ثم قال تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
يخبر تعالى عن سؤالهم عن المحيض ، وهل تكون المرأة بحالها بعد الحيض ، كما كانت قبل ذلك ، أم تجتنب مطلقا كما يفعله اليهود ؟ .
فأخبر تعالى أن الحيض أذى ، وإذا كان أذى ، فمن الحكمة أن يمنع الله تعالى عباده عن الأذى وحده ، ولهذا قال : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } أي : مكان الحيض ، وهو الوطء في الفرج خاصة ، فهذا هو المحرم إجماعا ، وتخصيص الاعتزال في المحيض ، يدل على أن مباشرة الحائض وملامستها ، في غير الوطء في الفرج جائز .
لكن قوله : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } يدل على أن المباشرة فيما قرب من الفرج ، وذلك فيما بين السرة والركبة ، ينبغي تركه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأته وهي حائض ، أمرها أن تتزر ، فيباشرها .
وحد هذا الاعتزال وعدم القربان للحُيَّض { حَتَّى يَطْهُرْنَ } أي : ينقطع دمهن ، فإذا انقطع الدم ، زال المنع الموجود وقت جريانه ، الذي كان لحله شرطان ، انقطاع الدم ، والاغتسال منه .
فلما انقطع الدم ، زال الشرط الأول وبقي الثاني ، فلهذا قال : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } أي : اغتسلن { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } أي : في القبل لا في الدبر ، لأنه محل الحرث .
وفيه دليل على وجوب الاغتسال للحائض ، وأن انقطاع الدم ، شرط لصحته .
ولما كان هذا المنع لطفا منه تعالى بعباده ، وصيانة عن الأذى قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } أي : من ذنوبهم على الدوام { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } أي : المتنزهين عن الآثام وهذا يشمل التطهر الحسي من الأنجاس والأحداث .
ففيه مشروعية الطهارة مطلقا ، لأن الله يحب المتصف بها ، ولهذا كانت الطهارة مطلقا ، شرطا لصحة الصلاة والطواف ، وجواز مس المصحف ، ويشمل التطهر المعنوي عن الأخلاق الرذيلة ، والصفات القبيحة ، والأفعال الخسيسة .
( ويسألونك عن المحيض . قل : هو أذى . فاعتزلوا النساء في المحيض ؛ ولا تقربوهن حتى يطهرن . فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله . إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين . نساؤكم حرث لكم . فأتوا حرثكم أنى شئتم ، وقدموا لأنفسكم ، واتقوا الله ، واعلموا أنكم ملاقوه ، وبشر المؤمنين ) . .
وهذه لفتة أخرى إلى تلك العلاقة ترفعها إلى الله ؛ وتسمو بأهدافها عن لذة الجسد حتى في أشد أجزائها علاقة بالجسد . . في المباشرة . .
إن المباشرة في تلك العلاقة وسيلة لا غاية . وسيلة لتحقيق هدف أعمق في طبيعة الحياة . هدف النسل وامتداد الحياة ، ووصلها كلها بعد ذلك بالله . والمباشرة في المحيض قد تحقق اللذة الحيوانية - مع ما ينشأ عنها من أذى ومن أضرار صحية مؤكدة للرجل والمرأة سواء - ولكنها لا تحقق الهدف الأسمى . فضلا على انصراف الفطرة السليمة النظيفة عنها في تلك الفترة . لأن الفطرة السليمة يحكمها من الداخل ذات القانون الذي يحكم الحياة . فتنصرف بطبعها - وفق هذا القانون - عن المباشرة في حالة ليس من الممكن أن يصح فيها غرس ، ولا أن تنبت منها حياة . والمباشرة في الطهر تحقق اللذة الطبيعية ، وتحقق معها الغاية الفطرية . ومن ثم جاء ذلك النهي إجابة عن ذلك السؤال : ( ويسألونك عن المحيض . قل : هو أذى . فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ) . .
وليست المسألة بعد ذلك فوضى ، ولا وفق الأهواء والانحرافات . إنما هي مقيدة بأمر الله ؛ فهي وظيفة ناشئة عن أمر وتكليف ، مقيدة بكيفية وحدود :
( فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ) . .
في منبت الإخصاب دون سواه . فليس الهدف هو مطلق الشهوة ، إنما الغرض هو امتداد الحياة . وابتغاء ما كتب الله . فالله يكتب الحلال ويفرضه ؛ والمسلم يبتغي هذا الحلال الذي كتبه له ربه ، ولا ينشىء هو نفسه ما يبتغيه . والله يفرض ما يفرض ليطهر عباده ، ويحب الذين يتوبون حين يخطئون ويعودون إليه مستغفرين :
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس : أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يُؤَاكلوها ولم يجامعوها في البيوت ، فسأل أصحابُ النبي [ النبيَّ ]{[3832]} صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } حتى فرغ من الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " . فبلغ ذلك اليهود ، فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يَدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه ! فجاء أسيد بن حُضَير وعبَّاد بن بشر فقالا يا رسول الله ، إن اليهود قالت كذا وكذا ، أفلا نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن{[3833]} قد وَجَدَ عليهما ، فخرجا ، فاستقبلتهما{[3834]} هدية من لبن إلى رسول{[3835]} الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل في آثارهما ، فسقاهما ، فعرفا أن لم يَجدْ عليهما .
رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة{[3836]} .
فقوله : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } يعني [ في ]{[3837]} الفَرْج ، لقوله : " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " {[3838]} ؛ ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه تجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج .
قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئًا ، ألقى على فرجها ثوبًا{[3839]} .
وقال أبو داود أيضًا : حدثنا القَعْنَبِيّ ، حدثنا عبد الله - يعني ابن عمر بن غانم - عن عبد الرحمن - يعني ابن زياد - عن عمارة بن غُرَاب : أن عمَّة له حدثته : أنها سألت عائشة قالت : إحدانا تحيض ، وليس لها ولزوجها فراش إلا فراش واحد ؟ قالت : أخبرك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم : دخل فمضى إلى مسجده - قال أبو داود : تعني مسجد بيتها - فما انصرف حتى غلبتني عيني ، وأوجعه البرد ، فقال : " ادني مني " . فقلت : إني حائض . فقال : " اكشفي عن فخذيك " . فكشفت فخذي ، فوضع خدّه وصدره على فخذي ، وحنَيت{[3840]} عليه حتى دفئ ونام صلى الله عليه وسلم{[3841]} .
وقال : أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أيوب عن كتاب أبي قلابة : أن مسروقًا ركب إلى عائشة ، فقال : السلام على النبي وعلى أهله{[3842]} . فقالت عائشة : أبو{[3843]}
عائشة ! مرحبًا مرحبًا . فأذنوا له فدخل ، فقال : إني أريد أن أسألك{[3844]} عن شيء ، وأنا أستحي . فقالت : إنما أنا أمّك ، وأنت ابني . فقال : ما للرجل من امرأته وهي حائض ؟ فقالت : له كل شيء إلا فرجها{[3845]} .
ورواه أيضًا عن حميد بن مسعدة ، عن يزيد بن زريع ، عن عيينة بن عبد الرحمن بن جَوْشن ، عن مروان الأصفر ، عن مسروق قال : قلت لعائشة : ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا ؟ قالت : كل شيء إلا الجماع .
وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وعكرمة .
وروى ابن جرير أيضًا ، عن أبي كُرَيْب ، عن ابن أبي زائدة ، عن حجاج ، عن ميمون بن مِهْران ، عن عائشة قالت : له ما فوق الإزار .
قلت : وتحل مضاجعتها ومؤاكلتها بلا خلاف . قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض ، وكان يتكئ في حجري وأنا حائض ، فيقرأ القرآن{[3846]} . وفي الصحيح عنها قالت : كنت أتعرّق العَرْق وأنا حائض ، فأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه ، وأشرب الشراب فأناوله ، فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب{[3847]} .
وقال أبو داود : حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا يحيى ، عن جابر بن صُبْح{[3848]} سمعت خلاسًا الهَجَري قال : سمعت عائشة تقول : كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت في الشعار الواحد ، وإني حائض طامث ، فإن أصابه مني شيء ، غسل مكانه لم يَعْدُه ، وإن أصاب - يعني ثوبه - شيء غسل مكانه لم يَعْدُه ، وصلى فيه{[3849]} .
فأما ما رواه أبو داود : حدثنا سعيد بن عبد الجبار ، حدثنا عبد العزيز - يعني ابن محمد - عن أبي اليمان ، عن أم ذرة ، عن عائشة : أنها قالت : كنتُ إذا حضْتُ نزلت عن المثَال على الحصير ، فلم نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندن منه حتى نطهر{[3850]} - فهو محمول{[3851]} على التنزه والاحتياط .
وقال آخرون : إنما تحل له مباشرتها فيما عدا ما تحت الإزار ، كما ثبت في الصحيحين ، عن ميمونة بنت الحارث الهلالية قالت : كان النبي{[3852]} صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض{[3853]} . وهذا لفظ البخاري . ولهما عن عائشة نحوه{[3854]} .
وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة من حديث العلاء بن الحارث ، عن حزام بن حكيم ، عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري : أنه سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم : ما يَحِل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال : " ما{[3855]} فوق الإزار " {[3856]} .
ولأبي داود أيضًا ، عن معاذ بن جبل قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل لي من امرأتي وهي حائض{[3857]} . قال : " ما فوق الإزار والتعفف عن ذلك أفضل " . وهو رواية عن عائشة - كما تقدم - وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وشريح .
فهذه الأحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق الإزار منها ، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي رحمه الله ، الذي رجحه كثير من العراقيين وغيرهم . ومأخذهم{[3858]} أنه حريم الفرج ، فهو حرام ، لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم الله عز وجل ، الذي أجمع العلماء على تحريمه ، وهو المباشرة في الفرج . ثم من فعل ذلك فقد أثم ، فيستغفر الله ويتوب إليه . وهل يلزمه مع ذلك كفارة أم لا ؟ فيه قولان :
أحدهما : نعم ، لما رواه الإمام أحمد ، وأهل السنن ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض : " يتصدق بدينار ، أو نصف دينار " {[3859]} . وفي لفظ للترمذي : " إذا كان دمًا أحمر فدينار ، وإن كان دمًا أصفر فنصف دينار " . وللإمام أحمد أيضًا ، عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل في الحائض تصاب ، دينارًا فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل ، فنصف دينار .
