{ وَقَدْ مَكَرُوا } أي : المكذبون للرسل { مَكْرَهُمْ } الذي وصلت إرادتهم وقدر لهم عليه ، { وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ } أي : هو محيط به علما وقدرة فإنه عاد مكرهم عليهم { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله }
{ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } أي : ولقد كان مكر الكفار المكذبين للرسل بالحق وبمن جاء به -من عظمه- لتزول الجبال الراسيات بسببه عن أماكنها ، أي : { مكروا مكرا كبارا } لا يقادر قدره ولكن الله رد كيدهم في نحورهم .
ويدخل في هذا كل من مكر من المخالفين للرسل لينصر باطلا ، أو يبطل حقا ، والقصد أن مكرهم لم يغن عنهم شيئا ، ولم يضروا الله شيئا وإنما ضروا أنفسهم .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك لونا آخر من ألوان عراقتهم فى الكفر والجحود فقال : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } .
والمكر : تبييت فعل السوء بالغير وإضماره ، مع إظهار ما يخالف ذلك . وانتصب { مكرهم } الأول على أنه مفعول مطلق لمكروا ، لبيان النوع ، والإِضافة فيه من إضافة المصدر لفاعله .
أى : أن هؤلاء الظالمين جاءتهم العبر فلم يعتبروا ، بل أضافوا إلى ذلك أنهم مكروا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - مكرهم العظيم الذى استفرغوا فيه جهدهم لإِبطال الحق ، وإحقاق الباطل ، والذى كان من مظاهره محاولتهم قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } أى : وفى علم الله - تعالى - الذى لا يغيب عنه شئ مكرهم ، وسيجازيهم عليه بما يستحقونه من عذاب مهين .
وقوله - تعالى { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } قرأ الجمهور { لتزول } بكسر اللام على أنها لام الجحود والفعل منصوب بعدها . بأن مضمره وجوبا ، و " إن " فى قوله { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ } نافبة بمعنى ما .
والمعنى : ولقد مكر هؤلاء الكافرون مكرهم الشديد الذى اشتهروا به ، وفى علم الله - تعالى - مكرهم ، وما كان مكرهم - مهما عظم واشتد - لتنتقل منه الجبال من أماكنها ، لأنه لم يتجاوز أمثالهم ممن دمرناهم تدميرا .
وعلى هذه القاءة يكون المقصود بهذه الجملة الكريمة ، الاستخفاف بهم وبمكرهم ، وبيان أن ما يضمرونه من سوء ليس خافيا على الله - تعالى - ولن يزلزل المؤمنين فى عقيدتهم ، لأن إيمانهم كالجبال الرواسى فى ثباته ورسوخه .
وقرأ " السكائى " { لِتَزُولَ } - بفتح اللام على أنها لام الابتداء ، ورفع الفعل بعدها - و " إن " مخففة من الثقيلة .
فيكون المعنى : وقد مكروا مكرهم ، وعند الله مكرهم ، وإن مكرهم من الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع من أماكنها ، لو كان لها أن تزول أو تنقلع .
وعلى هذه القراءة يكون المراد بهذه الجملة الكريمة التعظيم والتهويل من شأن مكرهم ، وأنه أمر شنيع أو شديد فى بابه ، كما فى قوله - تعالى - : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً . لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً . تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً . . }
{ وقد مكروا مكرهم } المستفرغ فيه جهدهم لإبطال الحق وتقرير الباطل . { وعند الله مكرهم } ومكتوب عنده فعلهم فهو مجازيهم عليه ، أو عنده ما يمكرهم به جزاء لمكرهم وإبطالا له . { وإن كان مكرهم } في العظم والشدة . { لتزول منه الجبال } مسوى لإزالة الجبال . وقيل إن نافية واللام مؤكدة لها كقوله : { وما كان الله ليعذبهم } على أن الجبال مثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه . وقيل مخففة من الثقيلة والمعنى أنهم مكروا ليزيلوا ما هو كالجبال الراسية ثباتا وتمكنا من آيات الله تعالى وشرائعه . وقرأ الكسائي " لَتَزُولَ " بالفتح والرفع على أنها المخففة واللام هي الفاصلة ، ومعناه تعظيم مكرهم . وقرئ بالفتح والنصب على لغة من يفتح لام كي وقرئ و " إن كاد مكرهم " .
وقوله : { وعند الله مكرهم } هو على حذف مضاف تقديره : وعند الله عقاب مكرهم أو جزاء مكرهم ، ويحتمل قوله تعالى : { وقد مكروا مكرهم } أن يكون خطاباً لمحمد عليه السلام ، والضمير لمعاصريه ، ويحتمل أن يكون مما يقال للظلمة يوم القيامة والضمير للذين سكن في منازلهم .
وقرأ السبعة سوى الكسائي : «وإن كان مكرهم لِتزولَ منه الجبال » بكسر اللام من { لتزول } وفتح الأخيرة ، وهي قراءة علي بن أبي طالب وجماعة سكنوا وهذا على أن تكون «إن » نافية بمعنى ما ، ومعنى الآية : تحقير مكرهم وأنه ما كان لتزول منه الشرائع والنبوات وأقدار الله بها التي هي كالجبال في ثبوتها وقوتها ، هذا تأويل الحسن وجماعة من المفسرين ، وتحتمل عندي هذه القراءة أن تكون بمعنى تعظيم مكرهم ، أي وإن كان شديداً إنما يفعل لتذهب به عظام الأمور .
وقرأ الكسائي : «وإن كان مكرهم لَتزولُ منه الجبال » بفتح اللام الأولى من { لتزول } وضم الأخيرة ، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد وابن وثاب ، وهذا على أن تكون «إن » مخففة من الثقيلة ، ومعنى الآية تعظيم مكرهم وشدته ، أي أنه مما يشقى به ويزيل الجبال عن مستقراتها لقوته ، ولكن الله تعالى أبطله ونصر أولياءه ، وهذا أشد في العبرة .
وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وعمر بن الخطاب وأبي بن كعب «وإن كاد مكرهم » ، ويترتب مع هذه القراءة في { لتزول } ما تقدم{[7103]} . وذكر أبو حاتم أن في قراءة أبي بن كعب «ولولا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال » . وحكى الطبري عن بعض المفسرين أنهم جعلوا هذه الآية إشارة إلى ما فعل نمرود إذ علق التابوت من الأنسر ، ورفع لها اللحم في أطراف الرماح بعد ان أجاعها ودخل هو وحاجبه في التابوت ، فعلت بهما الأنسر حتى قال له نمرود : ماذا ترى ؟ قال : أرى بحراً وجزيرة - يريد الدنيا المعمورة - ثم قال : ماذا ترى ؟ قال : أرى غماماً ولا أرى جبلاً ، فكأن الجبال زالت عن نظر العين بهذا المكر ، وذكر ذلك عن علي بن أبي طالب . وذلك عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه ، وفي هذه القصة كلها ضعف من طريق المعنى ، وذلك أنه غير ممكن أن تصعد الأنسر كما وصف ، وبعيد أن يغرر أحد بنفسه في مثل هذا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.