تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡمَحِيضِۖ قُلۡ هُوَ أَذٗى فَٱعۡتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلۡمَحِيضِ وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ فَإِذَا تَطَهَّرۡنَ فَأۡتُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّـٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ} (222)

أحكام الحيض

{ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين( 222 ) نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملقوه وبشر المؤمنين( 223 ) }

المفردات :

الحيض : لغة السيلان يقال حاض السيل وفاض . وشرعا دم ذو أوصاف خاصة يخرج من الرحم في مدة مخصوصة استعدادا للحمل حين المعاشرة الزوجية إبقاء للنوع البشري .

أذى : ضرر .

اعتزلوا النساء في المحيض : اتركوا غشيانهن في هذه المدة .

الطهر : انقطاع دم الحيض .

التطهير : الاغتسال بالماء إن وجد أم التيمم ،

221

222

التفسير :

{ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن } .

سبب نزول :

أخرج مسلم وأحمد وأبو داود وغيرهم عن أنس رضي الله عنه " أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيت ، أي لم يكونوا معهن في البيوت فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله هذه الآية . فقال صلى الله عليه وسلم : " جامعوهن في البيوت ، واصنعوا كل شيء إلا النكاح " ( 190 ) أي إلا الوطء لا يحل أثنا المحيض .

وكان اليهود يعتقدون أن الحائض نجسة وكل من مسها يكون نجسا إلى المساء ، وكذلك يتنجس كل ما تلمسه أو تلبسه ، فمن مس فراشها لا يطهر إلا بغسل ثيابه واستحمامه ، ومع هذا يضل نجسا إلى المساء وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام ، وكل فراش يضطجع عليه يكون نجسا إلى نحو ذلك من الأحكام ، والرجل الذي يسيل منه دم نحو هذه الأحكام .

وكان العرب في الجاهلية لا يساكنون الحيض ، ولا يؤاكلونهن كما كانت تفعل اليهود والمجوس .

وكانت النصارى تتهاون في أمور الحيض ، وكانوا مخالطين للعرب في كثير من المواطن ، فكان هذا الاختلاف مدعاة للسؤال عن حكم المحيض في هذه الشريعة( 196 ) .

والمعنى : يسألك المؤمن عن دم النساء الذي يأتيهن شهريا وعن الأحكام المترتبة على وجوده قال لهم : هو أدى إذ هو ضار بصحة الأجسام ، فرائحته يتأذى منها من يشمها ، وهو في ذلته شيء متقذر تعافه النفوس فتنفر منه الطباع فعليكم أيها المؤمنون أن تمتنعوا عن مباشرة النساء في زمن حيضهن ولا تجامعوهن حتى يطهرن من ذلك .

{ فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله . . . }

فإذا تطهرن من المحيض فجامعوهن في المكان الذي أمركم الله بتجنبه في الحيض وهو القبل ولا تتعدوه إلى غيره .

" وفيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال ، وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة لقوله : { فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } ، وليس له في ذلك مستند ، لأن هذا أمر بعد الحظر ، وفيه أقوال لعلماء الأصول ، منهم من يقول : إنه للوجوب كالمطلق ، و هؤلاء يحتاجون إلى جواب ابن حزم . ومنهم من يقول : إنه للإباحة ويجعلون تقدم النهي قرينة صارفة له عن الوجوب ، وفيه نظر .

والذي ينهض عليه الدليل أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه الأمر قبل النهي ، فإن كان واجبا فواجب قوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين }( التوبة : 5 ) ، أو مباحا فمباح كقوله : { وإذا حللتم فاصطادوا }( المائدة : 2 ) وكقوله : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض }( الجمعة : 10 ) .

وعلى هذا القول تجتمع الأدلة وهو الصحيح( 197 ) .

وقد اتفق العلماء على أم المرأة إذا نقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم إذا تعذر عليها بشرطه .

إلا أن أبا حنيفة يقول فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض وهو عشرة أيام عنده أنها تحل بمجرد الانقطاع ولا تفتقر إلى غسل( 198 ) .

وإذا انقطع دمها لأقل الحيض لم تحل حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت الصلاة كامل فتصبح الصلاة دينا في ذمتها .

وسبب الخلاف أن الله عز وجل قال : { ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن } . الأولى بالتخفيف والثانية بالتشديد . وطهر يستعمل فيما لا كسب فيه للإنسان وهو انقطاع الدم ، وأما تطهر فيستعمل فيما يكتسبه الإنسان وهو الاغتسال بالماء ، فحمل أبو حنيفة : { ولا تقربوهن حتى يتطهرن } . على انقطاع دم الحيض وقوله : { فإذا تطهرن } : على معنى فإذا انقطع دم الحيض ، فاستعمل المشدد بمعنى المخفف .

وقال الجمهور بالعكس ، إنه استعمل المخفف بمعنى المشدد والمراد ولا تقربوهن حتى يغتسلن بالماء ، فإذا اغتسلن فأتوهن ، بدليل قراءة بعضهم : { حتى يطهرن } . بالتشديد ، وبدليل قوله : { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } .

أو يستعمل كل واحدة في معناها ، ويؤخذ من مجموع الكلامين أن الله علق الحل على شيئين : انقطاع الدم والتطهر بالماء ، كقوله : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } . ( النساء : 6 ) فعلق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين : أحدهما بلوغ النكاح وثانيهما إبناس الرشد .

ودافع الحنيفة عن رأيهم بكلام أقرب إلى الفلسفة والتمحل( 199 ) .

والآية في بساطتها وفيما يظهر منها لأول وهلة متفقة مع رأي الجمهور وهو وجوب التطهر من الحيض قبل المخالطة بين الرجل والمرأة وذلك أقرب إلى سنن الفطرة وإلى النظافة العامة ، وأدعى إلى وجوب الألفة والمودة بين الرجل والمرأة .

قال ابن عباس : { حتى يطهرن } . أي من الدم { فإذا تطهرن } أي بالماء . وكذلك قال مجاهد وعكرمة والحسن وغيرهم( 200 ) .

{ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين }

إن الله يحب عبادة الذين يكثرون التوبة والإنابة والرجوع إلى الله والذين يصونون أنفسهم وينزهونها عن المعاصي والآثام ، ويرضى عنهم في الدنيا والآخرة .

قال القرطبي : " " التوابون " من الذنوب والشرك . و " المتطهرون " أي بالماء من الجنابة والأحداث .

وقال مجاهد : " التوابون " من إتيان النساء في أدبارهن و " المتطهرون " الذين لم يذنبوا .

فإن قيل كيف قدم بالذكر الذي أذنب على من لم يذنب قيل قدمه لئلا يقنط التائب من الرحمة ولا يعجب المتطهر بنفسه .

وقد أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى حائضا فقد كفر بما أنزل عل محمد صلى الله عليه وسلم " ( 201 ) . والحديث للترهيب والمقصود أنه فعل ما يفعله الكافرون .

بدليل ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أصبت امرأتي وهي حائض ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتنق نسمة( 202 ) .

قال القرطبي : " واختلفوا في الذي يأتي امرأته وهي حائض ماذا عليه ؟ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة : يستغفر الله ولا شيء عليه . وقيل : يتصدق بدينار إذا كان دم الحيض احمر أي في أول أيام الحيض ويتصدق بنصف دينار إذا كان دم الحيض اصفر أي في آخر أيام الحيض ، كما دلت على ذلك الآثار( 203 ) .

/خ223