المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَٰكُمۡ وَرَآءَ ظُهُورِكُمۡۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ أَنَّهُمۡ فِيكُمۡ شُرَكَـٰٓؤُاْۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ} (94)

94- ويقول لهم الله يوم القيامة : لقد تأكدتم الآن بأنفسكم أنكم بعثتم أحياء من قبوركم كما خلقناكم أول مرة ، وجئتم إلينا منفردين عن المال والولد والأصحاب ، وتركتم وراءكم في الدنيا كل ما أعطيناكم إياه مما كنتم تغترون به ولا نرى معكم اليوم الشفعاء الذين زعمتم أنهم ينصرونكم عند الله ، وأنهم شركاء لله في العبادة ! لقد تقطعت بينكم وبينهم كل الروابط ، وغاب عنكم ما كنتم تزعمون أنهم ينفعونكم !

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَٰكُمۡ وَرَآءَ ظُهُورِكُمۡۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ أَنَّهُمۡ فِيكُمۡ شُرَكَـٰٓؤُاْۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ} (94)

{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ ْ } أي : أعطيناكم ، وأنعمنا به عليكم { وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ْ } لا يغنون عنكم شيئا { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ْ }

فإن المشركين يشركون بالله ، ويعبدون معه الملائكة ، والأنبياء ، والصالحين ، وغيرهم ، وهم كلهم لله ، ولكنهم يجعلون لهذه المخلوقات نصيبا من أنفسهم ، وشركة في عبادتهم ، وهذا زعم منهم وظلم ، فإن الجميع عبيد لله ، والله مالكهم ، والمستحق لعبادتهم . فشركهم في العبادة ، وصرفها لبعض العبيد ، تنزيل لهم منزلة الخالق المالك ، فيوبخون يوم القيامة ويقال لهم هذه المقالة .

{ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ْ } أي : تقطعت الوصل والأسباب بينكم وبين شركائكم ، من الشفاعة وغيرها فلم تنفع ولم تُجْد شيئا . { وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ْ } من الربح ، والأمن والسعادة ، والنجاة ، التي زينها لكم الشيطان ، وحسنها في قلوبكم ، فنطقت بها ألسنتكم . واغتررتم بهذا الزعم الباطل ، الذي لا حقيقة له ، حين تبين لكم نقيض ما كنتم تزعمون ، وظهر أنكم الخاسرون لأنفسكم وأهليكم وأموالكم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَٰكُمۡ وَرَآءَ ظُهُورِكُمۡۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ أَنَّهُمۡ فِيكُمۡ شُرَكَـٰٓؤُاْۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ} (94)

ثم صور - سبحانه - حالهم عندما يعرضون للحساب فقال : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } .

أى : ولقد جئتمونا للحساب والجزاء منعزلين ومنفردين عن الأموال والأولاد وعن كل ما جمعتموه فى الدنيا من متاع ، أو منفردين عن الأصنام والأوثان التى زعمتهم أنها شفعاؤكم عند الله .

وفرادى قيل هو جمع فرد ، وفريد وقيل : هو اسم جمع لأن فرداً لا يجمع على فرادى وقول من قال إنه جمع : أراد أنه جمع له فى المعنى .

وهذه الجملة الكريمة مستأنفة جاءت لبيان ما سيقوله الله لهؤلاء الظالمين يوم القيامة ، بعد بيان ما تقوله ملائكة العذاب عند موتهم .

وقوله : { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } تشبيه للمجىء أريد منه معنى الإحياء بعد الموت الذى كانوا ينكرونه فقد رأوه رأى العين .

أى : جئتمونا منعزلين عن كل ما كنتم تعتزون به فى الحياة الدنيا ، مجيئا مثل مجيئكم يوم خلقناكم أول مرة حفاة عراة . فالكاف فى محل نصب صفة لمصدر محذوف .

روى الشيخان عن ابن عباس قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : " أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا ( كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) " .

ورويا - أيضاً - عن عائشة قالت : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تحشرون حفاة عراة غرلا . قالت : يا رسول الله ، الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال صلى الله عليه وسلم : الأمر أشد من أن يهمهم ذلك " " .

