَقِّ } كالزاني المحصن ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة .
{ ذَلِكُمْ } المذكور { وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } عن الله وصيته ، ثم تحفظونها ، ثم تراعونها وتقومون بها . ودلت الآية على أنه بحسب عقل العبد يكون قيامه بما أمر الله به .
قال داود الأوْدِي ، عن الشعبي ، عن علَقْمَة ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : من أراد أن يقرأ صحيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه ، فليقرأ هؤلاء{[11335]} الآيات : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } إلى قوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا بكر بن محمد الصيرفي بمرو ، حدثنا عبد الصمد بن الفضل ، حدثنا مالك بن إسماعيل النَّهدي ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة قال : سمعت ابن عباس يقول : في{[11336]} الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب ، ثم قرأ : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ] }{[11337]} .
ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه{[11338]} .
قلت : ورواه زُهَيْر وقيس بن الربيع كلاهما عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن قيس ، عن ابن عباس ، به . والله{[11339]} أعلم .
وروى الحاكم أيضًا في مستدركه{[11340]} من حديث يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن أبي إدريس ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيكم يبايعني على ثلاث ؟ " - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } حتى فرغ من الآيات - فمن وفى فأجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئًا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته{[11341]} ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله ، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه " .
ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . وإنما اتفقا على حديث الزهري ، عن أبي إدريس ، عن عبادة : " بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا " الحديث . وقد روى سفيان بن حُسَين كلا الحديثين ، فلا ينبغي أن ينسب إلى الوهم في أحد الحديثين إذا جمع بينهما ، والله أعلم{[11342]} .
وأما تفسيرها فيقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد - لهؤلاء المشركين الذين [ أشركوا و ]{[11343]} عبدوا غير الله ، وحرموا ما رزقهم الله ، وقتلوا أولادهم وكل ذلك فعلوه بآرائهم وتسويل الشياطين لهم ، { قُلْ } لهم { تَعَالَوْا } أي : هلموا وأقبلوا : { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } أي : أقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقًا لا تخرصًا ، ولا ظنًا ، بل وحيًا منه وأمرًا من عنده :
{ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } وكأن في الكلام محذوفًا دل عليه السياق ، وتقديره : وأوصاكم{[11344]} { أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } ؛ ولهذا قال في آخر الآية : { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وكما قال الشاعر :
حَجَّ وأوصَى بسُلَيمى الأعْبُدَا *** أنْ لا تَرَى ولا تُكَلِّم أحَدا
ولا يَزَلْ شَرَابُها مُبَرَّدا{[11345]} .
وتقول العرب : أمرتك ألا تقوم .
وفي الصحيحين من حديث أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا من أمتك ، دخل الجنة . قلت : وإن زنا وإن سرق ؟ قال : وإن زنا وإن سرق . قلت : وإن زنا وإن سرق ؟ قال : وإن زنا وإن سرق . قلت : وإن زنا وإن سرق ؟ قال : وإن زنا وإن سرق ، وإن شرب الخمر " : وفي بعض{[11346]} الروايات أن القائل ذلك إنما هو أبو ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه ، عليه{[11347]} السلام ، قال في الثالثة : " وإن رغم أنفُ أبي ذر " {[11348]} فكان أبو ذر يقول بعد تمام الحديث : وإن رغم أنف أبي ذر .
وفي بعض المسانيد والسنن عن أبي ذر [ رضي الله عنه ]{[11349]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي ، ولو أتيتني بقراب الأرض خطيئة أتيتك بقرابها مغفرة ما لم تشرك بي شيئا ، وإن أخطأت حتى تبلغ خطاياك عَنَان السماء ثم استغفرتني ، غفرت لك " {[11350]} .
ولهذا شاهد في القرآن ، قال الله تعالى{[11351]} : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ، 116 ] .
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود : " من مات لا يشرك بالله شيئًا ، دخل الجنة " {[11352]} والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدًا .
