{ 18 } { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ }
أي : فهل ينظر هؤلاء المكذبون أو ينتظرون { إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } أي : فجأة ، وهم لا يشعرون { فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا } أي : علاماتها الدالة على قربها .
{ فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } أي : من أين لهم ، إذا جاءتهم الساعة وانقطعت آجالهم أن يتذكروا ويستعتبوا ؟ قد فات ذلك ، وذهب وقت التذكر ، فقد عمروا ما يتذكر فيه من تذكر ، وجاءهم النذير .
ففي هذا الحث على الاستعداد قبل مفاجأة الموت ، فإن موت الإنسان قيام ساعته .
ثم تعود السورة الكريمة إلى توبيخ هؤلاء المنافقين على غفلتهم وانطماس بصائرهم ، فتقول : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فأنى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } .
فالاستفهام للإِنكار والتعجب من حالهم ، وقوله { أَن تَأْتِيَهُمْ } بدل اشتمال من الساعة ، والأشراط جمع شَرط - بالتحريك مع الفتح - وهو العلامة ، وأصله الإِعلام عن الشئ .
يقال : أشرط فلان نفسه لكذا ، إذا أعلمها له وأعدها ، ومنه الشرطى - كتركى - والجمع شُرَط - بضم ففتح - سموا بذلك لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها ، وتميزهم عن غيرهم .
وقوله : { فأنى لَهُمْ } خبر مقدم و { ذِكْرَاهُمْ } مبتدأ مؤخر ، والضمير فى قوله { جَآءَتْهُمْ } يعود إلى الساعة ، والكلام على حذف مضاف قبل قوله { ذِكْرَاهُمْ } أى : فأنى لهم نفع ذكراهم ؟
والمعنى : ما ينتظر هؤلاء الجاهلون إلا الساعة ، التى سيفاجئهم مجيؤها مفاجأة بدون مقدمات ، والحق أن علاماتها قد ظهرت دون أن يرفعوا لها رأسا ، ودون أن يعتبروا بها أو يتعظوا لاستيلاء الأهواء عليهم .
ولكنهم عندما تداهمهم الساعة بأهوالها ، ويقفون للحساب . يتذكرون ويؤمنون بالله ورسله . . ولكن إيمانهم فى ذلك الوقت لن ينفعهم ، لأنه جاء فى غير محله الذى يقبل فيه ، وتذكرهم واتعاظهم - أيضا - لن يفيدهم لأنه جاء بعد فوات الأوان .
ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } وقوله - تعالى - : { وقالوا آمَنَّا بِهِ وأنى لَهُمُ التناوش مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } وقوله - عز وجل - : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى } قال الآلوسى : الظاهر أن المرد بأشراط الساعة هنا : علاماتها التى كانت واقعة إذ ذاك ، وأخبروا أنها علامات لها ، كبعثة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فقد أخرج أحمد والبخارى ومسلم والترمذى عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بعث أنا والساعة كهاتين - وأشار بالسبابة والوسطى " .
وأخرج أحمد عن بريدة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم يقول : " بعث أنا والساعة جميعا . وإن كادت لتسبقنى " وهذا أبلغ فى إفادة القرب .
وعدوا منها انشقاق القمر الذى وقع له - صلى الله عليه وسلم - والدخان الذى وقع لأهل مكة ، أما أشراطها مطلقا فكثيرة ، ومنها ككون الحفاة العراة رعاء الشاة يتطاولون فى البنيان .
{ فهل ينظرون إلا الساعة } فهل ينتظرون غيرها . { أن تأتيهم بغتة } بدل اشتمال من { الساعة } ، وقوله : { فقد جاء أشراطها } كالعلة له ، وقرئ أن تأتهم على أنه شرط مستأنف جزاؤه : { فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم } والمعنى أن تأتهم الساعة بغتة لأنه قد ظهر أماراتها كمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وانشقاق القمر فكيف لهم { ذكراهم } أي تذكرهم { إذا جاءتهم } الساعة بغتة ، وحينئذ لا يفرغ له ولا ينفع .