وروى الطبرانى بسنده عن عائشة أنها قالت " قرأت قول الله - تعالى - { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } فقالت : يا رسول الله واسوأتاه ! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال ، شُغل بعضهم عن بعض " .

قوله : { وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } أى : تركتم ما أعطيناكم وملكناكم فى الدنيا من أموال وأولاد وغيرهما وراء ظهوركم ولم تحملوا منه معكم نقيرا عندما جئتمونا للحساب .

الخول : ما أعطاه الله لعباده من النعم : يقال : خوله الشىء تخويلا ، ملكه إياه ومكنه منه . ومنه التخول بمعنى التعهد .

والجملة الكريمة تتضمن توبيخهم ، لأنهم لم يقدموا منه شيئاً فى دنياهم ليكون نافعا لهم فى أخراهم ، بل جمعوه وتركوه لغيرهم دون أن ينتفعوا به فى معادهم .

وقد ثبت فى الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول ابن آدم : مالى ! مالى ! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس " .

وقوله : { وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ } تقريع وتوبيخ لهم على شركهم .

أى : ما نرى وما نبصر معكم من زعمتم أنهم سيشفعون لكم عند الله من الأصنام والأوثان التى توهمتم أنهم شركاء لله تعالى فى ربوبيتكم واستحقاقه عبادتكم .

وقوله { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } أى : لقد تقطع الاتصال الذى كان بينكم فى الدنيا واضمحل .

ففاعل { تَّقَطَّعَ } ضمير يعود على الاتصال المدلول عليه بلفظ { شُرَكَآءُ } و { بَيْنَكُمْ } منصوب على الظرفية .

وقرىء بالرفع أى : لقد تقطع شملكم فإن البين مصدر يستعمل فى الوصل وفى الفراق بالاشتراك ؛ والأصل لقد تقطع ما بينكم وقد قرىء به أى : تقطع ما بينكم من الأسباب والصلات .

{ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أى : وغلب عنكم ما كنتم تزعمون من شفاعة الشفعاء ، ورجاء الأنداد والأصنام . كما قال - تعالى - { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار } وهكذا يسوق القرآن مشهد هؤلاء الظالمين بتلك الصورة التى تهز النفوس ، وتحمل العقلاء على الإيمان والعمل الصالح .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَٰكُمۡ وَرَآءَ ظُهُورِكُمۡۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ أَنَّهُمۡ فِيكُمۡ شُرَكَـٰٓؤُاْۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ} (94)

74

ثم في النهاية ، ذلك التوبيخ والتأنيب من الله تعالى ، الذي كذبوا عليه ، وها هم أولاء بين يديه ، يواجههم في موقف الكربة والضيق :

( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) !

فما معكم إلا ذواتكم مجردة ؛ ومفردة كذلك . تلقون ربكم أفرادا لا جماعة . كما خلقكم أول مرة أفرادا ، ينزل أحدكم من بطن أمة فردا عريان أجرد غلبان !

ولقد ند عنكم كل شيء ، وتفرق عنكم كل أحد ؛ وما عدتم تقدرون على شيء مما ملككم الله إياه ؛ ( وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ) . .

تركتم كل شيء من مال وزينة ، وأولاد ومتاع ، وجاه وسلطان . . كله هناك متروك وراءكم ، ليس معكم شيء منه ، ولا تقدرون منه على قليل أو كثير !

( وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ) . .

هؤلاء الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم في الشدائد ، وكنتم تشركونهم في حياتكم وأموالكم ، وتقولون : إنهم سيكونون عند الله شفعاءكم [ كالذين كانوا يقولون : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ! ) ] سواء كانوا ناسا من البشر كهانا أو ذوي سلطان ؛ أو كانوا تماثيل من الحجر ، أو أوثانا ، أو جنا أو ملائكة ، أو كواكب أو غيرها مما يرمزون به إلى الآلهة الزائفة ، ويجعلون له شركا في حياتهم وأموالهم وأولادهم كما سيجيء في السورة .

