{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } الآية عطاء بن السائب عن سعد بشير عن ابن عباس ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما سألوا النبي عن ثلاث عشرة مسألة حتى [ نزل ذكرهنّ ] في القرآن : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ } { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ } { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي } [ الأعراف : 187 ] { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي } { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ } [ الأنفال : 1 ] { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } [ الإسراء : 85 ] { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ } [ الكهف : 83 ] { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ } [ طه : 105 ] .
قال المفسرون : كانت العرب في الجاهلية إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يساكنوها في بيت ولم يجالسوها على فراش كفعل المجوس واليهود .
فسأل أبو الدحداح ثابت بن الدحداح رسول الله عن ذلك وقال : يا رسول الله كيف نصنع بالنساء إذا حضن ؟
فأنزل الله { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } أي الحيض ، وهو مصدر قولك حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً ، مثل السير والمسير ، والعيش والمعيش ، والكيل والمكيل . وأصل الحيض الانفجار يقال : حاضت الثمرة إذا سال منها شيء كالدم . { قُلْ هُوَ أَذًى } أي قذر ، قاله قتادة والسّدّي ، وقال مجاهد والكلبي : دم ، والأذى ما يعمّ ويكره من شيء { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ } اعلم إنّ الحيض يمنع من تسعة أشياء : من الصلاة جوازاً ووجوباً ومن الصوم جوازاً ثم يلزمها قضاء الصوم ولا يلزمها قضاء الصلاة .
عاصم الأحول عن معادة العدوية أن إمرأة سألت عائشة فقالت : الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة فقالت لها : أحروريّة أنت ؟ فقالت : ليست بحروريّة ولكني أسأل ، فقالت : كان يصيبنا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ، ولا نؤمر بقضاء الصلاة .
عياض عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداهنّ ، فقلن له : وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله ؟ قال : أليس شهادة المرأة على مثل نصف شهادة الرجل فذاك من نقصان عقلها ؟ أوليس إذا حاضت المرأة لم تصلِّ ولم تصمْ ؟ فقلن بلى قال : فذلك من نقصان دينها " .
وتمنع أيضاً من قراءة القرآن وقد رخص فيها مالك بعض الرخصة إذا طالت المدّة احترازاً من نسيان القرآن ، والفقهاء على خلافه ، وتمنع من مسّ المصحف ، ودخول المسجد والاعتكاف فيه ، ومن الطواف بالبيت ومن الاحتساب بالعدة ومن الوطء قال الله تعالى : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ } فلمّا نزلت هذه الآية عمد المسلمون الى النساء الحيّض فأخرجوهنّ من البيوت واعتزلوهنّ فاذا اغتسلنّ ردّوهن الى البيت ، فقدم بعض من أعراب المدينة فشكوا عزل الحيض معهم وقالوا : يا رسول الله إنّ البرد شديد والثياب قليلة فإنْ آثرناهنّ بالثياب حال بنا وأهل البيت برد ، وإن آثرتا بالثياب هلكت الحيض ، وليس كلنا يجد سعة لذلك فيوسع عليهم جميعاً ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّما أُمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن ، ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم ، وقرأ عليهم هذه الآية .
الناصري عن سعيد بن المسّيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من وطئ امرأته وهي حائض فقضى منهما ولد فأصابه جذام فلا يلومنّ إلاّ نفسه ، ومَنِ احتجم يوم السبت والأربعاء فأصابه ضرر واضح فلا يلومنّ إلاّ نفسه " .
وإنْ جامعها أثِمَ ولزمته الكفارة ، وهي ما روى ابن أبي المخارق عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنّ رجلا جامع امرأته وهي حائض قال : إن كان دماً عبيطاً فليتصدّق بدينار ، وإن كان صفرة فنصف دينار " .
ولا بأس باستخدام الحائض ومباشرة بدنها إذا كانت مؤتزرة وبالاستمتاع بها فوق الإزار .
قيل لمسروق : ما يحلّ للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً ؟ قال : كل شيء إلاّ الجماع .
وعن ربيعة بن عبد الرحمن " أنّ عائشة كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعة في ثوب واحد وأنها وثبت وثبة شديدة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما لكِ لعلّك نفستِ يعني الحيضة قالت : نعم ، قال : شدّي عليك إزارك ثم عودي لمضجعك " .
