{ 110-111 } { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا }
بقول تعالى لعباده : { ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ } أي : أيهما شئتم . { أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } أي : ليس له اسم غير حسن ، أي : حتى ينهى عن دعائه به ، أي : اسم دعوتموه به ، حصل به المقصود ، والذي ينبغي أن يدعى في كل مطلوب ، مما يناسب ذلك الاسم .
{ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ } أي : قراءتك { وَلَا تُخَافِتْ بِهَا } فإن في كل من الأمرين محذورًا . أما الجهر ، فإن المشركين المكذبين به إذا سمعوه سبوه ، وسبوا من جاء به .
وأما المخافتة ، فإنه لا يحصل المقصود لمن أراد استماعه مع الإخفاء { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ } أي : بين الجهر والإخفات { سَبِيلًا } أي : تتوسط فيما بينهما .
ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى . . } ذكروا روايات منها : ما أخرجه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : " وصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ذات يوم فدعا الله - تعالى - فقال : يا الله ، يا رحمن ، فقال المشركون : انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فنزلت " .
ومعنى : ادعوا ، سموا ، و { أو } للتخيير . و { أيا } اسم شرط جازم منصوب على المفعولية بقوله : { ادعوا } والمضاف إليه محذوف ، أى : أى الاسمين . { وتدعو } مجزوم على أنه فعل الشرط لأيًّا ، وجملة { فَلَهُ الأسمآء الحسنى } واقعة موقع جواب الشرط ، و { ما } مزيدة للتأكيد . والحسنى : مؤنث الأحسن الذى هو أفعل تفضيل .
والمعنى : قل يا محمد للناس : سموا المعبود بحق بلفظ الله أو بلفظ الرحمن بأى واحد منهما سميتموه فقد أصبتم ، فإنه - تعالى - له الأسماء الأحسن من كل ما سواه ، وقال - سبحانه - : { فَلَهُ الأسمآء الحسنى } للمبالغة فى كمال أسمائه - تعالى - وللدلالة على أنه ما دامت أسماؤه كلها حسنة ، فلفظ الله ولفظ الرحمن كذلك ، كل واحد منهما حسن .
وقد ذكر الجلالان عند تفسيرهما لهذه الآية ، أسماء الله الحسنى ، فارجع إليها إن شئت .
وقوله - سبحانه - : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } تعليم من الله - تعالى - لنبيه كيفية أفضل طرق القراءة فى الصلاة .
فالمراد بالصلاة هنا : القراءة فيها . والجهر بها : رفع الصوت أثناءها ، والمخافتة بها : خفضه بحيث لا يسمع . يقال : خفت الرجل بصوته إذا لم يرفعه ، والكلام على حذف مضاف .
والمعنى : ولا تجهر يا محمد فى قراءتك خلال الصلاة ، حتى لا يسمعها المشركون فيسبوا القرآن ، ولا تخافت بها ، حتى لا يسمعها من يكون خلفك ، بل أسلك فى ذلك طريقا وسطا بين الجهر والمخافتة .
ومما يدل على أن المراد بالصلاة هنا : القراءة فيها ، ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عباس .
قال : نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة ، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمع ذلك المشركون ، سبوا القرآن ، ومن أنزله ومن جاء به ، فأمره الله بالتوسط .
وقيل : المراد بالصلاة هنا : الدعاء . أى : لا ترفع صوتك وأنت تدعو الله ، ولا تخافت به . وقد روى ذلك عن عائشة ، فقد أخرج الشيخان عنها أنها نزلت فى الدعاء .
ويبدو لنا أن التوجيهات التى بالآية الكريمة تتسع للقولين ، أى : أن على المسلم أن يكون متوسطًا فى رفع صوته بالقراءة فى الصلاة ، وفى رفع صوته حال دعائه .
هذا المشهد الموحي للذين أتوا العلم من قبل يعرضه السياق بعد تخيير القوم في أن يؤمنوا بهذا القرآن أولا يؤمنوا ، ثم يعقب عليه بتركهم يدعون اللّه بما بما شاءوا من الأسماء - وقد كانوا بسبب أوهامهم الجاهلية ينكرون تسمية اللّه بالرحمن ، ويستبعدون هذا الاسم من أسماء اللّه - فكلها اسماؤه فما شاءوا منها فليدعوه بها :
قل : ادعو اللّه أو ادعوا الرحمن . أيّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى .
