20- إن هذا البرق الشديد يكاد يخطف منهم أبصارهم لشدته ، وهو يضيء لهم الطريق حيناً فيسيرون خطوات مستعينين بضوئه ، فإذا انقطع البرق واشتد الظلام يقفون متحيرين ضالين ، وهؤلاء المنافقون تلوح لهم الدلائل والآيات فتبهرهم أضواؤها فيهمون أن يهتدوا ، ولكنهم بعد قليل يعودون إلى الكفر والنفاق . إن الله واسع القدرة إذا أراد شيئاً فعله ، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء .
{ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ } البرق في تلك الظلمات { مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } أي : وقفوا .
فهكذا حال{[60]} المنافقين ، إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ، جعلوا أصابعهم في آذانهم ، وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده ووعيده ، فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده ، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم ، ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد ، ويجعل{[61]} أصابعه في أذنيه{[62]} خشية الموت ، فهذا تمكن له{[63]} السلامة . وأما المنافقون فأنى لهم السلامة ، وهو تعالى محيط بهم ، قدرة وعلما فلا يفوتونه ولا يعجزونه ، بل يحفظ عليهم أعمالهم ، ويجازيهم عليها أتم الجزاء .
ولما كانوا مبتلين بالصمم ، والبكم ، والعمى المعنوي ، ومسدودة عليهم طرق الإيمان ، قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } أي : الحسية ، ففيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة الدنيوية ، ليحذروا ، فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم ، { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فلا يعجزه شيء ، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ولا معارض .
وفي هذه الآية وما أشبهها ، رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة الله تعالى ، لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
ومثل آخر يصور حالهم ويرسم ما في نفوسهم من اضطراب وحيرة وقلق ومخافة :
( أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت . والله محيط بالكافرين . يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا ، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم . إن الله على كل شيء قدير ) . .
إنه مشهد عجيب ، حافل بالحركة ، مشوب بالاضطراب . فيه تيه وضلال ، وفيه هول ورعب ، وفيه فزع وحيرة ، وفيه أضواء وأصداء . . صيب من السماء هاطل غزير ( فيه ظلمات ورعد وبرق ) . . ( كلما أضاء لهم مشوا فيه ) . . ( وإذا أظلم عليهم قاموا ) . . أي وقفوا حائرين لا يدرون أين يذهبون . وهم مفزعون : ( يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ) .
إن الحركة التي تغمر المشهد كله : من الصيب الهاطل ، إلى الظلمات والرعد والبرق ، إلى الحائرين المفزعين فيه ، إلى الخطوات المروعة الوجلة ، التي تقف عندما يخيم الظلام . . إن هذه الحركة في المشهد لترسم - عن طريق التأثر الإيحائي - حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون . . بين لقائهم للمؤمنين ، وعودتهم للشياطين . بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة . بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام . . فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ؛ ويجسم صورة شعورية . وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
قال أبو جعفر : وإنما خص جل ذكره السمع والأبصار بأنه لو شاء أذهبها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم للذي جرى من ذكرها في الاَيتين ، أعني قوله : يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ وقوله : يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ كُلّما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ فجرى ذكرها في الاَيتين على وجه المثل . ثم عقب جل ثناؤه ذكر ذلك بأنه لو شاء أذهبه من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم وكفرهم ، وعيدا من الله لهم ، كما توعدهم في الآية التي قبلها بقوله : وَاللّهُ مُحِيطٌ بالكافرِينَ واصفا بذلك جل ذكره نفسه أنه المقتدر عليهم وعلى جمعهم ، لإحلال سخطه بهم ، وإنزال نقمته عليهم ، ومحذرهم بذلك سطوته ، ومخوّفهم به عقوبته ، ليتقوا بأسه ، ويسارعوا إليه بالتوبة . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهمْ وأبْصَارِهِمْ لما تركوا من الحق بعد معرفته .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : ثم قال يعني قال الله في أسماعهم يعني أسماع المنافقين وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ .
قال أبو جعفر : وإنما معنى قوله : لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ لأذهب سمعهم وأبصارهم ، ولكن العرب إذا أدخلوا الباء في مثل ذلك قالوا : ذهبت ببصره ، وإذا حذفوا الباء قالوا : أذهبت بصره ، كما قال جل ثناؤه : آتنا غَدَاءَنَا ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل : ائتنا بغدائنا .
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ فوحد ، وقال : وأبْصَارِهِمْ فجمع ؟ وقد علمت أن الخبر في السمع خبر عن سمع جماعة ، كما الخبر في الأبصار خبر عن أبصار جماعة ؟ قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعض نحويي الكوفي : وحد لسمع لأنه عنى به المصدر وقصد به الخرق ، وجمع الأبصار لأنه عنى به الأعين . وكان بعض نحويي البصرة يزعم أن السمع وإن كان في لفظ واحد فإنه بمعنى جماعة ، ويحتجّ في ذلك بقول الله : لا يَرْتَدّ إلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ يريد لا ترتد إليهم أطرافهم ، وبقوله : وَيُوَلونَ الدّبُرَ يراد به أدبارهم . وإنما جاز ذلك عندي لأن في الكلام ما يدلّ على أنه مراد به الجمع ، فكان فيه دلالة على المراد منه ، وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة مغنيا عن جِماعِهِ ، ولو فعل بالبصر نظير الذي فعل بالسمع ، أو فعل بالسمع نظير الذي فعل بالأبصار من الجمع والتوحيد ، كان فصيحا صحيحا لما ذكرنا من العلة كما قال الشاعر :
كُلُوا في بَعْضِ بَطْنكُمْو تَعِفّوا *** فإنّ زَمانَنا زَمَنٌ خَمِيصُ
فوحد البطن ، والمراد منه البطون لما وصفنا من العلة .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِير .
قال أبو جعفر : وإنما وصف الله نفسه جل ذكره بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع ، لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير ، ثم قال : فاتقوني أيها المنافقون واحذروا خداعي وخداع رسولي وأهل الإيمان بي لا أحل بكم نقمتي فإني على ذلك وعلى غيره من الأشياء قدير . ومعنى قدير : قادر ، كما معنى عليم : عالم ، على ما وصفت فيما تقدم من نظائره من زيادة معنى فعيل على فاعل في المدح والذم .