والقول الثاني : وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي ، وقول الجمهور : أنه لا شيء في ذلك ، بل يستغفر الله عز وجل ، لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث ، فإنه [ قد ]{[3860]} روي مرفوعًا كما تقدم وموقوفًا ، وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث ، فقوله تعالى : { وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } تفسير لقوله : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } ونهي عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجودًا ، ومفهومه حله إذا انقطع ، [ وقد قال به طائفة من السلف . قال القرطبي : وقال مجاهد وعكرمة وطاوس : انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن بأن تتوضأ ]{[3861]} .
وقوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال . وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة ، لقوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } وليس له في ذلك مستند ، لأن هذا أمر بعد الحظر . وفيه أقوال لعلماء الأصول ، منهم من يقول : إنه للوجوب كالمطلق . وهؤلاء يحتاجون إلى جواب ابن حزم ، ومنهم من يقول : إنه للإباحة ، ويجعلون تقدم النهي عليه قرينة صارفة له عن الوجوب ، وفيه نظر . والذي ينهض عليه الدليل أنه يُرَدّ الحكم إلى ما كان عليه الأمر قبل النهي ، فإن كان واجبًا فواجب ، كقوله تعالى :
{ فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 5 ] ، أو مباحًا فمباح ، كقوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } [ المائدة : 2 ] ، { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ } [ الجمعة : 10 ] وعلى هذا القول تجتمع الأدلة ، وقد حكاه الغزالي وغيره ، واختاره بعض أئمة المتأخرين ، وهو الصحيح .
وقد اتفق العلماء{[3862]} على أن المرأة إذا انقطع حيضُها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم ، إن{[3863]} تعذر ذلك عليها بشرطه ، [ إلا يحيى بن بكير من المالكية وهو أحد شيوخ البخاري ، فإنه ذهب إلى إباحة وطء المرأة بمجرد انقطاع دم الحيض ، ومنهم من ينقله عن ابن عبد الحكم أيضا ، وقد حكاه القرطبي عن مجاهد وعكرمة عن طاوس كما تقدم ]{[3864]} . إلا أن أبا حنيفة ، رحمه الله ، يقول{[3865]} فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض ، وهو عشرة أيام عنده : إنها تحل بمجرد الانقطاع ولا تفتقر إلى غسل [ ولا يصح لأقل من ذلك المزيد في حلها من الغسل ويدخل عليها وقت صلاة إلا أن تكون دمثة ، فيدخل بمجرد انقطاعه ]{[3866]} والله أعلم .
وقال ابن عباس : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } أي : من الدم { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } أي : بالماء . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، ومقاتل بن حيان ، والليث بن سعد ، وغيرهم .
وقوله : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : يعني الفَرْج ؛ قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } يقول في الفرج ولا تَعْدوه{[3867]} إلى غيره ، فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى .
وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } أي : أن تعتزلوهن . وفيه دلالة حينئذ على تحريم الوطء في الدبر ، كما سيأتي تقريره قريبًا .
وقال أبو رَزين ، وعكرمة ، والضحاك وغير واحد : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } يعني : طاهرات غير حُيَّض ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } أي : من الذنب وإن تكرر{[3868]} غشْيانه ، { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } أي : المتنزهين عن{[3869]} الأقذار والأذى ، وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض ، أو في غير المأتى .
{ ويسألونك عن المحيض } روي ( أن أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحيض ولا يؤاكلونها ، كفعل اليهود والمجوس ، واستمر ذلك إلى أن سأل أبو الدحداح في نفر من الصحابة عن ذلك فنزلت ) . والمحيض مصدر كالمجيء والمبيت ، ولعله سبحانه وتعالى إنما ذكر يسألونك بغير واو ثلاثا ثم بها ثلاثا ، لأن السؤالات الأول كانت في أوقات متفرقة والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد فلذلك ذكرها بحرف الجمع . { قل هو أذى } أي الحيض شيء مستقذر مؤذ من يقربه نفرة منه . { فاعتزلوا النساء في المحيض } فاجتنبوا مجامعتهم لقوله عليه الصلاة والسلام " إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم " . وهو الاقتصاد بين إفراط اليهود ، وتفريط النصارى فإنهم كانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض . وإنما وصفه بأنه أذى ورتب الحكم عليه بالفاء إشعارا بأنه العلة . { ولا تقربوهن حتى يطهرن } تأكيد للحكم وبيان لغايته ، وهو أن يغتسلن بعد الانقطاع ويدل عليه صريحا قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية ابن عباس { يطهرن } أي يتطهرن بمعنى يغتسلن والتزاما لقوله : { فإذا تطهرن فأتوهن } فإنه يقتضي تأخير جواز الإتيان عن الغسل . وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إذا طهرت لأكثر الحيض جاز قربانها قبل الغسل . { من حيث أمركم الله } أي المأتي الذي أمركم الله به وحلله لكم . { إن الله يحب التوابين } من الذنوب . { ويحب المتطهرين } أي المتنزهين عن الفواحش والأقذار ، كمجامعة الحائض والإتيان في غير المآتي .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ( 222 )
ذكر الطبري عن السدي أن السائل ثابت بن الدحداح( {[2108]} ) ، وقال قتادة وغيره : إنما سألوا لأن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها ، فنزلت هذه الآية ، وقال مجاهد : «كانوا يتجنبون النساء في الحيض ويأتونهن في أدبارهنّ فنزلت الآية في ذلك » ، والمحيض مصدر كالحيض ، ومثله المَقيل من قال يقيل ، قال الراعي : [ الكامل ] .