فأين ؟ أين ذهب الشركاء والشفعاء ؟

( لقد تقطع بينكم ) . .

تقطع كل شيء . كل ما كان موصولا . كل سبب وكل حبل !

( وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) . .

وغاب عنكم كل ما كنتم تدعونه من شتى الدعاوى . ومنها أولئك الشركاء ، وما لهم من شفاعة عند الله أو تأثير في عالم الأسباب !

إنه المشهد الذي يهز القلب البشري هزا عنيفا . وهو يشخص ويتحرك ؛ ويلقي ظلاله على النفس ، ويسكب إيحاءاته في القلب ، ظلاله الرعيبة المكروبة ، وإيحاءاته العنيفة المرهوبة . .

إنه القرآن . . إنه القرآن . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَٰكُمۡ وَرَآءَ ظُهُورِكُمۡۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ أَنَّهُمۡ فِيكُمۡ شُرَكَـٰٓؤُاْۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ} (94)

{ ولقد جئتمونا } للحساب والجزاء . { فرادى } منفردين عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا ، أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم ، وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى . وقرئ " فراد " كرخال وفراد كثلاث وفردى كسكرى . { كما خلقناكم أول مرة } بدل من أنه أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد ، أو حال ثانية إن جوز التعدد فيها ، أو حال من الضمير في { فرادى } أي مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلا بهما ، أو صفة مصدر { جئتمونا } أي مجيئنا كما خلقناكم . { وتركتم ما خولناكم } ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة . { وراء ظهوركم } ما قدمت منهم شيئا ولم تحتملوا نقيرا . { وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } أي شركاء لله في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم . { لقد تقطع بينكم } أي تقطع وصلكم وتشدد جمعكم ، والبين من الأضداد يستعمل للوصل والفصل . وقيل هو الظرف أسند إليه الفعل اتساعا والمعنى : وقع التقطع بينكم ، ويشهد له قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب على إضمار الفاعل لدلالة ما قبله عليه ، أو أقيم مقام موصوفة وأصله لقد تقطع ما بينكم وقد قرئ به . { وظل عنهم } ضاع وبطل . { ما كنتم تزعمون } أنها شفعاؤكم أو أن لا بعث ولا جزاء .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَٰكُمۡ وَرَآءَ ظُهُورِكُمۡۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ أَنَّهُمۡ فِيكُمۡ شُرَكَـٰٓؤُاْۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ} (94)

هذه حكاية عما يقال لهم بعد قبض أرواحهم ، فإما عند خروجها من الأجساد وإما يوم القيامة كل ذلك محتمل ، و { فرادى } معناه فرداً فرداً ، والألف في آخره ألف تأنيث ومنه قول الشاعر [ ابن مقبل ] :

ترى النعرات الزرق تحت لبانه . . . فرادى ومثنى أصعقتها صواهله{[5019]}

وقرأ أبو حيوة «فرادىً » منوناً على وزن فعال وهي لغة تميم ، و { فرادى } قيل هو جمع فرَد بفتح الراء ، وقيل جمع فرْد بإسكان الراء{[5020]} ، والمقصد في الآية توقيف الكفار على انفرادهم وقلة النصير واحتياجهم إلى الله عز وجل بفقد الخول والشفعاء ، فيكون قوله : { كما خلقناكم أول مرة } تشبيهاً بالانفراد الأول في وقت الخلقة ، ويتوجه معنى آخر وهو أن يتضمن قوله : { كما خلقناكم } زيادة معان على الانفراد كأنه قال : ولقد جئتمونا فرادى وبأحوال كذا ، والإشارة على هذا بقوله كما هي إلى ما قاله النبي عليه السلام في صفة من يحشر أنهم يحشرون حفاة عراة غرلاً{[5021]} ، و { خولناكم } معناه أعطيناكم ، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد بيت زهير : [ الطويل ] :

هنالك إنْ يُسْتَخْوَلُوا المالَ يُخْوِلُوا . . . وإن يُسْألوا يُعْطُوا وإن َييْسِرُوا يُغْلُوا{[5022]}

{ وراء ظهوركم } إشارة إلى الدنيا لأنهم يتركون ذلك موجوداً .

