السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ} (5)

ولما كان حال من أضل على علم أشنع زاد في فضيحتهم فقال تعالى : { وما أمروا } أي : هؤلاء في التوراة والإنجيل { إلا ليعبدوا الله } أي : يوحدوا الإله الذي له الأمر كله ، ولا أمر لأحد غيره ، واللام بمعنى أن كقوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم } [ النساء : 26 ] . وقوله تعالى : { مخلصين له الدين } فيه دليل على وجوب النية في العبادات ؛ لأنّ الإخلاص من عمل القلب ، وهو أن يراد به وجه الله تعالى لا غيره ، ومن ذلك قوله : { إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين } [ الزمر : 11 ] . { حنفاء } أي : مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام ، وأصل الحنف في اللغة : الميل ، وخصه العرف بالميل إلى الخير ، وسموا الميل إلى الشرّ إلحاداً ، والحنيف المطلق الذي يكون متبرئاً عن أصول الملل الخمسة : اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين . وعن فروعها من جميع النحل إلى الاعتقادات ، وعن توابعها من الخطأ والنسيان إلى العمل الصالح ، وهو مقام التقى ، وعن المكروهات إلى المستحبات ، وهو المقام الأوّل من الورع ، وعن الفضول شفقة على خلق الله ، وهو ما لا يعني إلى ما يعني ، وهو المقام الثاني من الورع ، وعما يجر إلى الفضول ، وهو مقام الزهد ، فالآية جامعة لمقامي الإخلاص الناظر : أحدهما إلى الحق ، والثاني : إلى الخلق .

ولما ذكر أصل الدين أتبعه الفروع ، وبدأ بأعظمها الذي هو مجمع الدين ، وموضع التجرّد عن العوائق ، فقال عز من قائل : { ويقيموا } أي : يعدلوا من غير اعوجاج بجميع الشرائط والأركان والحدود { الصلاة } لتصير بذلك أهلاً بأن تقوم بنفسها ، وهي من التعظيم لأمر الله تعالى .

ولما ذكر تعالى صلة الخالق أتبعها صلة الخلائق بقوله تعالى : { ويؤتوا الزكاة } أي : يدفعوها لمستحقيها شفقة على خلق الله تعالى إعانة على الدين ، أي : ولكنهم حرّفوا ذلك وبدّلوه بطبائعهم المعوجة ، وتدخل الزكاة عند أهل الله تعالى في كل ما رزق الله من عقل وسمع وبصر ولسان ويد ورجل وجاه ، وغير ذلك كما هو واضح من قوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون } [ البقرة : 3 ] . { وذلك } أي : والحال أنّ هذا الموصوف من العبادة على الوجه المذكور { دين القيمة } أي : الملة المستقيمة ، وأضاف الدين إلى القيمة ، وهي نعته لاختلاف اللفظين ، وأنث القيمة ردّاً بها إلى الملة . وقيل : الهاء للمبالغة فيه . وقيل : القيمة هي الكتب التي جرى ذكرها ، أي : وذلك دين الكتب القيمة فيما تدعو إليه وتأمر به ، كما قال تعالى : { وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } [ البقرة : 213 ] . وقال النضر بن شميل : سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى : { وذلك دين القيمة } فقال : القيمة جمع القيم ، والقيم والقائم واحد . قال البغوي : ومجاز الآية : وذلك دين القائمين لله تعالى بالتوحيد .