بُنِيَتْ مَرَافِقُهنَّ فَوْقَ مَزَلَّةٍ . . . لا يستطيعُ بِهَا القُرَادُ مَقِيلا( {[2109]} )
قال الطبري : { المحيض } اسم الحيض ، ومنه قول رؤبة في المعيش : [ الرجز ] .
إليك أشكوا شِدَّةَ المَعِيشِ . . . وَمَرَّ أَعْوامٍ نَتَفْنَ ريشي
و { أذى } لفظ جامع لأشياء تؤذي لأنه دم وقذر ومنتن من سبيل البول ، وهذه عبارة المفسرين للفظة ، وقوله تعالى : { فاعتزلوا } يريد جماعهن( {[2110]} ) بما فسر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يشد الرجل إزار الحائض ثم شأنه بأعلاها( {[2111]} ) ، وهذا أصح ما ذهب إليه في الأمر ، وبه قال ابن عباس وشريح وسعيد بن جبير ومالك وجماعة عظيمة من العلماء ، وروي عن مجاهد أنه قال : «الذي يجب اعتزاله من الحائض الفرج وحده » وروي ذلك عن عائشة والشعبي وعكرمة ، وروي أيضاً عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب أن يعتزل الرجل فراش زوجته إذا حاضت ، وهذا قول شاذ( {[2112]} ) ، وقد وقفت ابن عباس عليه خالته ميمونة رضي الله عنهما ، وقالت له : أرغبة عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ .
وقوله تعالى : { ولا تقربوهن حتى يطهرن } قرأ نافع وابن كثير وأبو كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه «يطْهُرْنَ » بسكون الطاء وضم الهاء ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل عنه «يطَّهَّرْنَ » بتشديد الطاء والهاء وفتحهما ، وفي مصحف أبيّ وعبد الله { حتى يتطهرن } ، وفي مصحف أنس بن مالك «ولا تقربوا النساء في محيضهن ، واعتزلوهن حتى يتطهرن »( {[2113]} ) ، ورجح الطبري قراءة تشديد الطاء وقال : هي بمعنى يغتسلن لإجماع الجميع على أن حراماً على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر ، قال : وإنما الاختلاف في الطهر ما هو ؟ فقال قوم : هو الاغتسال بالماء . وقال قوم : هو وضوء كوضوء الصلاة . وقال قوم : هو غسل الفرج وذلك يحلها لزوجها وإن لم تغتسل من الحيضة . ورجح أبو علي الفارسي قراءة تخفيف الطاء إذ هو ثلاثي مضاد لطمثت ، وهو ثلاثي .
قال القاضي أبو محمد : وكل واحدة من القراءتين تحتمل أن يراد به الاغتسال بالماء وأن يراد بها انقطاع الدم وزوال أذاه ، وما ذهب إليه الطبري من أن قراءة شد الطاء مضمنها الاغتسال وقراءة التخفيف مضمنها انقطاع الدم : أمر غير لازم ، وكذلك ادعاؤه الإجماع ، أما إنه لا خلاف في كراهة الوطء قبل الاغتسال بالماء ، وقال ابن عباس والأوزاعي : من فعله تصدق بنصف دينار ، ومن وطىء في الدم تصدق بدينار ، وأسند أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى لله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال :«يتصدق بدينار أو بنصف دينار » ، وقال ابن عباس : «الدينار في الدم ، والنصف عند انقضائه » ، ووردت في الشدة في هذا الفعل آثار( {[2114]} ) ، وجمهور العلماء على أنه ذنب عظيم يتاب منه ولا كفارة فيه بمال ، وذهب مالك رحمه الله وجمهور العلماء إلى أن الطهر الذي يحل جماع الحائض التي يذهب عنها الدم هو تطهرها بالماء كطهور الجنب ، ولا يجزي من ذلك تيمم ولا غيره ، وقال يحيى بن بكير وابن القرظي( {[2115]} ) : إذا طهرت الحائض وتيممت حيث لا ماء حلّت لزوجها وإن لم تغتسل . وقال مجاهد وعكرمة وطاوس : انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن بأن تتوضأ . و { حتى } غاية لا غير ، و { تقربوهن } يريد بجماع ، وهذا من سد الذرائع( {[2116]} ) ، وقوله تعالى : { فإذا تطهرن } الآية ، القراءة { تَطَهَّرْنَ } بتاء مفتوحة وهاء مشددة ، والخلاف في معناه كما تقدم من التطهير بالماء أو انقطاع الدم . ومجاهد وجماعة من العلماء يقولون هنا : إنه أريد الغسل بالماء ، ولا بد بقرينة الأمر بالإتيان وإن كان قربهن قبل الغسل مباحاً ، لكن لا تقع صيغة الأمر من الله تعالى إلا على الوجه الأكمل ، و { فآتوهن } إباحة( {[2117]} ) ، والمعنى { من حيث أمركم الله } باعتزالهن وهو الفرج أو من السرة إلى الركبتين : أو جميع الجسد ، حسبما تقدم . هذا كله قول واحد ، وقال ابن عباس وأبو رزين : المعنى من قبل الطهر لا من قبل الحيض ، وقاله الضحاك . وقال محمد بن الحنفية : المعنى من قبل الحلال لا من قبل الزنا ، وقيل : المعنى من قبل حال الإباحة ، لا صائمات ولا محرمات ولا غير ذلك . والتوابون : الراجعون ، وعرفه من الشر إلى الخير ، والمتطهرون : قال عطاء وغيره : المعنى بالماء ، وقال مجاهد وغيره : المعنى من الذنوب ، وقال أيضاً مجاهد : المعنى من إتيان النساء في أدبارهن .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : كأنه نظر إلى قوله تعالى حكاية عن قوم لوط { أخرجوهم من قريتكم إنهم ناس يتطهرون }( {[2118]} ) [ الأعراف : 82 ] ، وقرأ طلحة بن مصرف «المطّهّرين » بشد الطاء والهاء .