وروى ابن مَرْدُوَيه من حديث عبادة وأبي الدرداء : " لا تشركوا بالله شيئًا ، وإن قُطِّعتم أو صُلِّبتم أو حُرِّقتم " {[11353]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عَوْف الحِمْصي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا نافع بن يزيد حدثني سيار بن عبد الرحمن ، عن يزيد بن قَوْذر ، عن سلمة بن شُرَيح ، عن عبادة بن الصامت قال : أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع خصال : " ألا تشركوا بالله شيئًا ، وإن حرقتم وقطعتم وصلبتم " {[11354]} .
وقوله تعالى : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي : وأوصاكم وأمركم بالوالدين إحسانا ، أي : أن تحسنوا إليهم ، كما قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 ] .
وقرأ بعضهم : " ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " .
والله تعالى كثيرًا ما يقرن بين طاعته وبر الوالدين ، كما قال : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ لقمان : 14 ، 15 ] . فأمر بالإحسان إليهما ، وإن كانا مشركين بحسبهما ، وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } الآية . [ البقرة : 83 ] . والآيات في هذا كثيرة . وفي الصحيحين عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : " الصلاة على وقتها " . قلت : ثم أيّ ؟ قال : " بر الوالدين " . قلت : ثم أيّ ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " . قال ابن مسعود : حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته{[11355]} لزادني{[11356]} .
وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه بسنده عن أبي الدرداء ، وعن عبادة بن الصامت ، كل منهما يقول : أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم : " أطع والديك ، وإن أمراك أن تخرج لهما من الدنيا ، فافعل " {[11357]} .
ولكن في إسناديهما ضعف ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } لما أوصى{[11358]} تعالى ببر الآباء والأجداد ، عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد ، فقال تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ } وذلك أنهم كانوا يقتلون أولادهم كما سَوَّلت لهم الشياطين ذلك ، فكانوا يئدون البنات خَشْيَة العار ، وربما قتلوا بعض الذكور خيفةَ الافتقار ؛ ولهذا جاء في الصحيحين ، من حديث عبد الله ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله ندّا وهو خلَقَكَ " . قلت : ثم أيّ ؟ قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعَم معك " . قلت : ثم أيّ ؟ قال : " أن تُزَاني حليلة جارك " . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ] }{[11359]} [ الفرقان : 68 ] . {[11360]}
وقوله : { مِنْ إِمْلاقٍ } قال ابن عباس ، وقتادة ، والسُّدِّي : هو الفقر ، أي : ولا تقتلوهم من فقركم الحاصل ، وقال في سورة " سبحان " : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [ الإسراء : 31 ] ، أي : خشية{[11361]} حصول فقر ، في الآجل ؛ ولهذا قال هناك : { نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ } فبدأ برزقهم للاهتمام بهم ، أي : لا تخافوا من فقركم بسببهم ، فرزقهم على الله . وأما في هذه الآية فلما كان الفقر حاصلا قال : { نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } ؛ لأنه الأهم هاهنا ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } كقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] . وقد تقدم تفسيرها في قوله : { وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ } [ الأنعام : 12 ] .
وفي الصحيحين ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أحد أغْيَر من الله ، من أجل ذلك حَرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطنَ " {[11362]} .
وقال عبد الملك بن عُمَيْر ، عن وَرّاد ، عن مولاه المغيرة قال : قال سعد بن عبادة : لو رأيت مع امرأتي رجلا لضربته بالسيف غير مُصْفَح . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أتعجبون من غيرة سعد ! فوالله لأنا أغير من سعد ، والله أغير مني ، من أجل ذلك حَرّم الفواحش ما ظهر منها وما بَطَن " . أخرجاه{[11363]} .
وقال كامل أبو العلاء ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، إنا{[11364]} . نغار . قال : " والله إني لأغار ، والله أغير مني ، ومن غيرته نهى عن الفواحش " {[11365]} .
رواه ابن مَرْدُوَيه ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، وهو على شرط الترمذي ، فقد روي بهذا السند : " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين " {[11366]} .
وقوله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ } وهذا مما نص تبارك وتعالى على النهي عنه تأكيدًا ، وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، فقد جاء في الصحيحين ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " {[11367]} .