وإن هي إلا سخافات الجاهلية وأوهام الوثنية التي لا تثبت للمناقشة والتعليل .
كذلك يؤمر الرسول [ ص ] أن يتوسط في صلاته بين الجهر والخفوت لما كانوا يقابلون به صلاته من استهزاء وايذاء ، أو من نفور وابتعاد ولعل الأمر كذلك لأن التوسط بين الجهر والخفاء أليق بالوقوف في حضرة الله :
يقول تعالى : قل يا محمد ، لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله ، عز وجل ، المانعين من تسميته بالرحمن : { ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } أي : لا فرق بين دعائكم له باسم " الله " أو باسم{[17894]} " الرحمن " ، فإنه ذو الأسماء الحسنى ، كما قال تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } إلى أن قال : { لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الحشر : 22 - 24 ] .
وقد روى مكحول{[17895]} أن رجلا من المشركين سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول في سجوده : " يا رحمن يا رحيم " ، فقال : إنه يزعم أنه يدعو واحدًا ، وهو يدعو اثنين . فأنزل الله هذه الآية . وكذا روي عن ابن عباس ، رواهما ابن جرير .
وقوله : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } الآية ، قال الإمام أحمد :
حدثنا هُشَيْم ، حدثنا أبو بشر ، عن{[17896]} سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نزلت{[17897]} هذه الآية وهو متوار بمكة { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا [ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ] }{[17898]} قال : كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ، وسبوا من أنزله ، ومن جاء به . قال : فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } أي : بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن { وَلا تُخَافِتْ بِهَا } عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } .
أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس ، به{[17899]} وكذا روى{[17900]} الضحاك عن ابن عباس ، وزاد : " فلما هاجر إلى المدينة ، سقط ذلك ، يفعل أيّ ذلك شاء " {[17901]} .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي ، تفرقوا عنه وأبوا أن يسمعوا منه ، فكان الرجل إذا أراد أن يستمع{[17902]} من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو وهو يصلي ، استرق السمع دونهم فرقًا منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع{[17903]} ، ذهب خشية أذاهم فلم يستمع{[17904]} ، فإن خفض صوته صلى الله عليه وسلم{[17905]} لم يستمع الذين{[17906]} يستمعون من قراءته شيئًا ، فأنزل الله { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } فيتفرقوا عنك { وَلا تُخَافِتْ بِهَا } فلا تُسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك دونهم ، لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع ، فينتفع به { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا }
وهكذا قال عكرمة ، والحسن البصري ، وقتادة : نزلت هذه الآية في القراءة في الصلاة .
وقال شعبة عن أشعث بن أبي سليم{[17907]} عن الأسود بن هلال ، عن ابن مسعود : لم يُخافتْ بها مَنْ أسمع أذنيه .
قال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين قال : نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته ، وأن عمر كان يرفع صوته ، فقيل لأبي بكر : لم تصنع هذا ؟ قال : أناجي ربي ، عز وجل ، وقد علم حاجتي . فقيل : أحسنت . وقيل لعمر : لم تصنع هذا ؟ قال : أطرد الشيطان ، وأوقظ الوَسْنَان . قيل أحسنت . فلما نزلت : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } قيل لأبي بكر : ارفع شيئًا ، وقيل لعمر : اخفض شيئًا{[17908]} .
وقال أشعث بن سَوَّار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : نزلت في الدعاء . وهكذا روى الثوري ، ومالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : نزلت في الدعاء . وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو عِياض ، ومكحول ، وعروة بن الزبير .
وقال الثوري عن [ ابن ]{[17909]} عياش العامري ، عن عبد الله بن شداد قال : كان أعراب من بني تميم إذا سلم النبي{[17910]} صلى الله عليه وسلم قالوا : اللهم ارزقنا إبلا وولدًا . قال : فنزلت هذه الآية : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا }
قول آخر : قال ابن جرير : حدثنا أبو السائب ، حدثنا حفص بن غياث ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، نزلت{[17911]} هذه الآية في التشهد : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا }
وبه قال حفص ، عن أشعث بن سوار ، عن محمد بن سيرين ، مثله .
قول آخر : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا } قال : لا تصل مراءاة الناس ، ولا تدعها مخافة الناس . وقال الثوري ، عن منصور ، عن الحسن البصري : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا } قال : لا تحسن علانيتها وتسيء سريرتها . وكذا رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحسن ، به . وهُشَيْم ، عن عوف ، عنه به . وسعيد ، عن قتادة ، عنه كذلك .
