المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ} (1)

مقدمة السورة:

في هذه السورة الكريمة تهديد بيوم القيامة ، وتخويف بطوله وما فيه من أهوال جسام ، وعذاب لا تقبل فيه فدية بأبناء ولا صاحبة ولا أخ ولا فصيلة . بل لا يقبل فيه فدية بأهل الأرض جميعا .

وفيها نعى على الإنسان ضعفه في حال الضراء والسراء . إلا من عصمهم الله بالتقوى والعمل الصالح ، فإنهم يسلمون من هذا الضعف .

وفيها كذلك إنكار على الكافرين في أطماعهم الفاسدة . وختامها وصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتركهم في سفههم ولعبهم ، حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون .

1 - دعا داع - استعجالا على سبيل الاستهزاء - بعذاب واقع من الله للكافرين لا محالة . ليس لذلك العذاب راد يصرفه عنهم ، فوقوعه لا شك فيه ، لأنه من الله صاحب الأمر والحكم النافذ .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة سأل سائل وهي مكية

{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا }

يقول تعالى مبينا لجهل المعاندين ، واستعجالهم لعذاب الله ، استهزاء وتعنتا وتعجيزا :

{ سَأَلَ سَائِلٌ } أي : دعا داع ، واستفتح مستفتح { بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ } لاستحقاقهم له بكفرهم وعنادهم

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة المعارج

مقدمة وتمهيد

1- سورة " المعارج " هي السورة السبعون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فهي السورة الثامنة والسبعون ، وكان نزولها بعد سورة " الحاقة " وقبل سورة " النبأ " .

وتسمى –أيضا- بسورة " سأل سائل " ، وذكر السيوطي في كتابه " الإتقان " أنها تسمى كذلك بسورة " الواقع " .

وهذه الأسماء الثلاثة قد وردت ألفاظها في السورة الكريمة . قال –تعالى- [ سأل سائل بعذاب واقع . للكافرين ليس له دافع . من الله ذي المعارج ] .

وهي من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها أربع وأربعون آية في عامة المصاحف ، وفي المصحف الشامي ثلاث وأربعون آية .

والسورة الكريمة نراها في مطلعها ، تحكي لنا جانبا من استهزاء المشركين بما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من بعث وثواب وعقاب . . وترد عليهم بما يكبتهم ، حيث تؤكد أن يوم القيامة حق ، وأنه واقع ، وأن أهواله شديدة .

قال –تعالى- [ سأل سائل بعذاب واقع . للكافرين ليس له دافع . من الله ذي المعارج . تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة . فاصبر صبرا جميلا . إنهم يرونه بعيدا . ونراه قريبا . يوم تكون السماء كالمهل . وتكون الجبال كالعهن . ولا يسأل حميم حميما ] .

2- ثم تنتقل السورة بعد ذلك إلى تصوير طبيعة الإنسان ، وتمدح المحافظين على صلاتهم ، وعلى أداء حقوق الله –تعالى- في أموالهم ، كما تمدح الذين يؤمنون بأن البعث حق ، ويستعدون لهذا اليوم بالإيمان والعمل الصالح .

قال –تعالى- [ إن الإنسان خلق هلوعا . إذا مسه الشر جزوعا ، وإذا مسه الخير منوعا . إلا المصلين ، الذين هم على صلاتهم دائمون ] .

3- ثم أخذت السورة الكريمة في أواخرها في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وفي توبيخ الكافرين على مسالكهم الخبيثة بإزاء الدعوة الإسلامية ، وفي بيان أن يوم القيامة الذي يكذبون به آت لا ريب فيه .

قال –تعالى- : [ فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون . يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون . خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ، ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون ] .

4- هذا والمتدبر في هذه السورة الكريمة ، يرى أن على رأس القضايا التي اهتمت بالحديث عنها : التذكير بيوم القيامة ، وبأهواله وشدائده ، وببيان ما فيه من حساب ، وجزاء ، وثواب وعقاب .