وفي لفظ لمسلم{[11368]} والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم . . . " وذكره ، قال الأعمش : فحدثت به إبراهيم ، فحدثني عن الأسود ، عن عائشة [ رضي الله عنها ]{[11369]} ، بمثله{[11370]} .
وروى أبو داود ، والنسائي ، عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال : زانٍ مُحْصَن يُرْجَم ، ورجل قتل رَجُلا مُتَعمِّدا فيقتل ، ورجل يخرج من الإسلام حارب الله ورسوله ، فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض " . وهذا لفظ النسائي{[11371]} .
وعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، أنه قال وهو محصور : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يَحِلُّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كَفَر بعد إسلامه ، أو زنا بعد إحصانه ، أو قتل نفسا بغير نفس " . فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ، ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منه بعد إذ هداني الله ، ولا قتلت نفسا ، فبم تقتلونني . رواه الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه . وقال الترمذي : هذا حديث حسن{[11372]} .
وقد جاء النهي والزجر والوعيد في قتل المعاهدَ - وهو المستأمن من أهل الحرب - كما رواه البخاري ، عن عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل مُعاهِدًا لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد{[11373]} من مسيرة أربعين عاما " {[11374]} .
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل معاهَدًا له ذِمَّة الله وذمَّة رسوله ، فقد أخفر بذمة الله ، فلا يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خَريفًا " .
رواه ابن ماجه ، والترمذي وقال : حسن صحيح{[11375]} .
وقوله : { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي : هذا ما{[11376]} وصاكم به لعلكم تعقلون عنه أمره ونهيه .
{ قل تعالوا } أمر من التعالي وأصله أن يقوله من كان في علو لمن كان في سفل فاتسع فيه بالتعميم . { أتل } أقرأ . { ما حرم ربكم } منصوب بأتل وما تحتمل الخبرية والمصدرية ، ويجوز أن تكون استفهامية منصوبة بحرم والجملة مفعول { أتل } لأنه بمعنى أقل ، فكأنه قيل أتل أي شيء حرم ربكم { عليكم } متعلق ب{ حرم } أو { أتل } . { ألا تشركوا به } أي لا تشركوا به ليصح عطف الأمر عليه ، ولا يمنعه تعليق الفعل المفسر ب{ ما حرم } ، فإن التحريم باعتبار الأوامر يرجع إلى أضدادها ومن جعل أن ناصبة فمحلها النصب بعليكم على أنه للإغراء ، أو البدل من { ما } أو من عائده المحذوف على أن لا زائدة والجر بتقدير اللام ، أو الرفع على تقدير المتلو أن لا تشركوا أو المحرم أن تشركوا . { شيئا } يحتمل المصدر والمفعول . { وبالوالدين إحسانا } أي وأحسنوا بهما إحسانا وضعه موضع النهي عن الإساءة إليهما للمبالغة وللدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف بخلاف غيرهما . { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } من أجل فقر ومن خشية . كقوله : { خشية إملاق } { نحن نرزقكم وإياهم } منع لموجبية ما كانوا يفعلون لأجله واحتجاج عليه . { ولا تقربوا الفواحش } كبائر الذنوب أو الزنا . { ما ظهر منها وما بطن } بدل منه وهو مثل قوله { ظاهر الإثم وباطنه } { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } كالقود وقتل المرتد ورجم المحصن . { ذلكم } إشارة إلى ما ذكر مفصلا . { وصاكم به } بحفظه . { لعلكم تعقلون } ترشدون فإن كمال العقل هو الرشد .