قول آخر : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } قال : أهل الكتاب يخافتون ، ثم يجهر أحدهم بالحرف فيصيح به ، ويصيحون هم به وراءه ، فنهاه أن يصيح كما يصيح هؤلاء ، وأن يخافت كما يخافت القوم ، ثم كان السبيل الذي بين ذلك ، الذي سن له جبريل من الصلاة .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرّحْمََنَ أَيّاً مّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسْمَآءَ الْحُسْنَىَ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه : قل يا محمد لمشركي قومك المنكرين دعاء الرحمن : ادْعُوا اللّهَ أيها القوم أوِ ادْعُوا الرّحْمَنَ أيّا مّا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنَى بأيّ أسمائه جلّ جلاله تدعون ربكم ، فإنما تدعون واحدا ، وله الأسماء الحُسنى . وإنما قيل ذلك له صلى الله عليه وسلم ، لأن المشركين فيما ذكر سمعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو ربه : يا ربنا الله ، ويا ربنا الرحمن ، فظنوا أنه يدعو إلهين ، فأنزل الله على نبيه عليه الصلاة والسلام هذه الاَية احتجاجا لنبيه عليهم . ذكر الرواية بما ذكرنا :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني محمد بن كثير ، عن عبد الله بن واقد ، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس . قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ساجدا يدعو : «يا رَحْمَنُ يا رَحيمُ » ، فقال المشركون : هذا يزعم أنه يدعو واحدا ، وهو يدعو مثنى مثنى ، فأنزل الله تعالى : قُلِ ادْعُوا اللّهَ أوِ ادْعُوا الرّحْمَنَ أيّا مّا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنَى . . . الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني عيسى ، عن الأوزاعي ، عن مكحول ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتهجّد بمكة ذات ليلة ، يقول في سجوده : «يا رَحْمَنُ يا رَحيمُ » ، فسمعه رجل من المشركين ، فلما أصبح قال لأصحابه : انظروا ما قال ابن أبي كبشة ، يدعو الليلة الرحمن الذي باليمامة ، وكان باليمامة رجل يقال له الرحمن : فنزلت : قُلِ ادْعُوا اللّهَ أوِ ادْعُوا الرّحْمَنَ أيّا مّا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنَى » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قُلِ ادْعُوا اللّهَ أوِ ادْعُوا الرّحْمَن أيّا مّا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنَى .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أيّا مّا تَدْعُوا بشيء من أسمائه .
حدثني موسى بن سهل ، قال : حدثنا محمد بن بكار البصري ، قال : ثني حماد بن عيسى ، عن عبيد بن الطفيل الجهني ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، عن مكحول ، عن عَرّاك بن مالك ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ لِلّهِ تسْعَةً وَتسْعينَ اسْما كُلّهُنّ في القُرآنِ ، مَنْ أحْصَاهنّ دَخَلَ الجَنّةَ » .
قال أبو جعفر : ولدخول «ما » في قوله أيّا مّا تَدْعُوا وجهان : أحدهما أن تكون صلة ، كما قيل : عَمّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنّ نَادِمِينَ . والاَخر أن تكون في معنى إن : كررت لما اختلف لفظاهما ، كما قيل : ما إن رأيت كالليلة ليلة .
وقوله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً اختلف أهل التأويل في الصلاة ، فقال بعضهم : عنى بذلك : ولا تجهر بدعائك ، ولا تخافت به ، ولكن بين ذلك . وقالوا : عنى بالصلاة في هذا الموضع : الدعاء . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن عيسى الدامغاني ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، في قوله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قالت : في الدعاء .
حدثنا بشار ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : نزلت في الدعاء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة مثله .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن أشعث بن سوار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قول الله تعالى : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : كانوا يجهرون بالدعاء ، فلما نزلت هذه الاَية أُمروا أن لا يجهروا ، ولا يخافتوا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا حماد ، عن عمرو بن مالك البكري ، عن أبي الجوزاء عن عائشة ، قالت : نزلت في الدعاء .