والحديث عن النفس الإنسانية بصفة عامة في حال عسرها ويسرها ، وصحتها ومرضها ، وأملها وبأسها . . . واستثناء المؤمنين الصادقين ، من كل صفة لا يحبها الله –تعالى- وأنهم بسبب إيمانهم الصادق ، وعملهم الصالح ، سيكونون يوم القيامة . في جنات مكرمين .

كما أن السورة الكريمة اهتمت بالرد على الكافرين ، وبتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما لحقه منهم ، وببيان قدرة الله –تعالى- التي لا يعجزها شيء .

الراجي عفو ربه

د . محمد سيد طنطاوي

قوله - تعالى - { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } قرأه الجمهور بإظهار الهمزة فى { سَأَلَ } .

وقرأه نافع وابن عامر { سال } بتخفيف الهمزة .

قال الجمل : قرأ نافع وابن عامر بألف محضة ، والباقون ، بهمزة خففت بقلبها ألفا . والثانى : أنها من سَاَلَ يَسَالُ ، مثل خاف يخاف ، والألف منقلبة عن واو ، والواو منقلبة عن الهمزة .

والثالث : من السيلان ، والمعنى : سال واد فى جهنم بعذاب . فالألف منقلبة عن ياء .

وقد حكى القرآن الكريم عن كفار مكة ، أنهم كانوا يسألون النبى صلى الله عليه وسلم على سبيل التهكم والاستهزاء عن موعد العذاب الذى يتوعدهم به إذا ما استمروا على كفرهم ، ويستعجلون وقوعه .

قال - تعالى - : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وقال - سبحانه - { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ } وعلى هذا يكون السؤال على حقيقته ، وأن المقصود به الاستهزاء بالنبى صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين .

ومنهم من يرى أن سأل هنا بمعنى دعا . أى : دعا داع على نفسه بعذاب واقع .

قال الآلوسى ما ملخصه : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } أى : دعا داع به ، فسؤال بمعنى الدعاء ، ولذا عدى بالباء تعديته بها فى قوله { يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } والمراد استدعاء العذاب وطلبه . . وقيل إنها بمعنى " عن " كما فى قوله : { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } والسائل هو النضر بن الحارث - كما روى النسائى وجماعة وصححه الحاكم - حيث قال إنكارا واستهزاء { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وقيل السائل : أو جهل ، حيث قال : " فأسقط علينا كسفا من السماء " .

وعلى أية حال فسؤالهم عن العذاب ، يتضمن معنى الإِنكار والتهكم ، كما يتضمن معنى الاستعجال ، كما حكته بعض الآيات الكريمة . .

ومن بلاغة القرآن ، تعدية هذا الفعل هنا بالباء ، ليصلح لمعنى الاستفهام الإِنكارى ، ولمعنى الدعاء والاستعجال .

أى : سأل سائل النبى صلى الله عليه وسلم سؤال تهكم ، عن العذاب الذى توعد به الكافرين إذا ما استمروا على كفرهم . وتعجَّلَه فى وقوعه بل أضاف إلى ذلك - لتجاوزه الحد فى عناده وطغيانه - أن قال : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وقال - سبحانه - { بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } ولم يقل بعذاب سيقع ، للإِشارة إلى تحقق وقوع هذا العذاب فى الدنيا والآخرة .

أما الدنيا فمن هؤلاء السائلين من قتل فى غزوة بدر وهو النضر بن الحارث ، وأبو جهل وغيرهما ، وأما فى الآخرة فالعذاب النازل بهم أشد وأبقى .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المعارج مكية وآياتها أربع وأربعون

هذه السورة حلقة من حلقات العلاج البطيء ، المديد ، العميق ، الدقيق ، لعقابيل الجاهلية في النفس البشرية كما واجهها القرآن في مكة ؛ وكما يمكن أن يواجهها في أية جاهلية أخرى مع اختلافات في السطوح لا في الأعماق ! وفي الظواهر لا في الحقائق !