عطف على جملة : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } [ البقرة : 221 ] ، بمناسبة أن تحريم نكاح المشركات يؤذن بالتنزه عن أحوال المشركين وكان المشركون لا يقربون نساءهم إذا كُنَّ حُيَّضاً وكانوا يفرطون في الابتعاد منهن مدة الحيض فناسب تحديد ما يكثر وقوعه وهو من الأحوال التي يخالف فيها المشركون غيرهم ، ويتساءل المسلمون عن أحق المناهج في شأنها .
روي أن السائل عن هذا هو أبو الدحداح ثابت بن الدحداح الأنصاري ، وروي أن السائل أُسيد بن حُضير ، وروي أنه عباد بن بشر ، فالسؤال حصل في مدة نزول هذه السورة فذكر فيها مع ما سيذكر من الأحكام .
والباعث على السؤال أن أهل يثرب قد امتزجوا باليهود واستنوا بسنتهم في كثير من الأشياء ، وكان اليهود يتباعدون عن الحائض أشد التباعد بحكم التوراة ففي الإصحاح الخامس عشر من سفر اللاويين « إذا كانت امرأة لها سيل دماً في لحمها فسبعة أيام تكون في طمثها وكل من مسها يكون نجساً إلى المساء وكل ما تضطجع عليه يكون نجساً وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجساً إلى المساء وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجساً سبعة أيام » . وذكر القرطبي أن النصارى لا يمتنعون من ذلك ولا أحسب ذلك صحيحاً فليس في الإنجيل ما يدل عليه ، وإن من قبائل العرب من كانت الحائض عندهم مبغوضة فقد كان بنو سليح أهل بلد الحضْر ، وهم من قضاعة نصارى إن حاضت المرأة أخرجوها من المدينة إلى الربض حتى تطهر وفعلوا ذلك بنصرة ابنة الضيزن ملك الحضْر ، فكانت الحال مظنة حيرة المسلمين في هذا الأمر تبعث على السؤال عنه .
والمحيض وهو اسم للدم الذي يسيل من رحم المرأة في أوقات منتظمة والمحيض اسم على زنة مفعل منقول من أسماء المصادر شاذاً عن قياسها لأن قياس المصدر في مثله فتح العين قال الزجاج « يقال حاضت حيضاً ومحاضاً ومحيضاً والمصدر في هذا الباب بابه المفعَل ( بفتح العين ) لكن المفعِل ( بكسر العين ) جيد » ووجه جودته مشابهته مضارعه لأن المضارع بكسر العين وهو مثل المجيء والمبيت ، وعندي أنه لمَّا صار المحيض اسماً للدم السائل من المرأة عُدل به عن قياس أصله من المصدر إلى زنة اسم المكان وجيء به على زنة المكان للدلالة على أنه صار اسماً فخالفوا فيه أوزان الأحداث إشعاراً بالنقل فرقاً بين المنقول منه والمنقول إليه ، ويُقال حيض وهو أصل المصدر : يقال حاضت المرأة إذا سال منها ؛ كما يقال حاض السيل إذا فاض ماؤه ومنه سمي الحوض حوضاً لأنه يسيل ، أبدلوا ياءه واواً وليس منقولاً من اسم المكان ؛ إذ لا مناسبة للنقل منه ، وإنما تكلفه من زعمه مدفوعاً بالمحافظة على قياس اسم المكان معرضاً عما في تصييره اسماً من التوسع في مخالطة قاعدة الاشتقاق .
والمراد من السؤال عن المحيض السؤال عن قربان النساء في المحيض بدلالة الاقتضاء ، وقد علم السائلون ما سألوا عنه والجواب أدل شيء عليه .
والأذى : الضر الذي ليس بفاحش ؛ كما دل عليه الاستثناء في قوله تعالى : { لن يضرونكم إلا أذى } [ آل عمران : 111 ] ، ابتدأ جوابهم عما يصنع الرجل بامرأته الحائض فبين لهم أن الحيض أذى ليكون ما يأتي من النهي عن قربان المرأة الحائض نهياً معلَّلاً فتتلقاه النفوس على بصيرة وتتهيأُ به الأمة للتشريع في أمثاله ، وعبر عنه بأذى إشارة إلى إبطال ما كان من التغليط في شأنه وشأن المرأة الحائض في شريعة التوراة ، وقد أثبت أنه أذى منكَّر ولم يبين جهته فتعين أن الأذى في مخالطة الرجل للحائض وهو أذى للرجل وللمرأة وللولد ، فأما أذى الرجل فأوله القذارة وأيضاً فإن هذا الدم سائل من عضو التناسل للمرأة وهو يشتمل على بييضات دقيقة يكون منها تخلق الأجنة بعد انتهاء الحيض وبعد أن تختلط تلك البييضات بماء الرجل فإذا انغمس في الدم عضو التناسل في الرجل يتسرب إلى قضيبه شيء من ذلك الدم بما فيه فربما احتبس منه جزء في قناة الذكر فاستحال إلى عفونة تحدث أمراضاً معضلة فتحدث بثوراً وقروحاً لأنه دم قد فسد ويرد أي فيه أجزاء حية تفسد في القضيب فساداً مثل موت الحي فتؤول إلى تعفن .