وقوله تعالى : { وما نرى معكم شفعاءكم } الآية ، توقيف على الخطأ في عبادة الأصنام وتعظيمها ، قال الطبري : وروي أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث لأنه قال سوف تشفع له اللات والعزى .

قال القاضي أبو محمد : ومن كان من العرب يعتقد أنها تشفع وتقرب إلى الله زلفى ويرى شركتها بهذا الوجه فمخاطبته بالآية متمكن وهكذا كان الأكثر ، ومن كان منهم لا يقر بإله غيرها فليس هو في هذه الآية ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر ، وحمزة «بينُكم » بالرفع ، وقرأ نافع والكساء «بينَكم » بالنصب أما الرفع فعلى وجوه ، أولاها أنه الظرف استعمل اسماً وأسند إليه الفعل كما قد استعملوه ، اسماً في قوله تعالى : { من بيننا وبينك حجاب }{[5023]} وكقولهم فيما حكى سيبويه :«أحمر بين العينين » ، ورجح هذا القول أبو علي الفارسي ، والوجه الآخر أن بعض المفسرين منهم الزهراوي والمهدوي وأبو الفتح وسواهم حكوا أن «البين » في اللغة يقال على الافتراق وعلى الوصل فكأنه قال لقد تقطع وصلكم .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا عندي اعتراض لأن ذلك لم يرو مسموعاً{[5024]} عن العرب وإنما انتزع من الآية ، والآية محتملة ، قال الخليل في العين : «والبين :الوصل »لقوله عز وجل : { لقد تقطع بينكم } فعلل سوق اللفظة بالآية ، والآية معرضة لغير ذلك ، أما إن أبا الفتح قوى أن «البين » الوصل وقال : «وقد أتقن ذلك بعض المحدثين بقوله : قد أنصف البين من البين » .

والوجه الثالث من وجوه الرفع أن يكون «البين » على أصله في الفرقة من بان يبين إذا بعد ، ويكون في قوله : { تقطع } تجوز على نحو ما يقال في الأمر البعيد في المسافة تقطعت الفجاج بين كذا وكذا عبارة عن بعد ذلك ، ويكون المقصد لقد تقطعت المسافة بينكم لطولها فعبر عن ذلك «بالبين » الذي هو الفرقة ، وأما وجه قراءة النصب فأن يكون ظرفاً ويكون الفعل مستنداً إلى شيء محذوف وتقديره لقد تقطع الاتصال أو الارتباط بينكم أو نحو هذا .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا وجه واضح وعليه فسره الناس : مجاهد والسدي وغيرهما{[5025]} . وجه آخر يراه أبو الحسن الأخفش وهو أن يكون الفعل مسنداً إلى الظرف ويبقى الظرف على حال نصبه وهو في النية مرفوع ، ومثل هذا عنده قوله { وإنّا منا الصالحون ومنا دون ذلك }{[5026]} وقرأ ابن مسعود ومجاهد والأعمش «تقطع ما بينكم » بزيادة ما و { ضل } معناه تلف وذهب ، و { ما كنتم تزعمون } يريد دعواهم أنها تشفع وتشارك الله في الألوهية .


