{ 11 } { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
وهذا من لطفه وإحسانه بعباده ، أنه لو عجل لهم الشر إذا أتوا بأسبابه ، وبادرهم بالعقوبة على ذلك ، كما يعجل لهم الخير إذا أتوا بأسبابه { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } أي : لمحقتهم العقوبة ، ولكنه تعالى يمهلهم ولا يهملهم ، ويعفو عن كثير من حقوقه ، فلو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة .
ويدخل في هذا ، أن العبد إذا غضب على أولاده أو أهله أو ماله ، ربما دعا عليهم دعوة لو قبلت منه لهلكوا ، ولأضره ذلك غاية الضرر ، ولكنه تعالى حليم حكيم .
وقوله : { فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } أي : لا يؤمنون بالآخرة ، فلذلك لا يستعدون لها ، ولا يعلمون ما ينجيهم من عذاب الله ، { فِي طُغْيَانِهِمْ } أي : باطلهم ، الذي جاوزوا به الحق والحد .
{ يَعْمَهُونَ } يترددون حائرين ، لا يهتدون السبيل ، ولا يوفقون لأقوم دليل ، وذلك عقوبة لهم {[392]} ، على ظلمهم ، وكفرهم بآيات الله .
بعد ذلك يواجه السياق القرآني تحديهم لرسول اللّه [ ص ] وطلبهم تعجيل العذاب الذي يتوعدهم به ؛ ببيان أن تأجيله إلى أجل مسمى هو حكمة من اللّه ورحمة . ويرسم لهم مشهدهم حين يصيبهم الضر فعلا ، فتتعرى فطرتهم من الركام وتتجه إلى خالقها . فإذا ارتفع الضر عاد المسرفون إلى ما كانوا فيه من غفلة . ويذكرهم مصارع الغابرين الذين استخلفوا هم من بعدهم ؛ ويلوح لهم بمثل هذا المصير ؛ ويبين لهم أن الحياة الدنيا إنما هي للابتلاء وبعدها الجزاء . .
( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ، فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون . وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ، كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون . ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا ، وجاءتهم رسلهم بالبينات ، وما كانوا ليؤمنوا ، كذلك نجزي القوم المجرمين . ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم ، لننظر كيف تعملون ) .
ولقد كان المشركون العرب يتحدون رسول الله [ ص ] أن يعجل لهم العذاب . . ومما حكاه الله تعالى عنهم في هذه السورة : ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) . وورد في غيرها : ( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات )كما حكى القرآن الكريم قولهم : ( وإذ قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) . .
وكل هذا يصور حالة العناد التي كانوا يواجهون بها هدى الله . . وقد شاءت حكمته أن يؤجلهم ، فلا يوقع بهم عذاب الاستئصال والهلاك كما أوقعهم بالمكذبين قبلهم . فقد علم الله أن كثرتهم ستدخل في هذا الدين ، فيقوم عليها ، وينطلق في الأرض بها . وكان ذلك بعد فتح مكة ، مما كانوا يجهلونه وهم يتحدون في جهالة !
غير عالمين بما يريده الله بهم من الخير الحقيقي . لا الخير الذي يستعجلونه استعجالهم بالشر !
والله سبحانه يقول لهم في الآية الأولى : إنه لو عجل لهم بالشر الذي يتحدون باستعجاله ، استعجالهم بالخير الذي يطلبونه . . لو استجاب الله لهم في استعجالهم كله لقضى عليهم ، وعجل بأجلهم ! ولكنه يستبقيهم لما أجلهم له . . ثم يحذرهم من هذا الإمهال أن يغفلوا عما وراءه . فالذين لا يرجون لقاءه سيظلون في عمايتهم يتخبطون ، حتى يأتيهم الأجل المرسوم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ للنّاسِ أجابة دعائهم في الشّرّ ، وذلك فيما عليهم مضرّة في نفس أو مال اسْتِعْجالَهُمْ بالخَيْرِ يقول : كاستعجاله لهم في الخير بالإجابة إذا دعوه به . لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أجَلُهُمْ يقول : لهلكوا وعجل لهم الموت ، وهو الأجل . وعني بقوله : لَقُضِيَ لفرغ إليهم من أجلهم وتبدّى لهم ، كما قال أبو ذؤيب :
وَعَلَيْهِما مَسْرُودَتانِ قَضَاهما *** دَاودُ أوْ صَنَعُ السّوَابِغِ تُبّعُ
فَنَذَرُ الّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا يقول : فندع الذين لا يخافون عقابنا ولا يوقنون بالبعث ولا بالنشور ، فِي طُغْيانِهِمْ يقول : في تمرّدهم وعتوّهم ، يَعْمَهُونَ يعني يتردّدون . وإنما أخبر جلّ ثناؤه عن هؤلاء الكفرة بالبعث بما أخبر به عنهم من طغيانهم وترددهم فيه عند تعجيله إجابة دعائهم في الشرّ لو استجاب لهم أن ذلك كان يدعوهم إلى التقرّب إلى الوثن الذي يشرك به أحدهم ، أو يضيف ذلك إلى أنه من فعله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ للنّاسِ الشّرّ اسْتِعْجَالهُمْ بالخَيْرِ قال : قول الإنسان إذا غضب لولده وماله : لا بارك الله فيه ولعنه
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ للنّاسِ الشّرّ اسْتِعْجَالهُمْ بالخَيْرِ قال : قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه : اللهمّ لا تبارك فيه والعنه فلو يعجل الله الاستجابة لهم في ذلك كما يستجاب في الخير لأهلكهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ للنّاسِ الشّرّ اسْتِعْجَالهُمْ بالخَيْرِ قال : قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه : اللهمّ لا تبارك فيه والعنه : لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أجَلُهُمْ قال : لأهلك من دعا عليه ولأماته .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ للنّاسِ الشّرّ اسْتِعْجَالهُمْ بالخَيْرِ قال : قول الرجل لولده إذا غضب عليه أو ماله : اللهمّ لا تبارك فيه والعنه قال الله : لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أجَلُهُمْ قال : لأهلك من دعا عليه ولأماته . قال : فَنَذَرُ الّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا قال : يقول : لا نهلك أهل الشرك ، ولكن نذرهم في طغيانهم يعمهون .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ للنّاسِ الشّرّ اسْتِعْجَالهُمْ بالخَيْرِ قال : هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أجَلُهُمْ قال : لأهلكناهم ، وقرأ : ما تَرَكَ على ظَهْرِها مِنْ دَابّةِ قال : يهلكهم كلهم .
