ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ } وهذا أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في خطابه ، أي : لا يرفع المخاطب له ، صوته معه ، فوق صوته ، ولا يجهر له بالقول ، بل يغض الصوت ، ويخاطبه بأدب ولين ، وتعظيم وتكريم ، وإجلال وإعظام ، ولا يكون الرسول كأحدهم ، بل يميزوه في خطابهم ، كما تميز عن غيره ، في وجوب حقه على الأمة ، ووجوب الإيمان به ، والحب الذي لا يتم الإيمان إلا به ، فإن في عدم القيام بذلك ، محذورًا ، وخشية أن يحبط عمل العبد وهو لا يشعر ، كما أن الأدب معه ، من أسباب [ حصول الثواب و ] قبول الأعمال .
ثم وجه - سبحانه - نداء ثانيا إلى المؤمنين ، أكد فيه وجوب احترامهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } .
قال الآلوسى : هذه الآية شروع فى النهى عن التجاوز فى كيفة القول عند النبى - صلى الله عليه وسلم - بعد النهى عن التجاوز فى نفس القول والفعل . وإعادة النداء مع قرب العهد به ، للمبالغة فى الإِيقاظ والتنبيه ، والإِشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه .
أى : يا من آمنتم بالله واليوم الآخر . . واظبوا على توقيركم واحترامكم لرسولكم - صلى الله عليه وسلم - ولا ترفعوا أصواتكم فوق صوته عند مخاطبتكم له . ولا تجعلوا أصواتكم مساوية لصوته - صلى الله عليه وسلم - حين الكلام معه ، ولا تنادوه باسمه مجردا بأن تقولوا له يا محمد ، ولكن قولوا له : يا رسول الله ، أو يا نبى الله .
والكاف فى قوله : { كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } فى محل نصب على أن نعت لمصدر محذوف أى : ولا تجهروا له بالقول جهرا مثل جهر بعضكم لبعض .
قال القرطبى : وفى هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا ، حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بلا همس والمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفته ، أعنى الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم ، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة ، وجلالة مقدارها ، وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها .
وقوله - سبحانه - : { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } بيان لما يترتب على رفع الصوت عند مخاطبته - صلى الله عليه وسلم - من خسران .
والجملة تعليل لما قبلها ، وهى فى محل نصب على أنها مفعول لأجله . أى : نهاكم الله - تعالى - عن رفع أصواتكم فوق صوت النبى ، وعن أن تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ، كراهة أو خشية أن يبطل ثواب أعمالكم بسبب ذلك ، وأنتم لا تشعرون بهذا البطلان .
قال ابن كثير : وقوله : { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } أى : إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده - صلى الله علهي وسلم - خشية أن يغضب من ذلك ، فيغضب الله لغضبه ، فيحبط الله عمل من أغضبه وهو لا يدرى . وقال العلماء : يكره رفع الصوت عند قبره ، كما كان يركه فى حياته ، لأنه محترم حيا وفى قبره .
ولقد امتثل الصحابة لهذه الإِرشادات امتثالا تاما ، فهذا " أبو بكر يروى عنه أنه لما نزلت هذه الآية قال : يا رسول الله ، والله لا أكلمك إلا كأخى السرار - أى : كالذى يتكلم همسا . وهذا ثبات بن قيس ، كان رفيع الصوت ، فلما نزلت هذه الآية : قال : أنا الذى كنت أرفع صوتى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا من أهل النار ، حبط عملى ، وجلس فى أهل بيته حزبنا . . فلما بلغ النبى - صلى الله عليه وسلم - ما قاله ثابت ، قال لأصحابه : " لا . بل هو من أهل الجنة " " .
قال بعض العلماء : وما تضمنته هذه الآية من لزوم توقير النبى - صلى الله عليه وسلم - جاء مبينا فى آيات أخرى ، منها قوله - تعالى - : { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } وقد دلت آيات من كتاب الله على أن الله - تعالى - لم خاطبه فى كتابه باسمه ، وإنما يخاطبه بما يدل على التعظيم كقوله - سبحانه - : { ياأيها النبي . ياأيها الرسول . ياأيها المدثر } .
