فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ} (5)

وجملة { وما أمروا إلا ليعبدوا الله } حالية مقيدة لغاية قبح ما فعلوا ، وتقريعهم وتوبيخهم بما فعلوا من التفرق بعد مجيء البينة ، أي والحال أنهم ما أمروا في كتبهم إلا لأجل أن يعبدوا الله ويوحدوه ، وقيل :إن اللام في ليعبدوا بمعنى أن ، أي ما أمروا إلا بأن يعبدوا ، كقوله { يريد الله ليبين لكم } أي أن يبين ، وقوله { يريدون ليطفئوا نور الله } أي أن يطفئوا ، والعبادة هي التذلل ، ومن زعم أنها الطاعة فقد أخطأ ؛ لأن جماعة عبدوا المسيح والملائكة والأصنام وما أطاعوهم ، ولكنها في الشرع صارت اسما لكل طاعة أديت له على وجه التذلل والنهاية في التعظيم .

{ مخلصين له الدين } أي حال كونهم جاعلين دينهم خالصا له سبحانه ، أو جاعلين أنفسهم خالصة له في الدين ، قرأ الجمهور { مخلصين } بكسر اللام ، وقرأ الحسن بفتحها .

وهذه الآية من الأدلة الدالة على وجوب النية في العبادات ؛ لأن الإخلاص في العمل من عمل القلب ، قال الكرخي : الإخلاص أن لا يطلع على عملك إلا الله سبحانه ، ولا تطلب منه ثوابا ، وقال الشهاب : الإخلاص عدم الشرك ، وأنه ليس بمعنى الإخلاص المتعارف .

وانتصاب { حنفاء } على الحال من ضمير مخلصين ، فيكون من باب التداخل ، ويجوز أن يكون من فاعل " يعبدوا " ، والمعنى مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام ، وقيل : متبعين ملة إبراهيم ، وقيل : حجاجا ، وقيل : مختونين محرمين لنكاح المحارم ، وقيل : الحنيف الذي آمن بجميع الأنبياء والرسل ، ولا يفرق بين أحد منهم ، والأول أولى .

وأصل الحنف في اللغة الميل ، وخصه العرف بالميل إلى الخير ، وسموا الميل إلى الشر إلحادا .

والحنيف المطلق هو الذي يكون متبرئا عن أصول الملل الخمسة : اليهود والنصارى والصائبين والمجوس والمشركين ، وعن فروعها من جميع النحل إلى الاعتقادات ، وعن توابعها من الخطإ والنسيان إلى العمل الصالح ، وهو مقام التقى ، وعن المكروهات إلى المستحبات ، وهو المقام الأول من الورع ، وعن الفضول شفقة على خلق الله وهو ما لا يعني إلى ما يعني ، وهو المقام الثاني من الورع ، وعما يجر إلى الفضول ، وهو مقام الزهد ، فالآية جامعة لمقامي الإخلاص الناظر أحدهما إلى الحق ، والثاني إلى الخلق .

{ ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة } أي يفعلوا الصلوات في أوقاتها ، ويعطوا الزكاة عند محلها ، وخص الصلاة والزكاة لأنهما من أعظم أركان الدين ، قيل : إن أريد بالصلاة والزكاة ما في شريعة أهل الكتاب من الصلاة والزكاة فالأمر ظاهر ، وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أمرهم باتباع شريعتنا ، وهما من جملة ما وقع الأمر به فيها .

{ وذلك } المذكور من عبادة الله وإخلاصها وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة { دين القيمة } أي دين الملة المستقيمة والشريعة المتبوعة ، قاله الزجاج ، فالقيمة صفة لموصوف محذوف ، قال الخليل : القيمة جمع القيم ، والقيم القائم .

قال الفراء : أضاف الدين إلى القيمة وهو نعته لاختلاف اللفظين ، وأنث القيمة ردا إلى الملة ، وقال الفراء أيضا : هو من إضافة الشيء إلى نفسه ، ودخلت الهاء للمدح والمبالغة ، وما في الإشارة من معنى البعد للإشعار بعلو رتبته ، وبعد منزلته ، وسمو مكانته .