أو هي جولة من جولات المعركة الطويلة الشاقة التي خاضها في داخل هذه النفس ، وفي خلال دروبها ومنحنياتها ، ورواسبها وركامها . وهي أضخم وأطول من المعارك الحربية التي خاضها المسلمون - فيما بعد - كما أن هذه الرواسب وتلك العقابيل هي أكبر وأصعب من القوى التي كانت مرصودة ضد الدعوة الإسلامية والتي ما تزال مرصودة لها في الجاهليات القديمة والحديثة !

والحقيقة الأساسية التي تعالج السورة إقرارها هي حقيقة الآخرة وما فيها من جزاء ؛ وعلى وجه الخصوص ما فيها من عذاب للكافرين ، كما أوعدهم القرآن الكريم . وهي تلم - في طريقها إلى إقرار هذه الحقيقة - بحقيقة النفس البشرية في الضراء والسراء . وهي حقيقة تختلف حين تكون مؤمنة وحين تكون خاوية من الإيمان . كما تلم بسمات النفس المؤمنة ومنهجها في الشعور والسلوك ، واستحقاقها للتكريم . وبهوان الذين كفروا على الله وما أعده لهم من مذلة ومهانة تليق بالمستكبرين . . وتقرر السورة كذلك اختلاف القيم والمقاييس في تقدير الله وتقدير البشر ، واختلاف الموازين . . .

وتؤلف بهذه الحقائق حلقة من حلقات العلاج الطويل لعقابيل الجاهلية وتصوراتها ، أو جولة من جولات المعركة الشاقة في دروب النفس البشرية ومنحنياتها . تلك المعركة التي خاضها القرآن فانتصر فيها في النهاية مجردا من كل قوة غير قوته الذاتية . فقد كان انتصار القرآن الحقيقي في داخل النفس البشرية - ابتداء - قبل أن يكون له سيف يدفع الفتنة عن المؤمنين به فضلا على أن يرغم به أعداءه على الاستسلام له !

والذي يقرأ هذا القرآن - وهو مستحضر في ذهنه لأحداث السيرة - يشعر بالقوة الغالبة والسلطان البالغ الذي كان هذا القرآن يواجه به النفوس في مكة ويروضها حتى تسلس قيادها راغبة مختارة . ويرى أنه كان يواجه النفوس بأساليب متنوعة تنوعا عجيبا . . تارة يواجهها بما يشبه الطوفان الغامر من الدلائل الموحية والمؤثرات الجارفة ! وتارة يواجهها بما يشبه الهراسة الساحقة التي لا يثبت لها شيء مما هو راسخ في كيانها من التصورات والرواسب ! وتارة يواجهها بما يشبه السياط اللاذعة تلهب الحس فلا يطيق وقعها ولا يصبر على لذعها ! وتارة يواجهها بما يشبه المناجاة الحبيبة ، والمسارة الودود ، التي تهفو لها المشاعر وتأنس لها القلوب ! وتارة يواجهها بالهول المرعب ، والصرخة المفزعة ، التي تفتح الأعين على الخطر الداهم القريب ! وتارة يواجهها بالحقيقة في بساطة ونصاعة لا تدع مجالا للتلفت عنها ولا الجدال فيها . وتارة يواجهها بالرجاء الصبوح والأمل الندي الذي يهتف لها ويناجيها . وتارة يتخلل مساربها ودروبها ومنحنياتها فيلقي عليها الأضواء التي تكشفها لذاتها فترى ما يجري في داخلها رأي العين ، وتخجل من بعضه ، وتكره بعضه ، وتتيقظ لحركاتها وانفعالاتها التي كانت غافلة عنها ! . . ومئات من اللمسات ، ومئات من اللفتات ، ومئات من الهتافات ، ومئات من المؤثرات . . يطلع عليها قارئ القرآن ، وهو يتبع تلك المعركة الطويلة ، وذلك العلاج البطيء . ويرى كيف انتصر القرآن على الجاهلية في تلك النفوس العصية العنيدة .