معاذ بن هشام عن أبيه عن يحيى عن أبي سلمة أنّ زينب بنت أبي سلمة حدّثت أن أم سلمة حدّثتها قالت : " بينا أنا مضطجعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة إذ حضت فانسللت فأخذت ثياب حيضتي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنفست ؟ قلت : نعم ، فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة " .
عن يزيدة مولاة ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن ميمونة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار يبلغ إلى أنصاف الفخذين أو الركبتين " .
إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت : " كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ، ونحن جنبان وكنت أُفلي رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد وأنا حائض ، وكان يأمرني إذا كنت حائضاً أن أتّزر ثم يباشرني " .
ثابت بن عبيدة عن القاسم عن عائشة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ناوليني الخمرة فقالت : إني حائض فقال : إنّ حيضتك ليست في يدك " .
وعن شريح قال : قيل لعائشة : " هل تأكل المرأة مع زوجها وهي طامث ؟ قالت : نعم ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوني فآكل معه وأنا حائض ، وكان يأخذ العرق فيقسم عليّ فيه فأعُرّق منه ، ثم أضعه فيأخذ فيعرّق منه ويضع فمه حيث وضعت فمي من العرق ويدعو بالشراب فيقسم عليّ قبله أن أشرب منه فآخذه وأشرب منه ، ثم أضعه فيأخذه ويشرب منه ويضع فمه حيث وضعت فمي من القدح " .
فدلّت هذه الأخبار على أنّ المراد بالاعتزال عن الحيض جماعهنّ ، وذلك أن المجوس واليهود كانوا يجتنبون الحيّض في كل شيء ، وكان النصارى يجامعوهن ولا يبالون بالحيض ، فأنزل الله تعالى بالاقتصاد بين هذين الأمرين ، وخير الأمور أوسطها .
ثابت عن أنس قال : " أنزل الله عزّ وجلّ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : افعلوا كل شيء إلاّ الجماع ، فبلغ ذلك اليهود فقالوا : ما يريد هذا الرجل ، لم يدعْ من أمرنا شيئاً إلاّ خالفنا فيه ، فجاء أسد بن حصين وعباد بن شبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله إنّ اليهود قالت كذا وكذا ، أفلا نجامعهنّ ؟ فتغيّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فظنّا أن قد وجد عليهما ، فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أن لم يجد عليهما " . { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ } يعني لا تجامعوهنّ ، { حَتَّى يَطْهُرْنَ } قرأ ابن محيص والأعمش وعاصم وخمرويه والكسائي يطّهّرن بتشديد الطاء والهاء ومعناه يغتسلن ، دلّ عليه قراءة عبد الله حتى يتطهرنّ بالتاء على الأصل ، وقرأ الباقون { يَطْهُرْنَ } مخففاً ومعناه { حَتَّى يَطْهُرْنَ } من حيضهنّ وينقطع الدم . واختلف الفقهاء في الحائض متى يحلّ وطؤها ، فقال أبو حنيفة وصاحباه : إذا حاضت المرأة بعشرة أيام حلّ وطؤها دون أن تغتسل ، فإن طهرت لما دون العشرة لم يحلّ وطؤها إلاّ بإحدى ثلاث : قلت أن تغتسل أو يمضي بها أقرب وقت الصلاة ، فيحكم لها بذلك حكم الطاهرات في وجوب الصلاة في زمنها أو تيمماً عند عدم الماء .
مجاهد وطاوس وعطاء : إذا طهرت الحائض من الدم وأخذ زوجها شبق ، فإن غسلت فرجها وتوضأت ثم أتاها جاز .