مع أنه - سبحانه - قد نادى غيره من الأنبياء بأسمائهم ، كقوله - تعالى - : { وَقُلْنَا يَآءَادَمُ } وقوله - عز وجل - : { وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ } أما النبى - صلى الله عليه وسلم - فلم يذكر اسمه فى القرآن فى خطاب ، وإنما ذكر فى غير ذلك ، كقوله - تعالى - { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل }
والأدب الثاني هو أدبهم مع نبيهم في الحديث والخطاب ؛ وتوقيرهم له في قلوبهم ، توقيرا ينعكس على نبراتهم وأصواتهم ؛ ويميز شخص رسول الله بينهم ، ويميز مجلسه فيهم ؛ والله يدعوهم إليه بذلك النداء الحبيب ؛ ويحذرهم من مخالفة ذلك التحذير الرهيب :
( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) . .
يا أيها الذين آمنوا . . ليوقروا النبي الذي دعاهم إلى الإيمان . . أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون . . ليحذروا هذا المزلق الذي قد ينتهي بهم إلى حبوط أعمالهم ، وهم غير شاعرين ولا عالمين ، ليتقوه !
ولقد عمل في نفوسهم ذلك النداء الحبيب ، وهذا التحذير المرهوب ، عمله العميق الشديد :
قال البخاري : حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي ، حدثنا نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة . قال : كاد الخيران أن يهلكا . . أبو بكر وعمر رضي الله عنهما . . رفعا أصواتهما عند النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حين قدم عليه ركب بني تميم " في السنة التاسعة من الهجرة " فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس - رضي الله عنه - أخي بني مجاشع " أي ليؤمره عليهم " وأشار الآخر برجل آخر . قال نافع : لا أحفظ اسمه " في رواية أخرى أن اسمه القعقاع بن معبد " فقال : أبو بكر لعمر - رضي الله عنهما - ما أردت إلا خلافي . فقال : ما أردت خلافك . فارتفعت أصواتهما في ذلك . فأنزل الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) . قال ابن الزبير - رضي الله عنه - : فما كان عمر - رضي الله عنه - يسمع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد هذه الآية حتى يستفهمه ! وروي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال لما نزلت هذه الآية : قلت : يا رسول الله ، والله لا أكلمك إلا كأخي السرار " يعني كالهمس ! " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : لما نزلت هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي - إلى قوله : وأنتم لا تشعرون وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت . فقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنا من أهل النار . حبط عملي . وجلس في أهله حزينا . ففقده رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فانطلق بعض القوم إليه ، فقالوا له : تفقدك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مالك ? قال : أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأجهر له بالقول . حبط عملي . أنا من أهل النار . فأتوا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فأخبروه بما قال . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " لا . بل هو من أهل الجنة " . قال أنس - رضي الله عنه - : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة .
فهكذا ارتعشت قلوبهم وارتجفت تحت وقع ذلك النداء الحبيب ، وذلك التحذير الرعيب ؛ وهكذا تأدبوا في حضرة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون . ولو كانوا يشعرون لتداركوا أمرهم ! ولكن هذا المنزلق الخافي عليهم كان أخوف عليهم ، فخافوه واتقوه !
وقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } : هذا أدب ثان أدب الله به المؤمنين ألا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم [ فوق صوته ]{[27022]} . وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما .
وقال البخاري : حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي ، حدثنا نافع بن عمر ، عن ابن أبي مُلَيْكَة قال : كاد الخيِّران أن يهلكا ، أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر - قال نافع : لا أحفظ اسمه - فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي . قال : ما أردت خلافك . فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } الآية ، قال ابن الزبير : فما كان عمر يسمعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، ولم يذكر ذلك عن أبيه : يعني أبا بكر رضي الله عنه . انفرد به دون مسلم{[27023]} .
ثم قال البخاري : حدثنا حسن بن محمد ، حدثنا حَجَّاج ، عن ابن جُرَيْج ، حدثني ابن أبي مليكة : أن عبد الله بن الزبير أخبره : أنه قَدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أمرّ القعقاعَ بن مَعْبد . وقال عمر : بل أمرّ الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر : ما أردت إلى - أو : إلا - خلافي . فقال عمر : ما أردتُ خلافَك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزلت في ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، حتى انقضت الآية ، { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ } الآية [ الحجرات : 5 ] .