[5019]:- البيت لابن مقبل، كما قال في (اللسان)، وقد رواه في مادة (فرد) كما رواه ابن عطية رحمه الله هنا، وفي مادة (نعر) رواه كما يأتي: ترى النعرات الخضر حول لبانه أحاد ومثنى أصعقتها صواهله أي: قتلها صهيله. والنعرة مثال الهمزة: ذباب ضخم أزرق العين أخضر له إبرة في طرف ذنبه يلسع بها ذوات الحافر خاصة، وربما دخل في أنف الحمار فيركب رأسه ولا يرده شيء. واللبّان: الصدر، وقيل: وسطه، وقيل: الصدر من ذي الحافر خاصة، وفي قصيد كعب: ترمي اللّبان بكيفيها ومدرعها مشقق عن تراقيها رعابيل.
[5020]:- وقيل: جمع فرد بكسر الراء، وقيل: جمع فردان مثل سكارى وسكران كسالى وكسلان – (عن كتب اللغة).
[5021]:- روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: (إنكم محشورون حفاة عراة غرلا) {كما بدأنا أول خلق نعيده} الآية (الخ الحديث، وروى أيضا مثله عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة رضي الله عنها.
[5022]:- قال في (اللسان): "الاستخوال مثل الاستخبال، من أخبلته المال إذا أعرته ناقة لينتفع بألبانها وأوبارها، أو فرسا يغزو عليه، ومنه قول زهير". ثم ساق البيت.
[5023]:- من الآية (5) من سورة (فصلت).
[5024]:- الحقيقة أنه روي مسموعا عن العرب، ومن ذلك قول قيس بن ذريح: لعمرك لولا البين لا يقطع الهوى ولولا الهوى ما حنّ للبين آلف وقال آخر: لقد فرّق الواشين بيني وبينها فقرّت بذاك الوصل عيني وعينها وأنشد أبو عمرو في رفع (بين) قول الشاعر: كأن رماحنا أشطان بئر بعيد بيُن جاليها جرور.
[5025]:- عقّب أبو حيان على ذلك في "البحر المحيط 4/183" بقوله: "قوله: (إلى شيء محذوف) ليس بصحيح، لأن الفاعل لا يحذف"، ثم قال: "والذي يظهر لي أن المسألة من باب الإعمال- تسلط على [ما كنتم تزعمون] [تقطع] و[ضل]. فأعمل الثاني وهو [ضلّ]، وأضمر في [تقطع] ضمير [ما] وهم الأصنام، فالمعنى: "لقد تقطّع بينكم ما كنتم تزعمون وضلوا عنكم"اهـ.
[5026]:- من الآية (11) من سورة (الجن).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَٰكُمۡ وَرَآءَ ظُهُورِكُمۡۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ أَنَّهُمۡ فِيكُمۡ شُرَكَـٰٓؤُاْۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ} (94)

إن كان القول المقدّر في جملة { أخرجوا أنفسكم } [ الأنعام : 93 ] قولاً من قِبَل الله تعالى كان قوله { ولقد جئتمونا فرادى } عطفاً على جملة { أخرجوا أنفسكم } [ الأنعام : 93 ] ، أي يقال لهم حين دفعهم الملائكة إلى العذاب : أخرجوا أنفسكم ، ويقال لهم : لقد جئتمونا فرادى . فالجملة في محلّ النّصب بالقول المحذوف . وعلى احتمال أن يكون { غمرات الموت } [ الأنعام : 93 ] حَقيقة ، أي في حين النّزع يكون فعل { جئتمونا } من التّعبير بالماضي عن المستقبل القريب ، مثل : قد قامت الصّلاة ، فإنّهم حينئذٍ قاربوا أن يرجعوا إلى مَحض تصرّف الله فيهم .

وإن كان القول المقدّر قولَ الملائكة فجملة : { ولقد جئتمونا فُرادى } عطف على جملة : { ولو ترى إذ الظّالمون } [ الأنعام : 93 ] فانتقل الكلام من خطاب المعتبِرين بحال الظّالمين إلى خطاب الظّالمين أنفسهم بوعيدهم بما سيقول لهم يومئذٍ .

فعلى الوجه الأوّل يكون { جئتمونا } حقيقة في الماضي لأنّهم حينما يقال لهم هذا القول قد حصل منهم المجيء بين يدي الله . و ( قد ) للتّحقيق .

وعلى الوجه الثّاني يكون الماضي معبّراً به عن المستقبل تنبيهاً على تحقيق وقوعه ، وتكون ( قد ) ترشيحاً للاستعارة .