هذا أمر من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله بشرع الإسلام المبعوث به إلى الأسود والأحمر ، و { تعالوا } معناه أقبلوا ، وأصله من العلو فكأن الدعاء لما كان أمراً من الداعي استعمل فيه ترفيع المدعو{[5149]} ، وتعالى هو مطاوع عالى ، إذ تفاعل هو مطاوع فاعل . و { أتل } معناه اسرد وأ نص من التلاوة التي يصح هي إتباع بعض الحروف بعضا ، و { ما } نصب بقوله { أتل } وهي بمعنى الذي ، وقال الزجّاج أن يكون قوله { أتل } معلقاً عن العمل و { ما } نصب ب { حرم } .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قلق و { أن } في قوله { أن لا تشركوا } يصح أن تكون في موضع رفع الابتداءو التقدير : الأمر أن ، أو : ذلك أن ، ويصح أن تكون في موضع نصب على البدل من { ما } قاله مكي وغيره .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : والمعنى يبطله فتأمله ، ويصح أن يكون مفعولاً من أجله التقدير : إرادة أن لا تشركوا به شيئاً ، إلا أن هذا التأويل يخرج{ ألا تشركوا } من المتلو ويجعله سبباً لتلاوة المحرمات . و{ تشركوا } يصح أن يكون منصوباً ب { أن } ، ويتوجه أن يكون مجزوماً بالنهي وهو الصحيح في المعنى المقصود ، و { أن } قد توصل بما نصبته ، وقد توصل بالفعل المجزوم بالأمر والنهي ، و { شيئاً } عام يراد به كل معبود من دون الله ، و { إحساناً } نصب على المصدر وناصبه فعل مضمر من لفظه تقديره وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، والمحرمات تنفك من هذه المذكورات بالمعنى وهي الإشراك والعقوق وقرب الفواحش وقتل النفس ، وقال كعب الأحبار : هذه الآيات مفتتح التوراة { بسم الله الرحمن الرحمن قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى آخر الآية ، وقال ابن عباس هذه الآيات هي المحكمات التي ذكرها الله في سورة آل عمران اجتمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ قط في ملة ، وقد قيل إنها العشر الكلمات المنزلة على موسى ، وإن اعترض من قال إن { تشركوا } منصوب ب { أن } بعطف المجزومات عليه فلذلك موجود في كلام العرب ، وأنشد الطبري حجة لذلك : [ الرجز ] .
حج وأوصى بسليمى الأعْبُدا . . . أن لا ترى ولا تكلمْ أحدا
ولا يزلْ شرابُها مبرَّدا{[5150]} . . .
وقوله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم } الآية نهي عن عادة العرب في وأد البنات ، والولد يعم الذكر والأنثى من البنين ، و «الإملاق » الفقر وعدم المال ، قاله ابن عباس وغيره ، يقال أملق الرجل إذا افتقر .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : ويشبه أن يكون معناه أملق أي لم يبق له إلا الملق كما قالوا أترب إذا لم يبق له إلا التراب ، وأرمل إذا لم يبق له إلا الرمل ، والملق الحجارة السود واحدته ملقة ، وذكر منذر بن سعيد{[5151]} أن الإملاق الإنفاق ، ويقال أملق ماله بمعنى أنفقه ، وذكر أن علياً قال لامرأة أملقي من مالك ما شئت ، وذكر النقاش عن محمد بن نعيم الترمذي أنه السرف في الإنفاق ، وحكى أيضاً النقاش عن مؤرج أنه قال : الإملاق الجوع بلغة لخم .
وقوله تعالى : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي ، و «ظهر وبطن » حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء ، وذهب بعض المفسرين إلى أن القصد بهذه الآية أشياء مخصصات ، فقال السدي وابن عباس : { ما ظهر } هو زنا الحوانيت الشهير ، و { ما بطن } هو متخذات الأخدان ، وكانوا يستقبحون الشهير وحده فحرم الله الجميع ، وقال مجاهد { ما ظهر } هو نكاح حلائل الآباء ونحو ذلك ، و { ما بطن } هو الزنا إلى غير هذا من تخصيص لا تقوم عليه حجة ، بل هو دعوى مجردة ، وقوله تعالى : { ولا تقتلوا } الآية متضمنة تحريم قتل النفس المسلمة والمعاهدة ، ومعنى الآية { إلا بالحق } الذي يوجب قتلها وقد بينته الشريعة وهو الكفر بالله وقتل النفس والزنا بعد الإحصان والحرابة وما تشعب من هذه ، و { ذلكم } إشارة إلى هذه المحرمات ، و «الوصية » الأمر المؤكد المقرر ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
أجدَّكَ لم تسمعْ وَصَاةَ محمَّدٍ . . . نبيِّ الإلهِ حين أوصى وَأَشْهَدَا{[5152]}
وقوله { لعلكم } ترج بالإضافة إلينا أي من سمع هذه الوصية ترجى وقوع أثر العقل بعدها والميز بالمنافع والمضار في الدين .