وأما أذى المرأة فلأن عضو التناسل منها حينئذ بصدد التهيؤ إلى إيجاد القوة التناسلية فإذا أزعج كان إزعاجاً في وقت اشتغاله بعمل فدخل عليه بذلك مرض وضعف ، وأما الولد فإن النطفة إذا اختلطت بدم الحيض أخذت البييضات في التخلق قبل إبان صلاحيتها للتخلق النافع الذي وقته بعد الجفاف ، وهذا قد عرفه العرب بالتجربة قال أبو كبير الهذلي :
ومُبَرِّإٍ مِن كُلِّ غُبَّرِ حيضَةٍ *** وفساد مُرضعة ودَاءٍ مُعْضِلِ
( غبر الحيضة جمع غُبرة ويجمع على غبر وهي آخر الشيء ، يريد لم تحمل به أمه في آخر مدة الحيض ) . والأطباء يقولون إن الجنين المتكون في وقت الحيض قد يجىء مجذوماً أو يصاب بالجذام من بعد .
وقوله : { فاعتزلوا النساء في المحيض } تفريع الحكم على العلة ، والاعتزال التباعد بمعزل وهو هنا كناية عن ترك مجامعتهن ، والمجرور بفي : وقت محذوف والتقدير : في زمن المحيض وقد كثرت إنابة المصدر عن ظرف الزمان كما يقولون آتيك طلوع النجم ومَقْدَم الحاج .
والنساء اسم جمع للمرأة لا واحد له من لفظه ، والمراد به هنا الأزواج كما يقتضيه لفظ { اعتزلوا } المخاطب به الرجال ، وإنما يعتزل من كان يخالط .
وإطلاق النساء على الأزواج شائع بالإضافة كثيراً نحو : { يا نساء النبي } [ الأحزاب : 30 ] ، وبدون إضافة مع القرينة كما هنا ، فالمراد اعتزلوا نساءكم أي اعتزلوا ما هو أخص الأحوال بهن وهو المجامعة .
وقوله : { ولا تقربوهن حتى يطهرن } جاء النهي عن قربانهن تأكيداً للأمر باعتزالهن وتبييناً للمراد من الاعتزال وإنه ليس التباعد عن الأزواج بالأبدان كما كان عند اليهود بل هو عدم القِربان ، فكان مقتضى الظاهر أن تكون جملة { ولا تقربوهن } مفصولة بدون عطف ، لأنها مؤكدة لمضمون جملة { فاعتزلوا النساء في المحيض } ومبينة للاعتزال وكلا الأمرين يقتضي الفصل ، ولكن خولف مقتضى الظاهر اهتماماً بهذا الحكم ليكون النهي عن القربان مقصوداً بالذات معطوفاً على التشريعات .
ويكنى عن الجماع بالقربان بكسر القاف مصدر قرِب بكسر الراء ولذلك جيء فيه بالمضارع المفتوح العين الذي هو مضارع قرب كسمِع متعدياً إلى المفعول ؛ فإن الجماع لم يجىء إلا فيه دون قرب بالضم القاصر يقال قرُب منه بمعنى دنا وقربه كذلك واستعماله في المجامعة ، لأن فيها قرباً ولكنهم غلبوا قرب المكسور العين فيها دون قرب المضموم تفرقة في الاستعمال ، كما قالوا بَعُدَ إذا تجافى مكانه وبَعِدَ كمعنى البُعد المعنوي ولذلك يدعو بلا يَبْعَدْ .
وقوله : { حتى يطهرن } غاية لاعتزلوا و { لا تقربوهن } ، والطهر بضم الطاء مصدر معناه النقاء من الوسخ والقذر وفعله طهر بضم الهاء ، وحقيقة الطهر نقاء الذات ، وأطلق في اصطلاح الشرع على النقاء المعنوي وهو طهر الحدث الذي يقدَّر حصوله للمسلم بسبب ، ويُقال تطهر إذا اكتسب الطهارة بفعله حقيقة نحو { يحبون أن يتطهروا } [ التوبة : 108 ] أو مجازاً نحو { إنهم أناس يتطهرون } [ الأعراف : 82 ] ، ويقال اطَّهر بتشديد الطاء وتشديد الهاء وهي صيغة تَطَهَّر وقع فيها إدغام التاء في الطاء قال تعالى : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } [ المائدة : 6 ] وصيغة التفعل في هذه المادة لمجرد المبالغة في حصول معنى الفعل ولذلك كان إطلاق بعضها في موضع بعض استعمالاً فصيحاً .