وهذه السورة تكشف عن جانب من هذه المحاولة في إقرار حقيقة الآخرة ، والحقائق الأخرى التي ألمت بها في الطريق إليها .

وحقيقة الآخرة هي ذاتها التي تصدت لها سورة الحاقة ، ولكن هذه السورة تعالجها بطريقة أخرى ، وتعرض لها من زاوية جديدة ، وصور وظلال جديدة . .

في سورة الحاقة كان الاتجاه إلى تصوير الهول والرعب في هذا اليوم ، ممثلين في حركات عنيفة في مشاهد الكون الهائلة : ( فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ، وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة . فيومئذ وقعت الواقعة ، وانشقت السماء فهي يومئذ واهية ) . . وفي الجلال المهيب في ذلك المشهد المرهوب : ( والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) . . وفي التكشف الذي ترتج له وتستهوله المشاعر : ( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) . .

كذلك كان الهول والرعب يتمثلان في مشاهد العذاب ، حتى في النطق بالحكم بهذا العذاب : ( خذوه . فغلوه . ثم الجحيم صلوه . ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ) . . كما يتجلى في صراخ المعذبين وتأوهاتهم وحسراتهم : ( يا ليتني لم أوت كتابيه . ولم أدر ما حسابيه . يا ليتها كانت القاضية . . )

فأما هنا في هذه السورة فالهول يتجلى في ملامح النفوس وسماتها وخوالجها وخطواتها ، أكثر مما يتجلى في مشاهد الكون وحركاته . حتى المشاهد الكونية يكاد الهول يكون فيها نفسيا ! وهو على كل حال ليس أبرز ما في الموقف من أهوال . إنما الهول مستكن في النفس يتجلى مداه في مدى ما يحدثه فيها من خلخلة وذهول وروعة : ( يوم تكون السماء كالمهل ، وتكون الجبال كالعهن . ولا يسأل حميم حميما . يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ، وصاحبته وأخيه ، وفصيلته التي تؤويه ، ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه ) . .

وجهنم هنا " نفس " ذات مشاعر وذات وعي تشارك مشاركة الأحياء في سمة الهول الحي : إنها لظى . نزاعة للشوى . تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى . .

والعذاب ذاته يغلب عليه طابع نفسي أكثر منه حسيا : ( يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ، ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون ) . .

فالمشاهد والصور والظلال لهذا اليوم تختلف في سورة المعارج عنها في سورة الحاقة ، باختلاف طابعي السورتين في عمومه . مع اتحاد الحقيقة الرئيسية التي تعرضها السورتان في هذه المشاهد .

ومن ثم فقد تناولت سورة المعارج - فيما تناولت - تصوير النفس البشرية في الضراء والسراء ، في حالتي الإيمان والخواء من الإيمان . وكان هذا متناسقا مع طابعها " النفسي " الخاص : فجاء في صفة الإنسان ( إن الإنسان خلق هلوعا . إذا مسه الشر جزوعا ، وإذا مسه الخير منوعا . إلا المصلين ، الذين هم على صلاتهم دائمون . . الخ . .

واستطرد السياق فصور هنا صفات النفوس المؤمنة وسماتها الظاهرة والمضمرة تمشيا مع طبيعة السورة وأسلوبها : ( إلا المصلين . الذين هم على صلاتهم دائمون . والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم . والذين يصدقونبيوم الدين . والذين هم من عذاب ربهم مشفقون . إن عذاب ربهم غير مأمون . والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون . والذين هم بشهاداتهم قائمون . والذين هم على صلاتهم يحافظون . . . ) . .

ولقد كان الاتجاه الرئيسي في سورة الحاقة إلى تقرير حقيقة الجد الصارم في شأن العقيدة . ومن ثم كانت حقيقة الآخرة واحدة من حقائق أخرى في السورة ، كحقيقة أخذ المكذبين أخذا صارما في الأرض ؛ وأخذ كل من يبدل في العقيدة بلا تسامح . . فأما الاتجاه الرئيسي في سورة المعارج فهو إلى تقرير حقيقة الآخرة وما فيها من جزاء ، وموازين هذا الجزاء . فحقيقة الآخرة هي الحقيقة الرئيسية فيها .