وإخبارهم بأنّهم جاءوا ليس المراد به ظاهر الإخبار لأنّ مجيئهم معلوم لهم ولكنّه مستعمل في تخطئتهم وتوقيفهم على صدق ما كانوا يُنذرون به على لسان الرّسول فينكرونه وهو الرّجوع إلى الحياة بعد الموت للحساب بين يدي الله . وقد يقصد مع هذا المعنى معنى الحصول في المِكنة والمصير إلى ما كانوا يحسبون أنّهم لا يصيرون إليه ، على نحو قوله تعالى : { ووجد الله عنده } [ النور : 39 ] ، وقول الرّاجز :

قد يُصبح الله إمام السّاري

والضّمير المنصوب في { جئتمونا } ضمير الجلالة وليس ضمير الملائكة بدليل قوله : { كما خلقناكم } .

و { فُرادى } حال من الضّمير المرفوع في { جئتمونا } أي منعزلين عن كلّ ما كنتم تعتزّون به في الحياة الأولى من مال وولد وأنصار ، والأظهر أنّ ( فُرادى ) جمع فَرْدَان مثل سُكارى لسَكران . وليس فُرادى المقصورُ مرادفاً لفُرادَ المعدوللِ لأنّ فُرادَ المعدول يدلّ على معنى فَرْداً فَرْداً ، مثل ثُلاث ورُباع من أسماء العدد المعدولة . وأمّا فرادى المقصور فهو جمع فردان بمعنى المنفرد . ووجه جمعه هنا أنّ كلّ واحد منهم جاء منفرداً عن ماله .

وقوله : { كما خلقناكم أوّل مرّة } تشبيه للمجيء أريد منه معنى الإحياء بعد الموت الّذي كانوا ينكرونه فقد رأوه رأي العين ، فالكاف لتشبيه الخلق الجديد بالخلق الأوّل فهو في موضع المفعول المطلق . و ( ما ) المجرورة بالكاف مصدريّة . فالتّقدير : كخلْقِنا إيّاكم ، أي جئتمونا مُعَادَيْن مخلوقين كما خلقناكم أوّل مرّة ، فهذا كقوله تعالى : { أفعيينا بالخلق الأوّل بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] .

والتّخويل : التفضّل بالعطاء . قيل : أصله إعطاء الخَوَل بفتحتين وهو الخدم ، أي إعطاء العبيد . ثمّ استعمل مجازاً في إعطاء مطلق ما ينفع ، أي تركتم ما أنعمنا به عليكم من مال وغيره .

و ( ما ) موصولة ومعنى تركهم إيّاه وراء ظهورهم بعدُهم عنه تمثيلاً لحال البعيد عن الشّيء بمن بارحه سائراً ، فهو يترك من يبارحه وراءه حين مبارحته لأنّه لو سار وهو بين يديه لبلغ إليه ولذلك يمثّل القاصد للشّيء بأنّه بين يديه ، ويقال للأمر الّذي يهيّئه المرءُ لنفسه : قد قدّمه .

{ وتَركتم } عطف على { جئتمونا } وهو يبيّن معنى { فرادى } إلاّ أنّ في الجملة الثّانية زيادة بيان لمعنى الانفراد بذكر كيفية هذا الانفراد لأنّ كلا الخبرين مستعمل في التّخطئة والتّنديم ، إذ جاءوا إلى القيامة وكانوا ينْفون ذلك المجيء وتركوا ما كانوا فيه في الدّنيا وكان حالهم حال من ينوي الخلود . فبهذا الاعتبار عطفت الجملة ولم تفصل . وأبو البقاء جعل الجملة حالاً من الواو في { جئتمونا } فيصير ترك ما خوّلوه هو محلّ التّنكيل .

وكذلك القول في جملة { وما نَرى معكم شفعاءكم } أنّها معطوفة على { جئتمونا وتركتم } لأنّ هذا الخبر أيضاً مراد به التّخطئة والتَّلهيف ، فالمشركون كانوا إذا اضطربت قلوبهم في أمر الإسلام علّلوا أنفسهم بأنّ آلهتهم تشفع لهم عند الله . وقد روى بعضهم : أنّ النّضر بن الحارث قال ذلك ، ولعلّه قاله استسخاراً أو جهلاً ، وأنّ الآية نزلت ردّاً عليه ، أي أن في الآية ما هو ردّ عليه لا أنّها نزلت لإبطال قوله لأنّ هذه الآيات متّصل بعضها ببعض ، وفي قوله : { وما نرى معكم شفعاءكم } بيان أيضاً وتقرير لقوله : { فرادى } .