استئناف ابتدائي للانتقال من إبطال تحريم ما ادّعوا تحريمه من لحوم الأنعام ، إلى دعوتهم لمعرفة المحرّمات ، التي علمُها حقّ وهو أحقّ بأنْ يعلموه ممّا اختلقوا من افترائهم وموّهوا بجدلهم . والمناسبة لهذا الانتقال ظاهرة فالمقام مقامُ تعليم وإرشاد ، ولذلك ابتدىء بأمر الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بفعل القول استرعاء للأسماع كما تقدّم آنفاً .
وعُقّب بفعل : { تعالوا } اهتماماً بالغرض المنتقل إليه بأنَّه أجدى عليهم من تلك السّفاسف التي اهتمّوا بها وهذا على أسلوب قوله تعالى : { ليس البِرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن بالله واليوم الآخر } [ البقرة : 177 ] الآيات . وقوله : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كَمَنْ آمن بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 19 ] الآية ، ليعلموا البون بين ما يَدعون إليه قومهم وبين ما يدعوهم إليه الإسلام ، من جلائل الأعمال ، فيعلموا أنَّهم قد أضاعوا أزمانهم وأذهانهم .
وافتتاحه بطلب الحضور دليل على أنّ الخطاب للمشركين الذين كانوا في إعراض . وقد تلا عليهم أحكاماً قد كانوا جارين على خلافها ممّا أفسد حالهم في جاهليتهم ، وفي ذلك تسجيل عليهم بسوء أعمالهم ممّا يؤخذ من النّهي عنها والأمر بضدّها .
وقد انقسمت الأحكام التي تضمّنتها هذه الجمل المتعاطفة في الآيات الثّلاث المفتتحة بقوله : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى ثلاثة أقسام :
الأوّل : أحكام بها إصلاح الحالة الاجتماعية العامَّة بين النّاس وهو ما افتتح بقوله : { ألاَّ تشركوا به شيئاً } .
الثّاني : ما به حفظ نظام تعامل النّاس بعضِهم مع بعض وهو المفتتح بقوله : { ولا تَقْرَبوا مال اليتيم } [ الأنعام : 152 ] .
الثّالث : أصل كلي جامع لجميع الهدى وهو اتّباع طريق الإسلام والتّحرّز من الخروج عنه إلى سبل الضّلال وهو المفتتح بقوله : { وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] .
وقد ذيّل كلّ قسم من هذه الأقسام بالوصاية به بقوله : { ذلكم وصاكم به } ثلاث مرّات .
و ( تعالَ ) فعل أمر ، أصله يُؤْمر به من يراد صعوده إلى مكان مرتفع فوق مكانه ، ولعلّ ذلك لأنَّهم كانوا إذا نَادوا إلى أمر مهمّ ارتقَى المنادي على ربوة ليُسمَع صوته ، ثمّ شاع إطلاق ( تَعالَ ) على طلب المجيء مجازاً بعلاقة الإطلاق فهو مجاز شائع صار حقيقة عرفية ، فأصله فعل أمر لا محالة من التعالي وهو تكلّف الاعتلاء ثمّ نقل إلى طلب الإقبال مطلقاً ، فقيل : هو اسم فعلِ أمر بمعنى ( اقدَمْ ) ، لأنَّهم وجدوه غير متصرّف في الكلام إذ لا يقال : تعاليتُ بمعنى ( قَدِمت ) ، ولا تعالَى إليّ فلان بمعنى جاء ، وأيّاً ما كان فقد لزمته علامات مناسبة لحال المخاطب به فيقال : تعالوا وتَعالَيْن . وبذلك رجَّح جمهور النّحاة أنَّه فعل أمر وليس باسْم فِعل ، ولأنَّه لو كان اسم فعل لما لحقتْه العلامات ، ولكان مثل : هَلُمّ وهَيْهات .
