السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡمَحِيضِۖ قُلۡ هُوَ أَذٗى فَٱعۡتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلۡمَحِيضِ وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ فَإِذَا تَطَهَّرۡنَ فَأۡتُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّـٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ} (222)

{ ويسألونك } يا محمد { عن المحيض } أي : الحيض أو مكانه ماذا يفعل بالنساء فيه .

روي أن أهل الجاهلية كانوا لم يساكنوا الحيض ولم يؤاكلوهنّ كفعل اليهود ، فإنّ اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ، ولم يؤاكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجامعوها في البيت ، واستمرّ ذلك إلى أن سأل أبو الدحداح في نفر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال الله تعالى : { قل } لهم { هو } أي : الحيض أو مكانه { أذى } قذر أو محله قذر .

فإن قيل : لماذا ذكر الله تعالى يسألونك بغير واو ثلاثاً ثم بها ثلاثاً ؟ أجيب : بأنّ السؤالات الأول كانت في أوقات متفرّقة ، والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد ، فلذلك ذكرها بحرف الجمع ، وهو واو العطف ، وهي الجمع في الحكم لا الزمان ، واعترض هذا الجواب بأنه كان يجب على هذا أن تدخل الواو على اثنين من الثلاثة الأخيرة ؛ لأنّ العطف يكون في الثانية والثالثة منها ، وأجيب : بأنهم لما سألوا عما كانوا ينفقون ، فأجيبوا بمصرف النفقة أعادوا سؤالهم بالواو ما ينفقون ، فأجيبوا : بالعفو ، ولما كان السؤال الثاني عن مخالطة اليتامى في النفقة ، وهو مناسب لما قبله عطف بالواو ، ولما كان الثالث سؤالاً عن اعتزال الحيض كما تعتزل اليتامى فناسب ما قبله في الاعتزال عطف بالواو ، ولا كذلك الثلاثة الأول ؛ إذ لا تعلق بينها .

{ فاعتزلوا النساء } أي : اتركوا وطأهنّ { في المحيض } أي : وقته أو مكانه ؛ لأنّ ذلك هو الاقتصاد بين إفراط اليهود ، وتفريط النصارى فإنهم كانوا يجامعونهنّ ولا يبالون بالحيض ، وما استدلّ به البيضاوي من قوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن ، ولم نأمركم بإخراجهنّ من البيوت كفعل الأعاجم ) قال شيخنا القاضي زكريا : لم أره بهذا اللفظ في بعض التفاسير لغيره .

وقوله تعالى : { ولا تقربوهنّ } أي : بالجماع { حتى يطهرن } تأكيد للحكم وبيان لغايته ، وهو أن يغتسلن بعد الانقطاع ، ويدل عليه صريحاً قراءة شعبة وحمزة والكسائي بتشديد الطاء والهاء أي : يتطهرن بمعنى يغتسلن والباقون بسكون الطاء وضمّ الهاء مخففة والتزاماً .

قوله تعالى : { فإذا تطهرن فأتوهنّ } أي : للجماع فإنه يقتضي تأخر جواز الإتيان عن الغسل ، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : إن طهرت لأكثر الحيض وهو عنده عشرة أيام جاز قربانها قبل الغسل .

{ من حيث أمركم الله } بتجنبه في الحيض وهو القبل ولا تتعدّوه إلى غيره . أمّا الملامسة فيما عدا ما بين السرّة والركبة والمضاجعة معها قبل الغسل ، ولو قبل انقطاع الحيض فجائز ، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : ( كان يأمرني صلى الله عليه وسلم فأتزر فيباشرني وأنا حائض وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا حائض ) .

وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت : ( حضت وأنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الخميلة فانسللت فخرجت منها فأخذت ثياب حيضتي ، فلبستها فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفست ؟ قلت : نعم ، فدعاني فأدخلني معه في الخميلة ) { إن الله يحب } أي : يثيب ويكرم { التوّابين } من الذنوب { ويحب المتطهرين } أي : المتنزهين عن الفواحش والأقذار ، كمجامعة الحائض والإتيان في غير القبل .