قرأ الجمهور { حتى يطهرن } بصيغة الفعل المجرَّد ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف { يطَّهَّرْن } بتشديد الطاء والهاء مفتوحتين .
ولما ذُكر أن المحيض أذى عَلِم السامع أن الطهر هنا هو النقاء من ذلك الأذى فإن وصف حائض يقابل بطاهر وقد سميت الأقراء أطهاراً ، وقد يراد بالتطهر الغسل بالماء كقوله تعالى : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } [ التوبة : 108 ] فإن تفسيره الاستنجاء في الخلاء بالماء فإن كان الأول أفاد منع القربان إلى حصول النقاء من دم الحيض بالجفوف وكان قوله تعالى { فإذا تطهرن } بعد ذلك شرطاً ثانياً دالا على لزوم تطهر آخر وهو غسل ذلك الأذى بالماء ، لأن صيغة { تطهر } تدل على طهارة مُعْمَلة ، وإن كان الثاني كان قوله فإذا تطهرن تصريحاً بمفهوم الغاية ليبنى عليه قوله { فأتوهن } ، وعلى الاحتمال الثاني جاء قراءة { حتى يطَّهَّرْن } بتشديد الطاء والهاء فيكون المراد الطهر المكتسب وهو الطهر بالغسل ويتعين على هذه القراءة أن يكون مراداً منه مع معناه لازمُه أيضاً وهو النقاء من الدم ليقع الغسل موقعه بدليل قوله قبله { فاعتزلوا النساء في المحيض } وبذلك كان مآل القراءتين واحداً ، وقد رجح المبرد قراءة حتى يطهرن بالتشديد قال لأن الوجه أن تكون الكلمتان بمعنى واحد يراد بهما جميعاً الغسل وهذا عجيب صدوره منه فإن اختلاف المعنيين إذا لم يحصل منه تضاد أولى لتكون الكلمة الثانية مفيدة شيئاً جديداً .
ورجح الطبري قراءة التشديد قائلاً : « لإجماع الأمة على أنه حرام على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم عنها حتى تطهر » وهو مردود بأن لا حاجة إلى الاستدلال بدليل الإجماع ولا إلى ترجيح القراءة به ، لأن اللفظ كاف في إفادة المنع من قربان الرجل امرأته حتى تطهر بدليل مفهوم الشرط في قوله : { فإذا تطهرن } .
وقد دلت الآية على أن غاية اعتزال النساء في المحيض هي حصول الطهر فإن حملنا الطهر على معناه اللغوي فهو النقاء من الدم ويتعين أن يحمل التطهر في قوله : { فإذا تطهرن } على المعنى الشرعي ، فيحصل من الغاية والشرط اشتراط النقاء والغسل وإلى هذا المعنى ذهب علماء المالكية ونظَّروه بقوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] وإن حمل الطهر في الموضعين على المعنى الشرعي لا سيما على قراءة ( حتى يطَّهَّرْن ) حصل من مفهوم الغاية ومن الشرط المؤكِّد له اشتراط الغسل بالماء وهو يستلزم اشتراط النقاء عادة ، إذ لا فائدة في الغسل قبل ذلك .
وأما اشتراط طهارة الحدث فاختلف فقهاء الإسلام في مجمل الطهر الشرعي هنا فقال قوم هو غسل محل الأذى بالماء فذلك يحل قربانها وهذا الذي تدل عليه الآية ، لأن الطهر الشرعي يطلق على إزالة النجاسة وعلى رفع الحدث ، والحائض اتصفت بالأمرين ، والذي يمنع زوجها من قربانها هو الأذى ولا علاقة للقربان بالحدث فوجب أن يكون المراد غسل ذلك الأذى ، وإن كان الطهران متلازمين بالنسبة للمرأة المسلمة فهما غير متلازمين بالنسبة للكتابية .
وقال الجمهور منهم مالك والشافعي هو غسل الجنابة وكأنهم أخذوا بأكمل أفراد هذا الاسم احتياطاً ، أو رجعوا فيه إلى عمل المسلمات والمظنون بالمسلمات يومئذ أنهن كن لا يتريثن في الغسل الذي يبيح لهن الصلاة فلا دليل في فعلهن على عدم إجزاء ما دُونه ، وذهب مجاهد وطاووس وعكرمة إلى أن الطهر هو وضوء كوضوء الصلاة أي مع الاستنجاء بالماء وهذا شاذ .
وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى التفصيل فقالوا : إن انقطع الدم لأقصى أمد الحيض وهو عشرة أيام عندهم جاز قربانها قبل الاغتسال أي مع غسل المحل خاصة ، وإن انقطع الدم لعادة المرأة دون أقصى الحيض لم يصح أن يقربها زوجها إلا إذا اغتسلت أو مضَى عليها وقتُ صلاة ، وإن انقطع لأَقَلَّ من عادتها لم يحل قربانها ولكنها تغتسل وتصلي احتياطاً ولا يقربها زوجها حتى تكمل مدة عادتها ، وعللوا ذلك بأن انقطاعه لأكثر أمده انقطاع تام لا يخشى بعده رجوعه بخلاف انقطاعه لأقل من ذلك فلزم أن يتقصى أثره بالماء أو بمضي وقت صلاة ، ثم أرادوا أن يجعلوا من هذه الآية دليلاً لهذا التفصيل فقال عبد الحكيم السلكوتي ( حتى يطهرن ) قرىء بالتخفيف والتشديد فتنزل القراءتان منزلة آيتين ، ولما كانت إحداهما معارضة الأخرى من حيث اقتضاء قراءة التخفيف الطهر بمعنى النقاء واقتضاء الأخرى كونه بمعنى الغسل جمع بين القراءتين بإعمال كل في حالة مخصوصة اهـ ، وهذا مدرك ضعيف ، إذ لم يعهد عدَ القراءتين بمنزلة آيتين حتى يثبت التعارض ، سلمنا لكنهما وردتا في وقت واحد فيحمل مطلقهما على مقيدهما بأن نحمل الطهر بمعنى النقاء على أنه مشروط بالغسل ، سلمنا العدول عن هذا التقييد فما هو الدليل الذي خص كل قراءة بحالة من هاتين دون الأخرى أو دون حالات أخَر ، فما هذا إلا صنع باليد ، فإن قلت لِمَ بنَوا دليلهم على تنزيل القراءتين منزلة الآيتين ولم يبنوه مثلنا على وجود ( يطهُرن ) و ( يطَّهَّرْن ) في موضعين من هذه الآية ، قلت كَأَنَّ سببه أن الواقعين في الآية هما جزءا آية فلا يمكن اعتبار التعارض بين جزئي آية بل يحملان على أن أحدهما مفسر للآخر أو مقيد له .
وقوله : { فأتوهن } الأمر هنا للإباحة لا محالة لوقوعه عقب النهي مثل { وإذا حللتم فاصطادوا } [ المائدة : 2 ] عبر بالإتيان هنا وهو شهير في التكني به عن الوطء لبيان أن المراد بالقِربان المنهي عنه هو الذي المعنى الكنائي فقد عبر بالاعتزال ثم قُفِّيَ بالقربان ثم قفي بالإتيان ومع كل تعبير فائدة جديدة وحكم جديد وهذا من إبداع الإيجاز في الإطناب .
وقوله : { من حيث أمركم الله } حيث اسم مكان مبهم مبنيٌ على الضم ملازمٌ الإضافة إلى جملة تحدده لِزوال إبهامها ، وقد أشكل المراد من هذا الظرف على الذين تصدوا لتأويل القرآن وما أرى سبب إشكاله إلا أن المعنى قد اعتاد العرب في التعبير عنه سلوك طريق الكناية والإغماض وكان فهمه موكولاً إلى فطنهم ومعتاد تعبيرهم . فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع أي إلا من حيث أمركم الله بأن تعتزلوهن منه مدة الحيض يعني القبل قال القرطبي ( من ) بمعنى في ونظره بقوله تعالى : { أروني ماذا خلقوا من الأرض } [ الأحقاف : 4 ] وقوله : { وإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } [ الجمعة : 9 ] ، وعن ابن عباس وأبي رزين مسعود بن مالك والسُّدي وقتادة أن المعنى : من الصفة التي أمركم الله وهي الطهر ، فحيث مجاز في الحال أو السبب و ( من ) لابتداء الأسباب فهي بمعنى التعليل .
والذي أراه أن قوله : { من حيث أمركم الله } قد علم السامعون منه أنه أمر من الله كان قد حصل فيما قبل ، وأما ( حيث ) فظرف مكان وقد تستعمل مجازاً في التعليل فيجوز أن المراد بأمر الله أمره الذي تضمنته الغاية ب ( حتى ) في قوله : { ولا تقربوهن حتى يطهرن } لأن غاية النهي تنتهي إلى الإباحة فالأمر هو الإذن ، و ( من ) للابتداء المجازي ، و ( حيث ) مستعملة في التعليل مجازاً تخييليا أي لأن الله أمركم بأن تأتوهن عند انتهاء غاية النهي بالتطهر .
أو المراد بأمر الله أمره الذي به أباح التمتع بالنساء وهو عقد النكاح ، فحرف ( من ) للتعليل والسببية ، و ( حيث ) مستعار للمكان المجازي وهو حالة الإباحة التي قبل النهي كأنهم كانوا محجوزين عن استعمال الإباحة أو حجر عليهم الانتفاع بها ثم أذن لهم باستعمالها فشبهت حالتهم بحالة من حبس عند مكان ثم أطلق سراحه فهو يأتي منه إلى حيث يريد . وعلى هذين المعنيين لا يكون في الآية ما يؤذن بقصد تحديد الإتيان بأن يكون في مكان النسل ، ويعضد هذين المعنيين تذييل الكلام بجملة : { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } وهو ارتفاق بالمخاطبين بأن ذلك المنع كان لمنفعتهم ليكونوا متطهرين ، وأما ذكر التوابين فهو ادماج للتنويه بشأن التوبة عند ذكر ما يدل على امتثال ما أمرهم الله به من اعتزال النساء في المحيض أي إن التوبة أعظم شأناً من التطهر أي إن نية الامتثال أعظم من تحقق مصلحة التطهر لكم ، لأن التوبة تطهر روحاني والتطهر جثماني .
ويجوز أن يكون قوله : { من حيث أمركم الله } على حقيقة ( مِن ) في الابتداء وحقيقة ( حيث ) للمكان والمراد المكان الذي كان به أذى الحيض .
وقد قيل : إن جملة { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } معترضة بين جملة { فإذا تطهرن } وجملة { نساؤكم حرث لكم } [ البقرة : 223 ]