و { أتْلُ } جواب { تعالوا } ، والتّلاوة القراءة ، والسّردُ وحكاية اللّفظ ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } [ البقرة : 102 ] . و { ألاَّ تشركوا } تفسير للتّلاوة لأنَّها في معنى القول .
وذُكرَت فيما حرّم الله عليهم أشياءُ ليست من قبيل اللّحوم إشارة إلى أنّ الاهتمام بالمحرّمات الفواحش أولى من العكوف على دراسة أحكام الأطعمة ، تعريضاً بصرف المشركين همتّهم إلى بيان الأطعمة وتضييعهم تزكية نفوسهم وكفّ المفاسد عن النّاس ، ونظيره قوله : { قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده } إلى قوله { إنَّما حرم ربِّي الفواحش ما ظهر منها } [ الأعراف : 32 ، 33 ] الآية .
وقد ذُكرت المحرّمات : بعضها بصيغة النّهي ، وبعضها بصيغة الأمر الصّريح أو المؤوّل ، لأنّ الأمر بالشّيء يقتضي النّهي عن ضدّه ، ونكتة الاختلاف في صيغة الطّلب لهاته المعدودات سنبيّنها .
و { أنْ } تفسيرية لفعل : { أتل } لأنّ التّلاوة فيها معنى القول . فجملة : { ألا تشركوا } في موقع عطف بيان . والابتداء بالنَّهي عن الإشراك لأنّ إصلاح الاعتقاد هو مفتاح باب الإصلاح في العاجل ، والفلاح في الآجل .
وقوله : { وبالوالدين إحسانا } عطف على جملة : { ألاَّ تشركوا } . و { إحسانا } مصدر ناب مناب فعله ، أي وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، وهو أمر بالإحسان إليهما فيفيد النّهي عن ضدّه : وهو الإساءة إلى الوالدين ، وبذلك الاعتبار وقع هنا في عداد ما حَرّم الله لأنّ المحرّم هو الإساءة للوالدين . وإنَّما عدل عن النّهي عن الإساءة إلى الأمر بالإحسان اعتناء بالوالدين ، لأن الله أراد برهما ، والبرّ إحسان ، والأمرُ به يتضمّن النَّهي عن الإساءة إليهما بطريق فحوى الخطاب ، وقد كان كثير من العرب في جاهليتهم أهل جلافة ، فكان الأولاد لا يوقّرون آباءهم إذا أضعفهم الكبر . فلذلك كثرت وصاية القرآن بالإحسان بالوالدين .
وقوله : { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } جملة عطفت على الجملة قبلها أريد به النّهي عن الوأد ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى في هذه السّورة ( 137 ) : { وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } و ( مِنْ ) تعليلية ، وأصلها الابتدائيّة فجعل المعلول كأنَّه مبتدىء من علّته .
والإملاق : الفقر ، وكونه علّة لقتل الأولاد يقع على وجهين : أن يكون حاصلاً بالفعل ، وهو المراد هنا ، وهو الذي تقتضيه ( من ) التّعليلية ، وأن يكون متوقَّع الحصول كما قال تعالى ، في آية سورة الإسراء ( 31 ) : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } لأنَّهم كانوا يئدون بناتهم إمّا للعجز عن القيام بهنّ وإمَّا لتوقّع ذلك . قال إسحاق بن خلف ، وهو إسلامي قديم :
إذَا تذكرتُ بنتي حين تندبني *** فاضت لعبرة بنتي عبرتي بدم
أحاذر الفقر يوماً أن يُلِمّ بها *** فيُكشفَ السترُ عن لحم على وضم
وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وكذلك زيَّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } في هذه السورة ( 137 ) .
وجملة : { نحن نرزقكم وإياهم } معترضة ، مستأنفة ، علّة للنّهي عن قتلهم ، إبطالاً لمعذرتهم : لأنّ الفقر قد جعلوه عذراً لقتل الأولاد ، ومع كون الفقر لا يصلح أن يكون داعياً لقتل النّفس ، فقد بيّن الله أنَّه لمّا خَلق الأولاد فقد قدّر رزقهم ، فمن الحماقة أن يظنّ الأب أنّ عجزه عن رزقهم يخوّله قتلهم ، وكان الأجدر به أن يكتسِبَ لهم .