ومن ثم كانت الحقائق الأخرى في السورة كلها متصلة اتصالا مباشرا بحقيقة الآخرة فيها . من ذلك حديث السورة عن الفارق بين حساب الله في أيامه وحساب البشر ، وتقدير الله لليوم الآخر وتقدير البشر : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فاصبر صبرا جميلا . إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا . . . الخ وهو متعلق باليوم الآخر .

ومنه ذلك الفارق بين النفس البشرية في الضراء والسراء في حالتي الإيمان والخلو من الإيمان . وهما مؤهلان للجزاء في يوم الجزاء .

ومنه غرور الذين كفروا وطمعهم أن يدخلوا كلهم جنات نعيم ، مع هوانهم على الله وعجزهم عن سبقه والتفلت من عقابه . وهو متصل اتصالا وثيقا بمحور السورة الأصيل .

وهكذا تكاد السورة تقتصر على حقيقة الآخرة وهي الحقيقة الكبيرة التي تتصدى لإقرارها في النفوس . مع تنوع اللمسات والحقائق الأخرى المصاحبة ! للموضوع الأصيل .

ظاهرة أخرى في هذا الإيقاع الموسيقي للسورة ، الناشئ من بنائها التعبيري . . فقد كان التنوع الإيقاعي في الحاقة ناشئا من تغير القافية في السياق من فقرة لفقرة . وفق المعنى والجو فيه . . فأما هنا في سورة المعارج فالتنوع أبعد نطاقا ، لأنه يشمل تنوع الجملة الموسيقية كلها لا إيقاع القافية وحدها . والجملة الموسيقية هنا أعمق وأعرض وأشد تركيبا . ويكثر هذا التنوع في شطر السورة الأول بشكل ملحوظ .

ففي هذا المطلع ثلاث جمل موسيقية منوعة - مع اتحاد الإيقاع في نهاياتها - من حيث الطول ومن حيث الإيقاعات الجزئية فيها على النحو التالي :

( سأل سائل بعذاب واقع . للكافرين ليس له دافع . من الله ذي المعارج . تعرج الملائكة والروح إليه . في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة . فاصبر صبرا جميلا ) . . حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الخامس .

( إنهم يرونه بعيدا . ونراه قريبا ) . . حيث يتكرر الإيقاع بمد الألف مرتين .

( يوم تكون السماء كالمهل . وتكون الجبال كالعهن . ولا يسأل حميم حميما ) . . حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الثالث . مع تنوع الإيقاع في الداخل .

( يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه . وصاحبته وأخيه . وفصيلته التي تؤويه . ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه . كلا إنها لظى ) . . حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الخامس كالأول .

( نزاعة للشوى . . تدعو من أدبر وتولى . وجمع فأوعى . إن الإنسان خلق هلوعا . إذا مسه الشر جزوعا . وإذا مسه الخير منوعا ) . . حيث يتكرر إيقاع المد بالألف خمس مرات منهما اثنتان في النهاية تختلفان عن الثلاثة الأولى .

ثم يستقيم الإيقاع في باقي السورة على الميم والنون وقبلهما واو أو ياء . .

والتنويع الإيقاعي في مطلع السورة عميق وشديد التعقيد في الصياغة الموسيقية بشكل يلفت الأذن الموسيقية إلى ما في هذا التنويع المعقد الراقي - موسيقيا - من جمال غريب على البيئة العربية وعلى الإيقاع الموسيقي العربي . ولكن الأسلوب القرآني يطوعه ويمنحه اليسر الذي يدخل به إلى الأذن العربية فتقبل عليه ، وإن كان فنا إبداعيا عميقا جديدا على مألوفها الموسيقي .

والآن نستعرض السورة تفصيلا . . .

سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع ، من الله ذي المعارج ، تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فاصبر صبرا جميلا ، إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ، يوم تكون السماء كالمهل ، وتكون الجبال كالعهن ، ولا يسأل حميم حميما ، يبصرونهم ، يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ، وصاحبته وأخيه ، وفصيلته التي تؤويه ، ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه . كلا ! إنها لظى ، نزاعة للشوى ، تدعو من أدبر وتولى ، وجمع فأوعى . .

كانت حقيقة الآخرة من الحقائق العسيرة الإدراك عند مشركي العرب ؛ ولقد لقيت منهم معارضة نفسية عميقة ، وكانوا يتلقونها بغاية العجب والدهش والاستغراب ؛ وينكرونها أشد الإنكار ، ويتحدون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في صور شتى أن يأتيهم بهذا اليوم الموعود ، أو أن يقول لهم : متى يكون .

وفي رواية عن ابن عباس أن الذي سأل عن العذاب هو النضر بن الحارث . وفي رواية أخرى عنه : قال : ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع بهم .

وعلى أية حال فالسورة تحكي أن هناك سائلا سأل وقوع العذاب واستعجله . وتقرر أن هذا العذاب واقع فعلا ، لأنه كائن في تقدير الله من جهة ، ولأنه قريب الوقوع من جهة أخرى . وأن أحدا لا يمكنه دفعه ولا منعه . فالسؤال عنه واستعجاله - وهو واقع ليس له من دافع - يبدو تعاسة من السائل المستعجل ؛ فردا كان أو مجموعة !

وهذا العذاب للكافرين . . إطلاقا . . فيدخل فيه أولئك السائلون المستعجلون كما يدخل فيه كل كافر . وهو واقع من الله ( ذي المعارج ) . . وهو تعبير عن الرفعة والتعالي ، كما قال في السورة الأخرى : ( رفيع الدرجات ذو العرش ) . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة المعارج{[1]}

وهي مكية لا خلاف بين الرواة في ذلك .

قرأ جمهور السبعة : «سأل » بهمزة مخففة ، قالوا والمعنى : دعا داع ، والإشارة إلى من قال من قريش { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم }{[11306]} [ الأنفال : 32 ] . وروي أن قائل ذلك النضر بن الحارث ، وإلى من قال : { ربنا عجل لنا قطنا }{[11307]} [ ص : 16 ] ، ونحو هذا ، وقال بعضهم المعنى : بحث باحث ، واستفهم مستفهم ، قالوا والإشارة إلى قول قريش : متى هذا الوعد{[11308]} ؟ وما جرى مجراه قاله الحسن وقتادة ، فأما من قال استفهم مستفهم فالباء توصل توصيل عن ، كأنه قال عن عذاب ، وهذا كقول علقمة بن عبدة : [ الطويل ]

فإن تسألوني بالنساء فإنني*** بصير بأدواء النساء طبيب{[11309]}

وقرأ نافع بن عامر : «سال سائل » ساكنة الألف ، واختلفت القراءة بها ، فقال بعضهم : هي «سأل » المهموزة ، إلا أن الهمزة سهلت كما قال لا هناك المرتع{[11310]}

ونحو ذلك . وقال بعض هي لغة من يقول سلت أسأل ، ويتساولان{[11311]} ، وهي بلغة مشهورة حكاها سيبويه ، فتجيء الألف منقلبة من الواو التي هي عين كقال وحاق ، وأما قول الشاعر [ حسان بن ثابت ] : [ البسيط ]