ونصب قوله اسْتِعْجالَهُمْ بوقوع يعجل عليه ، كقول القائل : قمت اليوم قيامك ، بمعنى قمت كقيامك ، وليس بمصدر من يعجل ، لأنه لو كان مصدرا لم يحسن دخول الكاف ، أعني كاف التشبيه فيه .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أجَلُهُمْ فقرأ ذلك عامّة قرّاء الحجاز والعراق : لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أجَلُهُمْ على وجه ما لم يسمّ فاعله بضم القاف من «قُضي » ورفع «الأجل » . وقرأ عامة أهل الشأم : «لَقَضَي إلَيْهِمْ أجَلُهُمْ » بمعنى : لقضى الله إليهم أجلهم . وهما قراءتان متفقتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، غير أن أقرؤه على وجه ما لم يسمّ فاعله ، لأن عليه أكثر القرّاء .
هذه الآية قال مجاهد نزلت في دعاء الرجل على نفسه أو ماله أو ولده ونحو هذا ، فأخبر الله تعالى أنه لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم ، ثم حذف بعد ذلك من القول جملة يتضمنها الظاهر ، تقديرها ولا يفعل ذلك ولكن يذر الذين لا يرجون فاقتضب القول وتوصّل إلى هذا المعنى بقوله { فنذر الذين لا يرجون لقاءنا } فتأمل هذا التقدير تجده صحيحاً ، و { استعجالهم } نصب على المصدر ، والتقدير مثل استعجالهم ، وقيل : التقدير تعجيلاً مثل استعجالهم ، وهذا قريب من الأول ، وقيل إن هذه الآية نزلت في قوله { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء }{[6035]} وقيل نزلت في قوله { آتنا بما تعدنا }{[6036]} وما جرى مجراه ، وقرأ جمهور القراء «لقُضي » على بناء الفعل للفاعل ورفع «الأجلُ » وقرأ ابن عامر وحده{[6037]} وعوف وعيسى بن عمر ويعقوب ، «لقضى » على بناء الفعل للفاعل ونصب «الأجلَ » ، وقرأ الأعمش : «لقضينا » ، و «الأجل » في هذا الموضع أجل الموت ، ومعنى قضى في هذه الآية أكمل وفرغ ، ومنه قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]
وعليهما مسرودتان قضاهما*** داودُ أوْ صَنَعُ السوابغِ تبع{[6038]}
وأنشد أبو علي في هذا المعنى : [ الطويل ]
قضيت أموراً ثم غادرت بعدها*** فوائح في أكمامها لم تفتق{[6039]}
وتعدّى «قضى » في هذه الآية ب «إلى » لما كان بمعنى فرغ ، وفرغ يتعدى بإلى ويتعدى باللام ، فمن ذلك قول جرير :
ألانَ فقد فرغت إلى نُمَير*** فصرت على جماعتها عذابا{[6040]}
ومن الآخر قوله عز وجل { سنفرغ لكم أيه الثقلان }{[6041]} وقرأ الأعمش{[6042]} : «فنذر الذين لا يرجون لقاءنا » ، و { يرجون } في هذا الموضع على بابها والمراد الذين لا يؤمنون بالبعث فهم لا يرجون لقاء الله ، والرجاء مقترن أبداً بخوف ، «والطغيان » الغلو في الأمر وتجاوز الحد ، و «العمه » الخبط في ضلال ، فهذه الآية نزلت ذامة لخلق ذميم هو في الناس ، يدعون في الخير فيريدون تعجيل الإجابة فيحملهم أحياناً سوء الخلق على الدعاء في الشر ، فلو عجل لهم لهلكوا .