وعُدل عن طريق الغيبة الذي جرى عليه الكلام من قوله : { ما حرم ربكم } إلى طريق التكلّم بضمير : نرزقكم تذكيراً بالذي أمر بهذا القول كلّه ، حتى كأنّ الله أقحمَ كلامَه بنفسه في أثناء كلام رسوله الّذي أمره به ، فكلّم النّاس بنفسه ، وتأكيداً لتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم . وذكَرَ الله رزقهم مع رزق آبائهم ، وقدم رزق الآباء للإشارة إلى أنَّه كما رزق الآباء ، فلم يموتوا جوعاً ، كذلك يرزق الأبناء ، على أن الفقر إنَّما اعترى الآباء فلِمَ يُقتل لأجله الأبناء .
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي . هنا لإفادة الاختصاص : أي نحن نرزقكم وإيَّاهم لا أنتم ترزقون أنفسكم ولا ترزقون أبناءكم . وقد بيّنتُ آنفاً أنّ قبائل كثيرة كانت تئد البنات . فلذلك حذروا في هذه الآية .
وجملة : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } عطف على ما قبله . وهو نهي عن اقتراف الآثام ، وقد نهى عن القرب منها ، وهو أبلغ في التّحذير من النّهي عن ملابستها : لأنّ القرب من الشّيء مظنّة الوقوع فيه ، ولمّا لم يكن للإثم قرب وبعد كان القرب مراداً به الكناية عن ملابسة الإثم أقلّ ملابسة ، لأنَّه من المتعارف أن يقال ذلك في الأمور المستقرة في الأمكنة إذا قيل لا تقرب منها فُهم النّهي عن القرب منها ليكون النّهي عن ملابستها بالأحرى ، فلمّا تعذّر المعنى المطابقي هنا تعيّنت إرادة المعنى الالتزامي بأبلغ وجه .
والفواحش : الآثام الكبيرة ، وهي المشتملة على مفاسد ، وتقدّم بيانها عند قوله تعالى : { إنَّما يأمركم بالسّوء والفحشاء } في سورة البقرة ( 169 ) .
{ وما ظهر منها } ما يظهرونه ولا يسْتَخْفُون به ، مثل الغضب والقذف . { وما بطن } ما يستخْفون به وأكثره الزّنا والسّرقة وكانا فاشيين في العرب .
ومن المفسّرين من فسّر الفواحش بالزّنا ، وجعل ما ظهر منها ما يفعله سفهاؤهم في الحوانيت وديار البغايا ، وبما بطَن اتَّخاذ الأخدان سِرّاً ، وروي هذا عن السُدّي . وروي عن الضحّاك وابن عبّاس : كان أهل الجاهليّة يرون الزّنا سِراً حلالاً ، ويستقبحونه في العلانية ، فحرّم الله الزّنى في السرّ والعلانية . وعندي أن صيغة الجمع في الفواحش ترجح التّفسير الأوّل كقوله تعالى : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } [ النجم : 32 ] . ولعلّ الذي حمل هؤلاء على تفسير الفواحش بالزّنى قوله في سورة الإسراء ( 32 ) في آيات عَدَّدت منهيات كثيرة تشابه آيات هذه السورة وهي قوله : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } وليس يلزم أن يكون المراد بالآيات المتماثلة واحداً .
وتقدّم القول في : { ما ظهر منها وما بطن } عند قوله تعالى : { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } في هذه السّورة ( 120 .
وأعقب ذلك بالنّهي عن قتل النّفس ، وهو من الفواحش على تفسيرها بالأعمّ ، تخصيصاً له بالذّكر : لأنَّه فساد عظيم ، ولأنّه كان متفشياً بين العرب .
والتّعريف في النّفس تعريف الجنس ، فيفيد الاستغراق .
