فما أمروا في سائر الشرائع إلا أن يعبدوا { اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي : قاصدين بجميع عباداتهم الظاهرة والباطنة وجه الله ، وطلب الزلفى لديه ، { حُنَفَاءَ } أي : معرضين [ مائلين ] عن سائر الأديان المخالفة لدين التوحيد . وخص الصلاة والزكاة [ بالذكر ] مع أنهما داخلان في قوله { لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ } لفضلهما وشرفهما ، وكونهما العبادتين اللتين من قام بهما قام بجميع شرائع الدين .
{ وَذَلِكَ } أي التوحيد والإخلاص في الدين ، هو { دِينُ الْقَيِّمَةِ } أي : الدين المستقيم ، الموصل إلى جنات النعيم ، وما سواه فطرق موصلة إلى الجحيم .
ثم بين - سبحانه - ما كان يجب عليهم أن يفعلوه ، فقال : { وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكاة وَذَلِكَ دِينُ القيمة }
والواو فى قوله - تعالى - { وَمَآ أمروا } للحال ، فهذه الجملة حالية ، والمقصود منها بيان أن هؤلاء الضالين ، قد بلغوا النهاية فى قبح الأفعال ، وفى فساد العقول ، إذ أنهم تفرقوا واختلفوا وأعرضوا عن الهدى ، فى حال أنهم لم يؤمروا إلا بما فيه صلاحهم .
وقوله : { حنفاء } من الحَنف ، وهو الميل من الدين الباطل إلى الدين الحق . كما أن الجنف هو الميل من الحق إلى الباطل .
أي : أن هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب تفرقوا واختلفوا فى شأن الحق ، والحال ، أنهم لم يؤمروا إلا بعبادة الله - تعالى - وحده ، مخلصين له الطاعة ، ومائلين عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق ، مؤمنين بجميع الرسل بدون تفرقة بينهم ، إذ ملتهم جميعا واحدة ، ولم يؤمروا - أيضا - إلا بإقامة الصلاة فى أوقاتها بخشوع وإخلاص لله رب العالمين ، وبإيتاء الزكاة التى تطهرهم وتزكيهم .
{ وذلك } الذى أمرناهم به من إخلاص العبادة لنا ، ومن أداء فرائضنا { دِينُ القيمة } أى : دين الملة المستقيمة القيمة ، أو دين الكتب القيمة .
ولفظ " القيمة " بزنة فيعلة - من القوامة ، وهى غاية الاستقامة ، وهذا اللفظ صفة لموصوف محذوف .
وقرأ جمهور الناس : { مخلِصين } بكسر اللام ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : { مخلَصين } بفتح اللام ، وكأن { الدين } على هذه القراءة منصوب ب { بعد } أو بمعنى يدل عليه على أنه كالظرف أو الحال ، وفي هذا نظر ، وقيل لعيسى عليه السلام : من المخلص لله ؟ قال الذي يعمل العمل لله ولا يحب أن يحمده الناس عليه ، و { حنفاء } : جمع حنيف ، وهو المستقيم المائل إلى طرق الخير ، قال ابن جبير : لا تسمي العرب حنيفاً إلا من حج واختتن ، وقال ابن عباس : { حنفاء } : حجاجاً مسلمين ، و { حنفاء } نصب على الحال ، وكون { الصلاة } مع { الزكاة } في هذه الآية مع ذكر بني إسرائيل إنما دفع لمناقضة أهل الكتاب بالمدينة ، وقرأ الجمهور : «وذلك دين القيمة » على معنى الجماعة القيمة ، أو الفرقة القيمة ، وقال محمد بن الأشعث الطالقاني : هنا الكتب التي جرى ذكرها ، وقرأ بعض الناس : «وذلك الدين القيمة » ، فالهاء في «القيمة » على هذه القراءة كعلامة ونسابة ، ويتجه ذلك أيضاً على أن يجعل { الدين } بمنزلة الملة .
هذا إبطال ثالث لتنصلهم من متابعة الإِسلام بعلة أنهم لا يتركون ما هم عليه حتى تأتيهم البينة وزعمهم أن البينة لم تأتهم .
وهو إبطال بطريق القول بالموجَب في الجدل ، أي إذا سلمنا أنكم مُوصَوْن بالتمسك بما أنتم عليه لا تنفكون عنه حتى تأتيكم البينة ، فليس في الإِسلام ما ينافي ما جاء به كتابكم لأن كتابكم يأمر بما أمر به القرآن ، وهو عبادة الله وحده دون إشراك ، وذلك هو الحنيفية وهي دين إبراهيم الذي أخذ عليهم العهد به ، فذلك دين الإِسلام وذلك ما أمرتم به في دينكم .
فلك أن تجعل الواو عاطفة على جملة : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } [ البينة : 4 ] الخ .
ولك أن تجعل الواو للحال فتكون الجملة حالاً من الضمير في قوله : { حتى تأتيهم البينة } [ البينة : 1 ] . والمعنى والحال أن البينة قد أتتهم إذ جاء الإِسلام بما صدَّق قول الله تعالى لموسى عليه السلام : « أقيم لهم نبيئاً من وسط إخوتهم وأجعل كلامي في فمه » ، وقول عيسى عليه السلام : « فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم » .
والتعبير بالفعل المسند للمجهول مفيد معنيين ، أي ما أمروا في كتابهم إلا بما جاء به الإِسلام . فالمعنى : وما أمروا في التوراة والإِنجيل إلا أن يعبدوا الله مخلصين إلى آخره . فإن التوراة أكدت على اليهود تجنب عبادة الأصنام ، وأمرت بالصلاة ، وأمرت بالزكاة أمراً مؤكداً مكرراً . h وتلك هي أصول دين الإِسلام قبل أن يفرض صَوم رمضان والحج ، والإِنجيل لم يخالف التوراة أو المعنى وما أمروا في الإِسلام إلا بمثل ما أمرهم به كتابهم ، فلا معذرة لهم في الإِعراض عن الإِسلام على كلا التقديرين .
ونائب فاعل { أمروا } محذوف للعموم ، أي ما أمروا بشيء إلا بأن يعبدوا الله .
واللام في قوله : { ليعبدوا اللَّه } هي اللام التي تكثر زيادتها بعد فعل الإِرادة وفعل الأمر وتقدم ذكرها عند قوله تعالى : { يريد اللَّه ليبين لكم } في سورة النساء ( 26 ) وقوله : { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } في سورة الأنعام ( 71 ) ، وسماها بعض النحاة لام ( أنْ ) .
والإخلاص : التصفية والإِنقاء ، أي غير مشاركين في عبادته معه غيره .
والدين : الطاعة قال تعالى : { قل اللَّه أعبد مخلصاً له ديني } [ الزمر : 14 ] .
وحنفاء : جمع حنيف ، وهو لقب للذي يؤمن بالله وحده دون شريك قال تعالى : { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } [ الأنعام : 161 ] .
وهذا الوصف تأكيد لمعنى : { مخلصين له الدين } مع التذكير بأن ذلك هو دين إبراهيم عليه السلام الذي ملئت التوراة بتمجيده واتباع هديه .
وإقامة الصلاة من أصول شريعة التوراة كلَّ صباح ومساء .
وإيتاء الزكاة : مفروض في التوراة فرضاً مؤكداً .
واسم الإِشارة في قوله : { وذلك دين القيمة } متوجِّهٌ إلى ما بعد حرف الاستثناء فإنه مقترن باللام المسماة ( لام أنْ ) المصدرية فهو في تأويل مفرد ، أي إلا بعبادة الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، أي والمذكورُ دين القيمة .
و { دين القيمة } يجوز أن تكون إضافته على بابها فتكون { القيمة } مراداً به غير المراد بدين مما هو مؤنث اللفظ مما يضاف إليه دين أي دين الأمة القيّمة أو دين الكُتُب القَيمة . ويرجّح هذا التقدير أن دليل المقدَّر موجود في اللفظ قبله . وهذا إلزام لهم بأحقية الإِسلام وأنه الدين القيم قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللَّه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة } [ الروم : 30 31 ] .
ويجوز أن تكون الإِضافة صورية من إضافة الموصوف إلى الصفة وهي كثيرة الاستعمال ، وأصله الدين القيم ، فأنث الوصف على تأويل دين بملة أو شريعة ، أو على أن التاء للمبالغة في الوصف مثل تاء علاّمة والمآل واحد ، وعلى كلا التقديرين فالمراد بدين القيمة دين الإِسلام .
والقيمة : الشديدة الاستقامة وقد تقدم آنفاً .
فالمعنى : وذلك المذكور هو دين أهل الحق من الأنبياء وصالحي الأمم وهو عين ما جاء به الإِسلام قال تعالى في إبراهيم : { ولكن كان حنيفاً مسلماً } [ آل عمران : 67 ] وقال عنه وعن إسماعيل : { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } [ البقرة : 128 ] . وحكى عنه وعن يعقوب قولهما : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] وقال سليمان : { وكنا مسلمين } [ النمل : 42 ] .
وقد مضى القول في ذلك عند قوله تعالى : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } في سورة البقرة ( 132 ) .
والإِشارة بذلك إلى الذي أمروا به أي مجموع ما ذكر هو دين الإِسلام ، أي هو الذي دعاهم إليه الإِسلام فحسبوه نقضاً لدينهم ، فيكون مهيع الآية مثل قوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أَلاَّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } [ آل عمران : 64 ] وقوله : { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا باللَّه وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل } [ المائدة : 59 ] .
والمقصود إقامة الحجة على أهل الكتاب وعلى المشركين تبعاً لهم بأنهم أعرضوا عما هم يتطلبونه فإنهم جميعاً مقرّون بأن الحنيفية هي الحق الذي أقيمت عليه الموسوية والعيسوية ، والمشركون يزعمون أنهم يطلبون الحنيفية ويأخذون بما أدركوه من بقاياها ويزعمون أن اليهودية والنصرانية تحريف للحنيفية ، فلذلك كان عامة العرب غير متهودين ولا متنصرين ويتمسكون بما وجدوا آباءهم متمسكين به وقلّ منهم من تهودوا أو تنصروا ، وذهب نفر منهم يتطلبون آثار الحنيفية مثل زيد بن عمرو بن نُفَيْل ، وأميَّة بن أبي الصَّلْت .
وخصّ الضمير ب« أهل الكتاب » لأن المشركين لم يؤمروا بذلك قبل الإِسلام قال تعالى : { لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك } [ القصص : 46 ] .