وقال الشافعي : لا يحلّ وطء الحائض إلاّ يحين انقطاع الدم والاغتسال ، وهو قول سالم ابن عبد الله وسليمان بن يسار والقاسم بن محمد وابن شهاب والليث بن سعد وزفر وقال الحسن البصري : إذا وطئ الرجل امرأته بعد إنقطاع الدم قبل أن تغتسل فعليه من الكفارة مثل ما على من يطأ الحائض ، فمن قرأ { حَتَّى يَطّهُرْنَ } بالتشديد فهو حجّة للمبيحين ، والدليل على أنّ وطأها لا يجوز ما لم تغتسل أن الله عزّوجل علّق جواز وطئها بشرطين فلا تحل قبل حصولهما ، وهما : قوله عزّوجل { حَتَّى يَطْهُرْنَ } وقوله { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } أي اغتسلن دليله قوله { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } ولا يجهد الانسان على ما لا صنع له فيه ، والاغتسال فعلها وانقطاع الدم ليس من فعلها ، ويدلّ عليه أيضاً قوله في النساء والمائدة { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ } [ المائدة : 6 ] وأطّهر وتطّهر واحد وهو الاغتسال { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } أي من حيث أمركم أن تعتزلوهن منه وهو الفرج ، قاله مجاهد وإبراهيم وقتادة وعكرمة .
الوالبي عن ابن عباس يقول : وطأهنّ في الفرج ، ولا تعدوه إلى غيره فمن فعل شيئاً من ذلك فقد اعتدى .
الربيع بن عبيد : نهيتم عنه واتقوا الأدبار ، وإنما قال : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } لأنّ النهي أيضاً أمر بترك المنهي عنه .
وقال قوم : قوله : { فَأْتُوهُنَّ } من الوجه الذي أمركم الله أن تأتوهنّ وهو الطهر ، فكأنه قال : فأتوهنّ من قبل طهرهنّ لا من قبل حيضهنّ ، وهو قول ابن رزين والضحّاك ورواية عطية عن ابن عباس .
ابن الحنفية : فأتوهنّ من قبل الحلال دون الفجور .
ابن كيسان : لا تأتوهنّ صائمات ولا معتكفات ولا محرمات ، وأتوهنّ ، وأقربوهنّ وغشيانهنّ لكم حلال .
الفرّاء : مثل قولك : أتيت الارض من مأتاه أي من الوجه الذي يؤتى منه .
الواقدي معناه { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ } وهو الفرج ، نظيره في سورة الملائكة والأحقاف { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ } [ الأحقاف : 4 ] أي في الأرض ، وقوله { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ } [ الجمعة : 9 ] أي في يوم الجمعة . { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } قال مجاهد عن ابن رزين والكلبي { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } من الذنوب { الْمُتَطَهِّرِينَ } من أدبار النساء أن لا يأتوها .
وقال : من أتى المرأة في دبرها فليس من المتطّهرين ، فإن دبر المرأة مثله من الرجل .
مقاتل بن حيّان { التَّوَّابِينَ } من الذنوب { الْمُتَطَهِّرِينَ } من الشرك والجهل .
كنت عند أبي العالية يوماً فتوضأ وضوءاً حسناً فقلت { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } فقال : الطهور من الماء حسن ولكنهم المتطهرون من الذنوب .
سعيد بن جبير { التَّوَّابِينَ } من الشرك { الْمُتَطَهِّرِينَ } من الذنوب .
وعن أبي العالية أيضاً { التَّوَّابِينَ } من الكفر { الْمُتَطَهِّرِينَ } بالايمان .
ابن جريج عن مجاهد { التَّوَّابِينَ } من الذنوب لا يعودون لها { الْمُتَطَهِّرِينَ } هنا لم يصبوها .
قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم بن محمد بن حبيب يقول : سألت أبا الحسن علي بن عبد الرحيم القنّاد عن هذه الآية قال : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } من الكبائر { الْمُتَطَهِّرِينَ } من الصغائر . { التَّوَّابِينَ } من الأفعال { الْمُتَطَهِّرِينَ } من الأقوال .
التوابين من الأقوال والأفعال والمتطهرين من العقود والإضمار . التوابين من الآثام والمتطهرين من الاجرام . التوابين من الجرائر ، والمتطهرين من خبث السرائر . التوابين من الذنوب والمتطهرين من العيوب .
والتواب الذي كلما أذنب تاب ، نظيره قوله { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً } [ الإسراء : 25 ] .
محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مرّ رجل ممن كان قبلكم في بني إسرائيل بجمجمة فنظر اليها فقال : أي ربّ أنت أنت ، وأنا أنا ، أنت العوّاد بالمغفرة ، وأنا العوّاد بالذنوب ، ثم خرّ ساجداً فقيل له : ارفع رأسك فأنا العوّاد بالمغفرة ، وأنت العوّاد بالذنوب فرفع رأسه فغفر له " .