ووصفت { بالتي حَرّم الله } تأكيداً للتّحريم بأنَّه تحريم قديم فإنّ الله حرّم قتل النّفس من عهد آدم ، وتعليق التّحريم بالنّفس : هو على وجه دلالة الاقتضاء ، أي حرّم الله قتلها على ما هو المعروف في تعليق التّحريم والتّحليل بأعيان الذّوات أنَّه يراد تعليقه بالمعنى الذي تستعمل تلك الذّات فيه كقوله : { أحلّت لكم بهيمة الأنعام } [ المائدة : 1 ] أي ، أكلها ، ويجوز أن يكون معنى : { حرم الله } جعلها الله حَرَماً أي شيئاً محترماً لا يعتدى عليه ، كقوله تعالى : { إنَّما أمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة الذي حرمها } [ النمل : 91 ] . وفي الحديث : « وإنِّي أحَرّم ما بين لابَتَيْها » .
وقوله : { إلا بالحق } استثناء مفرّغ من عموم أحوال ملابسة القتل ، أي لا تقتلوها في أيَّة حالة أو بأي سبب تنتحلونه إلاّ بسبب الحقّ ، فالباء للملابسة أو السببيّة .
والحقّ ضدّ الباطل ، وهو الأمر الذي حَقّ ، أي ثبت أنّه غير باطل في حكم الشّريعة وعند أهل العقول السّليمة البريئة من هوى أو شهوة خاصّة ، فيكونُ الأمرَ الذي اتَّفقت العقول على قبوله ، وهو ما اتَّفقت عليه الشّرائع ، أو الذي اصطلح أهل نزعة خاصّة على أنَّه يحقّ وقوعه وهو ما اصطلحت عليه شريعة خاصّة بأمّة أو زمن .
فالتّعريف في : { الحق } للجنس ، والمراد به ما يتحقّق فيه ماهية الحقّ المتقدّم شرحها ، وحيثما أطلق في الإسلام فالمراد به ماهيته في نظر الإسلام ، وقد فصّل الإسلام حقّ قتل النّفس بالقرآن والسنّة ، وهو قتل المحارب والقصاص ، وهذان بنصّ القرآن ، وقتل المرتدّ عن الإسلام بعد استتابَته ، وقتل الزّاني المحصن ، وقتل الممتنع من أداء الصّلاة بعد إنظاره حتّى يخرج وقتها ، وهذه الثّلاثة وردت بها أحاديث عن النّبيء صلى الله عليه وسلم ومنه القتل الناشىء عن إكراه ودفاعٍ مأذونٍ فيه شرعاً وذلك قتل من يُقتل من البغاة وهو بنصّ القرآن ، وقتل من يقتل من مانعي الزّكاة وهو بإجماع الصّحابة ، وأمّا الجهاد فغير داخل في قوله : { إلا بالحق } ، ولكنّ قتل الأسير في الجهاد إذا كان لمصلحة كان حقّاً ، وقد فصلنا الكلام على نظير هذه الآية في سورة الإسراء .
والإشارة بقوله : { ذلكم وصاكم به } إلى مجموع ما ذكر ، ولذلك أفرد اسم الإشارة باعتبار المذكور ، ولو أتى بإشارة الجمع لكان ذلك فصيحاً ، ومنه : { كل أولئك كان عنه مسؤلاً } [ الإسراء : 36 ] .
وتقدّم معنى الوصاية عند قوله : { أم كنتم شهداء إذ وصّاكم الله بهذا } [ الأنعام : 144 ] آنفاً .
وقوله : { لعلكم تعقلون } رجاء أن يعقلوا ، أي يصيروا ذوي عقول لأنّ ملابسة بعض هذه المحرّمات ينبىء عن خساسة عقل ، بحيث ينزّل ملابسوها منزلة من لا يعقل ، فلذلك رُجي أن يعقلوا .
وقوله : { ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } تذييل جعل نهاية للآية ، فأومأ إلى تنهية نوع من المحرّمات وهو المحرّمات الرّاجع تحريمها إلى إصلاح الحالة الاجتماعيّة للأمّة ، بإصلاح الاعتقاد ، وحفظ نظام العائلة والانكفاف عن المفاسد ، وحفظ النّوع بترك التّقاتل .