وهكذا رواه هاهنا منفردا به أيضا{[27024]} .
وقال{[27025]} الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا الفضل بن سهل ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا حصين بن عُمَر ، عن مُخَارق ، عن طارق بن شهاب ، عن أبى بكر الصديق قال : لما نزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } ، قلت : يا رسول الله ، والله لا أكلمك إلا كأخي السّرار{[27026]} .
حصين بن عمر هذا - وإن كان ضعيفًا - لكن قد رويناه من حديث عبد الرحمن بن عوف ، وأبي هريرة [ رضي الله عنه ]{[27027]} بنحو ذلك ، والله أعلم{[27028]} .
وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا أزهر بن سعد ، أخبرنا ابن عون ، أنبأني موسى بن أنس{[27029]} ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس ، فقال رجل : يا رسول الله ، أنا أعلم لك علمه . فأتاه فوجده في بيته مُنَكِّسًا رأسه ، فقال له : ما شأنك ؟ فقال : شر ، كان يَرْفَعُ صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد حبط عمله ، فهو من أهل النار . فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا ، قال موسى : فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال : " اذهب إليه فقل له : إنك لست من أهل النار ، ولكنك من أهل الجنة " تفرد به البخاري من هذا الوجه{[27030]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا {[27031]} سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس قال : لما نزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } إلى : { وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } ، وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حبط عملي ، أنا من أهل النار ، وجلس في أهله حزينا ، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له : تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما لك ؟ قال : أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم ، وأجهر له بالقول حبط عملي ، أنا من أهل النار . فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال ، فقال : " لا بل هو من أهل الجنة " . قال أنس : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة . فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف ، فجاء ثابت بن قيس بن شماس ، وقد تحنط ولبس كفنه ، فقال : بئسما تُعوّدون أقرانكم . فقاتلهم حتى قُتل{[27032]} {[27033]} .
وقال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البُناني ، عن أنس بن مالك قال : لما نزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } إلى آخر الآية ، جلس ثابت في بيته ، قال : أنا من أهل النار . واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال{[27034]} النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ : " يا أبا عمرو ، ما شأن ثابت ؟ أشتكى ؟ " فقال سعد : إنه لجاري ، وما علمت له بشكوى . قال : فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله {[27035]} صلى الله عليه وسلم ، فقال ثابت : أُنزلَت هذه الآية ، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنا من أهل النار . فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل ، هو من أهل الجنة " .
ثم رواه مسلم عن أحمد بن سعيد {[27036]} الدارمي ، عن حَيَّان بن هلال ، عن سليمان بن المغيرة ، به ، قال : ولم يذكر سعد بن معاذ . وعن قطن بن نُسَير عن جعفر بن سليمان{[27037]} ، عن ثابت ، عن أنس بنحوه . وقال : ليس فيه ذكر سعد بن معاذ .
حدثنا هُرَيم{[27038]} بن عبد الأعلى الأسدي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي يذكر ، عن ثابت ، عن أنس قال : لما نزلت هذه الآية ، واقتص الحديث ، ولم يذكر سعد بن معاذ ، وزاد : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رَجلٌ من أهل الجنة . {[27039]} .