سالت هذيل رسول الله فاحشة*** ضلّت هذيل بما سالت ولم تصب{[11312]}

فإن سيبويه قال : هو على لغة تسهيل الهمزة . وقال غيره : هو على لغة من قال : سلت ، وقال بعضهم في الآية : هو من سال يسيل : إذا جرى وليست من معنى السؤال ، قال زيد بن ثابت : في جهنم واد يسمى سايلاً ، والأخبار هاهنا عنه .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل إن لم يصح أمر الوادي أن يكون الإخبار عن نفوذ القدر بذلك العذاب قد استعير له لفظ السيل لما عهد من نفوذ السيل وتصميمه ، وقرأ ابن عباس : «سال سيْل » بسكون الياء{[11313]} ، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود : «سال ساٍل » مثل قال قال ، ألقيت الياء من الخط تخفيفاً ، والمراد «سائل » . وسؤال الكفار عن العذاب حسب قراءة الجماعة إنما كان على أنه كذب . فوصفه الله تعالى بأنه { واقع } وعيداً لهم .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[11306]:جاء ذلك في الآية 32 من سورة الأنفال.
[11307]:جاء ذلك في الآية 16 من سورة ص.
[11308]:جاء ذلك في الآية 48 من سورة يونس.
[11309]:هذا البيت من قصيدته المشهورة التي قالها في مدح الحارث ملك الغساسنة في الشام بعد وقعة "يوم حليمة" والتي بدأها بقوله: (طحابك قلب في الحسان طروب)، والأدواء: جمع داء، ويريد هنا طباعهن الخفية التي هي بمنزلة المرض فيهن، يقول: إنه خبير بطباع النساء وبوسائل معالجتهن، ثم ذكر بعد ذلك شيئا من خبرته بهن، والشاهد أن الباء في "بالنساء" بمعنى "عن" والمعنى: فإن تسألوني عن النساء.
[11310]:هذه الجملة وردت في آخر بيت للفرزدق، والبيت بتمامه: راحت بمسلمة البغال عشية فارعي فزارة لا هناك المرتع وهو في الديوان، والكتاب لسيبويه، والخصائص لابن جني، والمحتسب له أيضا، وفي شرح شواهد الشافية، وفي ابن يعيش، والمقتضب، وابن الشجري، والمقرب، وقد قال الفرزدق هذا البيت حين عزل مسلمة بن عبد الملك، وتولى بعده عمر بن هبيرة الفزاري، فهجا الفرزدق الفزاريين، ودعا عليهم هنا ألا يهنئوا بولايته. والبغال في البيت هي البغال التي حملت مسلمة عند عزله، يقول: إن البغال قد حملت مسلمة عشية، وأصبحت أنت يا فزارة صاحبة الأمر، فتصرفي في الأمور، وتمتعي بالخيرات، ولا هنئت بها ولا نعمت ، والشاهد إبدال الألف من الهمزة في "هناك"، وهي في الحقيقة ضرورة شعرية، وكان من الصحيح أن تجعل بين بين لأنها متحركة لا ساكنة.
[11311]:في بعض النسخ: "سال يسال"، وقد قال الزمخشري حين ذكر هذه اللغة: "وهما يتسايلان" ونحسبه خطأ من الناسخ لأن الزمخشري يعرف أن الكلمة واوية هنا.
[11312]:هذا البيت لحسان بن ثابت الأنصاري، وهو بيت وحيد قاله حسان يعير هذيلا وكانت قد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباح لها الزنى، والشاهد فيه إبدال الهمزة ألفا من باب التسهيل وليس على لغة من قال: "سلت أسأل" قال الشنتمري:" لأن البيت لحسان وهذه ليست لغته". ومثل بيتي الفرزدق وحسان قول القرشي زيد بن عمرو بن نفيل عن زوجتيه حين طلبتا الطلاق منه: تلك عرساي تنطقان على عمـ ـد إلى اليوم قول زور وهتر سألتاني الطلاق أن رأتاني قل مالي، قد جئتماني بنكر وكون الشاعر من قريش ينفي أنه على لغة "سلت ولا يسال" بل هو من باب التخفيف بإبدال الهمزة ألفا.
[11313]:قال أبو الفتح تعليقا على هذه القراءة: "السيل هنا: الماء السائل، وأصله المصدر، من قولك: سال الماء سيلا، إلا أنه أوقع على الفاعل – أي قصد به معنى اسم الفاعل- كقوله تعالى: (إن أصبح ماؤكم غورا) أي: غائرا".