وقوله : { وما نرى معكم شفعاءكم } تهكّم بهم لأنّهم لا شفعاء لهم فسيق الخطاب إليهم مساق كلام من يترقّب ، أي يرى شيئاً فلم يره على نحو قوله في الآية الأخرى { ويقول أين شركائي الّذين كنتم تُشَاقُّونِ فيهم } [ النحل : 27 ] ، بناء على أنّ نفي الوصف عن شيء يدلّ غالباً على وجود ذلك الشّيء ، فكان في هذا القول إيهام أنّ شفعاءهم موجودون سوى أنّهم لم يحضروا ، ولذلك جيء بالفعل المنفي بصيغة المضارع الدالّ على الحال دون الماضي ليشير إلى أنّ انتفاء رؤية الشّفعاء حاصل إلى الآن ، ففيه إيهام أنّ رؤيتهم محتملة الحصول بعد في المستقبل ، وذلك زيادة في التهكّم .

وأضيف الشّفعاء إلى ضمير المخاطبين لأنّه أريد شفعاء معهودون ، وهم الآلهة الّتي عبدوها وقالوا : { ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] . وقد زيد تقرير هذا المعنى بوصفهم بقوله : { الّذين زعمتم أنّهم فيكم شركاء } .

والزّعم : القول الباطل سواء كان عن تعمّد للباطل كما في قوله تعالى : { ألم تر إلى الّذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك } [ النساء : 60 ] أم كان عن سوء اعتقاد كما هنا ، وقوله : { ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للّذين أشركوا أين شركاؤكم الّذين كنتم تزعمون } [ الأنعام : 22 ] ، وقد تقدّم ذلك في هاتين الآيتين في سورة النساء وفي هذه السورة .

وتقديم المجرور في قوله : { فيكم شركاء } للاهتمام الّذي وجهُه التَعجيب من هذا المزعوم إذ جعلوا الأصنام شركاء لله في أنفسهم وقد علموا أنّ الخالق هو الله تعالى فهو المستحقّ للعبادة وحده فمن أين كانت شركة الأصنام لله في استحقاق العبادة ، يعني لو ادّعوا للأصنام شيئاً مغيباً لا يُعرف أصل تكوينه لكان العجب أقلّ ، لكن العجب كلّ العجب من ادّعائهم لهم الشركة في أنفسهم ، لأنّهم لمّا عبدوا الأصنام وكانت العبادة حقّاً لأجل الخالقيّة ، كان قد لزمهم من العبادة أن يزعموا أنّ الأصنام شركاء لله في أنْفُس خلقه ، أي في خلقهم ، فلذلك عُلِّقت النّفوس بالوصف الدالّ على الشركة .

وتقدّم معنى الشّفاعة عند قوله تعالى : { ولا يُقبل منها شفاعة } في سورة [ البقرة : 48 ] .

وجملة : { لقد تقطّع بينَكم } استئناف بياني لجملة : { وما نرى معكم شفعاءكم } لأنّ المشركين حين يسمعون قوله : { ما نَرى معكم شفعاءكم } يعتادهم الطّمع في لقاء شفعائهم فيتشوّفون لأن يعلموا سبيلهم ، فقيل لهم : لقدْ تقطَّع بينكم تأييساً لهم بعد الإطماع التهكمي ، والضّمير المضاف إليه عائد إلى المخاطبين وشفعائهم .

وقرأ نافع ، والكسائي ، وحفص عن عاصم بفتح نون { بينَكم } . ف ( بينَ ) على هذه القراءة ظرف مكان دالّ على مكان الاجتماع والاتّصال فيما يضاف هُو إليه . وقرأ البقيّة بضمّ نون { بينكم } على إخراج ( بين ) عن الظّرفية فصار اسماً متصرّفاً وأسند إليه التقطّع على طريقة المجاز العقلي .