{ فهل ينظرون إلآ الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشارطها }
تفريع على ما مضى من وصف أحوال الكافرين من قوله : { أفلم يسيروا في الأرض } إلى قوله : { واتبعوا أهواءهم } [ محمد : 10 16 ] الشاملة لأحوال الفريقين ففرع عليها أن كلا الفريقين ينتظرون حلول الساعة لينالوا جزاءهم على سوء كفرهم فضمير ينظرون مراد به الكافرون لأن الكلام تهديد ووعيد ، ولأن المؤمنين ينتظرون أموراً أخر مثل النصر والشهادة ، قال تعالى : { قل هل تَربَّصُون بنا إلا إحدى الحُسْنَيْينِ } [ التوبة : 52 ] الآية . والنظر هنا بمعنى الانتظار كما في قوله تعالى : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك } [ الأنعام : 158 ] الآية .
والاستفهام إنكار مشوب بتهكم ، وهو إنكار وتهكم على غائبين ، موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي لا تحسب تأخير مؤاخذتهم إفلاتاً من العقاب ، فإنه مُرجَوْن إلى الساعة .
وهذا الاستفهام الإنكاري ناظر إلى قوله آنفاً { والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم } [ محمد : 12 ] .
والقصر الذي أفاده الاستثناء قصر ادعائي ، نُزل انتظارهم ما يأملونه من المرغوبات في الدنيا منزلة العدم لضآلة أمره بعد أن نُزلوا منزلة من ينتظرون فيما ينتظرون الساعة لأنهم لتحقق حلوله عليهم جديرون بأن يكونوا من منتظريها .
و { أن تأتيهم } بدل اشتمال من الساعة . و { بغتة } حال من الساعة قال تعالى : { لا تأتيكم إلا بغتة } [ الأعراف : 187 ] . والبغتة : الفجأة ، وهو مصدر بمعنى : المرة ، والمراد به هنا الوصف ، أي مباغتة لهم .
ومعنى الكلام : أن الساعة موعدهم وأن الساعة قريبة منهم ، فحالهم كحال من ينتظر شيئاً فإنما يكون الانتظار إذا اقترب موعد الشيء ، هذه الاستعارة تهكمية .
والفاء من قوله : { فقد جاء أشراطها } فاء الفصيحة كالتي في قول عباس بن الأحنف :
قالوا خراسانُ أقصى ما يراد بنا *** ثم القفول فقد جئنا خراسانا
وهذه الفصيحة تفيد معنى تعليل قرب مؤاخذتهم .
والأشراط : جمع شَرَط بفتحتين ، وهو : العلامة والأمارة على وجود شيء أو على وصفه . وعلامات الساعة هي علامات كونها قريبة . وهذا القرب يتصور بصورتين :
إحداهما أن وقت الساعة قريب قرباً نسبياً بالنسبة إلى طول مدة هذا العالم ومن عليه من الخلق .
والثانية : أن ابتداء مشاهدة أحوال الساعة يحصل لكل أحد بموته فإن روحه إذا خلصت عن جسده شاهدت مصيرها مشاهدة إجمالية وبه فسر حديث أبي هريرة مرفوعاً « القبر روضة من رياض الجنة أو حفر من حفر النار » رواه الترمذي . وهو ضعيف ويفسره حديث ابن عمر مرفوعاً « إذا مات الميت عرض عليه مقعده بالغداة والعشي فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ثم يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة » ونهاية حياة المرء قريبة وإن طال العمر .
والأشراط بالنسبة للصورة الأولى : الحوادث التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تقع بين يدي الساعة ، وأولها بعثته لأنه آخر الرسل وشريعته آخر الشرائع ثم ما يكون بعد ذلك ، وبالنسبة للصورة الثانية أشراطها الأمراض والشيخوخة .
{ فأنى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذكراهم } .
تفريع على { فقد جاء أشراطها } . و { أنّى } اسم يدل على الحالة ، ويضمّن معنى الاستفهام كثيراً وهو هنا استفهام إنكاري ، أي كيف يحصل لهم الذكرى إذا جاءتهم الساعة ، والمقصود : إنكار الانتفاع بالذكرى حينئذٍ .
و { أنَّى } مبتدأ ثان مقدم لأن الاستفهام له الصدارة . و { ذكراهم } مبتدأ أول و { لهم } خبر عن { أنّى } ، وهذا التركيب مثل قوله تعالى : { أنّى لهم الذكرى } في سورة الدخان ( 13 ) ، وضمير جاءتهم } عائد إلى { الساعة } .