فهذه الطرق الثلاث مُعَلّلة لرواية حماد بن سلمة ، فيما تفرد به من ذكر سعد بن معاذ . والصحيح : أن حال نزول هذه الآية لم يكن سعد بن معاذ موجودًا ؛ لأنه كان قد مات بعد بني قريظة بأيام قلائل سنة خمس ، وهذه الآية نزلت في وفد بني تميم ، والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة ، والله أعلم .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثنا أبو ثابت بن ثابت بن قيس بن شمَّاس ، حدثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس ، عن أبيه قال : لما نزلت هذه الآية : { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ } قال : قعد ثابت بن قيس{[27040]} في الطريق يبكي ، قال : فمر به عاصم بن عدي من بني العَجلان ، فقال : ما يبكيك يا ثابت ؟ قال : هذه الآية ، أتخوف أن تكون نزلت فيَّ وأنا صيت ، رفيع الصوت . قال : فمضى عاصم بن عدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وغلبه البكاء ، فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أبي بن سلول فقال لها : إذا دخلتُ بيت فَرَسي فشدّي عَلَيّ الضبَّة بمسمار فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه ، وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله ، عز وجل ، أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : وأتى عاصم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره ، فقال : " اذهب فادعه لي " . فجاء عاصم إلى المكان فلم يجده ، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفَرَس ، فقال له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك . فقال : اكسر الضبة . قال : فخرجا فأتيا{[27041]} النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك يا ثابت ؟ " . فقال : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في : { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ } . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما ترضى أن تَعِيش حَميدًا ، وتقتل شهيدا ، وتدخل الجنة ؟ " . فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا أرفع صوتي أبدا على صوت النبي صلى الله عليه وسلم . قال : وأنزل الله : { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } {[27042]} . {[27043]}
وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين كذلك ، فقد نهى الله عز وجل ، عن رفع الأصوات بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] {[27044]} أنه سمع صَوت رجلين في مسجد رسول الله{[27045]} صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما ، فجاء ، فقال : أتدريان أين أنتما ؟ ثم قال : مِن أين أنتما ؟ قالا من أهل الطائف . فقال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا{[27046]} .
وقال العلماء : يكره رفع الصوت عند قبره ، كما كان يكره في حياته ؛ لأنه محترم حيا وفي قبره ، صلوات الله وسلامه عليه{[27047]} ، دائما . ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه ، بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم ؛ ولهذا قال : { وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } ، كما قال : { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } [ النور : 63 ] .
وقوله : { أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } أي : إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك ، فيغضب الله لغضبه ، فيحبط الله عمل من أغضبه وهو لا يدري ، كما جاء في الصحيح : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بَالا يكتب له بها الجنة . وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يُلقي لها بالا يَهْوِي بها في النار أبعد ما بين السموات والأرض " {[27048]} .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا } الآية هي أيضاً في ذلك الفن المتقدم ، وروى حيح أنها نزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت والعنجهية ، وكان ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه في صوته جهارة ، فلما نزلت هذه الآية اهتم وخاف على نفسه وجلس في بيته لم يخرج ، وهو كئيب حزين حتى عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره فبعث فيه فأنسه وقال له : «امش في الأرض بسطاً فإنك من أهل الجنة »{[10446]} . وقال له مرة : «أما ترضى أن تعيش حميداً وتموت شهيداً » فعاش كذلك ، ثم قتل باليمامة يوم مسيلمة{[10447]} .
وفي قراءة ابن مسعود : «لا ترفعوا بأصواتكم » بزيادة الباء .
وقوله : { كجهر بعضكم لبعض } أي كحال جهركم في جفائه وكونه مخاطبة بالأسماء والألقاب ، وكانوا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم . با محمد يا محمد ، قاله ابن عباس وغيره ، فأمرهم الله بتوقيره ، وأن يدعوه بالرسالة والنبوءة والكلام اللين ، فتلك حالة الموقر ، وكره العلماء رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم . وبحضرة العالم وفي المساجد ، وفي هذه كلها آثار .
وقوله تعالى : { أن تحبط } مفعول من أجله ، أي مخافة { أن تحبط } ، والحبط : إفساد العمل بعد تقرره ، يقال حبِط بكسر الباء وأحبطه الله ، وهذا الحبط إن كانت الآية معرضة بمن يفعل ذلك استخفافاً واستحقاراً وجرأة فذلك كفر . والحبط معه على حقيقته ، وإن كان التعريض للمؤمن الفاضل الذي يفعل ذلك غفلة وجرياً على طبعه ، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم وغض الصوت عنده أن لو فعل ذلك ، فكأنه قال : أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها . ويحتمل أن يكون المعنى : أن تأثموا ويكون ذلك سبباً إلى الوحشة في نفوسكم ، فلا تزال معتقداتكم تتجرد القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فتحبط الأعمال حقيقة . وظاهر الآية أنها مخاطبة لفضلاء المؤمنين الذين لا يفعلون ذلك احتقاراً ، وذلك أنه لا يقال لمنافق يعمل ذلك جرأة وأنت لا تشعر ، لأنه ليس له عمل يعتقده هو عملاً . وفي قراءة عبد الله بن مسعود : «فتحبط أعمالكم » .