وحذف فاعل تقطّع على قراءة الفتح لأنّ المقصود حصول التقطّع ، ففاعله اسم مُبهم ممّا يصلح للتقطّع وهو الاتّصال . فيقدّر : لقد تقطّع الحَبْل أو نحوُه . قال تعالى : { وتقطَّعت بهم الأسباب } [ البقرة : 166 ] . وقد صار هذا التّركيب كالمثَل بهذا الإيجاز . وقد شاع في كلام العرب ذكر التقطّع مستعاراً للبعد وبطلان الاتّصال تبعاً لاستعارة الحبل للاتّصال ، كما قال امرؤ القيس :

تَقَطَّعَ أسبابُ اللُّبانةِ والهوى *** عَشِيَّة جاوزنا حَمَاةَ وشَيْزَرا

فمن ثمّ حسن حذف الفاعل في الآية على هذه القراءة لدلالة المقام عليه فصَار كالمثل . وقدّر الزمخشري المصدر المأخوذ من { تقطّع } فاعلاً ، أي على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التّأويل ، أي وقع التقطّع بينَكم . وقال التفتزاني : « الأوْلى أنّه أسند إلى ضمير الأمْر لتقرّره في النّفوس ، أي تقطّع الأمْر بينكم » .

وقريب من هذا ما يقال : إنّ { بينكم } صفة أقيمت مقام الموصوف الّذي هو المسند إليه ، أي أمر بينكم ، وعلى هذا يكون الاستعمال من قبيل الضّمير الّذي لم يذكر مَعاده لكونه معلوماً من الفعل كقوله : { حتّى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] ، لكن هذا لا يعهد في الضّمير المستتر لأنّ الضّمير المستتر ليس بموجود في الكلام وإنّما دعا إلى تقديره وجود مَعاده الدّال عليه . فأمّا والكلام خليّ عن معاد وعن لفظ الضّمير فالمتعيّن أن نجعله من حذف الفاعل كما قرّرته لك ابتداء ، ولا يقال : إنّ { توارت بالحجاب } ليس فيه لفظ ضمير إذ التّاء علامة لإسناد الفعل إلى مؤنّث لأنَّا نقول : التّحقيق أنّ التّاء في الفعل المسند إلى الضّمير هي الفاعل .

وعلى قراءة الرّفع جعل { بينكم } فاعلاً ، أي أخرج عن الظّرفية وجعل اسماً للمكان الّذي يجتمع فيه ماصْدق الضمير المضاف إليه اسم المكان ، أي انفصل المكان الّذي كان محلّ اتّصالكم فيكون كناية عن انفصال أصحاب المكان الّذي كان محلّ اجتماع . والمكانية هنا مجازيّة مثل { لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله } [ الحجرات : 1 ]

وقوله : { وضلّ عنكم } عطف على { تقطّع بينكم } وهو من تمام التهكّم والتأييس . ومعنى ضلّ : ضدّ اهتدى ، أي جهل شفعاؤكم مكانكم لمّا تقطّع بينكم فلم يهتدوا إليكم ليشفعوا لكم . و ( ما ) موصولة ماصْدقها الشفعاء لاتّحاد صلتها وصلة { الّذين زعمتم أنّهم فيكم شركاء } ، أي الّذين كنتم تزعمونهم شركاء ، فحذف مفعولا الزّعم لدلالة نظيره عليهما في قوله : { زعمتم أنّهم فيكم شركاء } ، وعُبّر عن الآلهة ب ( ما ) الغالبة في غير العاقل لظهور عدم جدواها ، وفسّر ابن عطيّة وغيره ضَلّ بمعنى غاب وتلف وذهب ، وجعلوا ( ما ) مصدريّة ، أي ذهب زعمكم أنّها تشفع لكم . وما ذكرناه في تفسير الآية أبلغ وأوقع .