حدثني مطر بن محمد الضبي ، قال : حدثنا عبد الله بن داود ، قال : حدثنا شريك ، عن زياد بن فياض ، عن أبي عياض ، في قوله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : الدعاء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن إبراهيم الهَجري ، عن أبي عياض وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : نزلت في الدعاء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شريك ، عن زياد بن فياض ، عن أبي عياض مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان عمن ذكره عن عطاء وَلا تَجْهَرْ بصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : نزلت في الدعاء .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد في الاَية : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بها قال : في الدعاء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، قال : نزلت في الدعاء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها في الدعاء والمسألة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : نزلت في الدعاء والمسألة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : ثني سفيان ، قال : ثني قيس بن مسلم ، عن سعيد بن جبير في قوله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : في الدعاء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن عياش العامري ، عن عبد الله بن شدّاد قال : كان أعراب إذا سلم النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا : اللهمّ ارزقنا إبلاً وولدا ، قال : فنزلت هذه الاَية : وَلا تَجْهَرْ بصَلاتكَ وَلا تُخافتْ بها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله وَلا تَجْهَرْ بصَلاتكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : في الدعاء .
حدثني ابن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ . . . الاَية ، قال : في الدعاء والمسألة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني عيسى ، عن الأوزاعي ، عن مكحول وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : ذلك في الدعاء .
وقال آخرون : عنى بذلك الصلاة . واختلف قائلو هذه المقالة في المعنى الذي عنى بالنهي عن الجهر به ، فقال بعضهم : الذي نهى عن الجهر به منها القراءة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : نزلت هذه الاَية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ، ومن جاء به ، قال : فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيسمع المشركون وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك ، فلا تُسْمِعهم القرآن حتى يأخذوا عنك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمار ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا جهر بالصلاة بالمسلمين بالقرآن ، شقّ ذلك على المشركين إذا سمعوه ، فيُؤْذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشتم والعيب به ، وذلك بمكة ، فأنزل الله : يا محمد لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ يقول : لا تُعلِنْ بالقراءة بالقرآن إعلانا شديدا يسمعه المشركون فيؤذونك ، ولا تخافت بالقراءة القرآن : يقول : لا تخفض صوتَك حتى لا تُسْمِع أذنيك وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً يقول : اطلب بين الإعلان والجهر وبين التخافت والخفض طريقا ، لا جهرا شديدا ، ولا خفضا لا تُسْمع أذنيك ، فذلك القدر فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سقط هذا كله ، يفعل الاَن أيّ ذلك شاء .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها . . . الاَية ، هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة كان إذا صلى بأصحابه ، فرفع صوته بالقراءة أسمع المشركين ، فآذوه ، فأمره الله أو لا يرفع صوته ، فيسمع عدوّه ، ولا يخافت فلا يُسْمِع مَن خلفه من المسلمين ، فأمره الله أن يبتغي بين ذلك سبيلاً .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالقرآن ، فكان المشركون إذا سمعوا صوته سبّوا القرآن ، ومن جاء به فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخفي القرآن فما يسمعه أصحابه ، فأنزل الله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بينَ ذلك سَبِيلاً .
حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : سمعت أبي ، يقول : أخبرنا أبو حمزة عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع صوته وسَمع المشركون ، سبّوا القرآن ، ومن جاء به ، وإذا خفض لم يسمع أصحابه ، قال الله : وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني داود بن الحُصَين ، من عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرّقوا ، وأَبَوا أن يستمعوا منه ، فكان الرجل إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو ، وهو يصلي ، استرق السمع دونهم فرقا منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ، ذهب خشية أذاهم ، فلم يستمع ، فإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته ، لم يستمع الذين يستمعون من قراءته شيئا ، فأنزل الله عليه : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيتفرّقوا عنك وَلا تُخافِتْ بِها فلا تُسْمِع من أراد أن يسمعها ، ممن يسترق ذلك دونهم ، لعله يرعَوِي إلى بعض ما يسمع ، فينتفع به ، وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجهر بقراءة القرآن في المسجد الحرام ، فقالت قريش : لا تجهر بالقراءة فتؤذي آلهتنا ، فنهجو ربك ، فأنزل الله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها . . . الاَية .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، في قوله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مختف بمكة ، فكان إذا صلى بأصحابه رفع الصوت بالقرآن ، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ، ومن جاء به ، فقال الله لنبيه : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ : أي بقراءتك ، فيسمع المشركون ، فيسبّوا القرآن وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك ، فلا تسمعهم وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، في قوله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : في القراءة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في هذه الاَية وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رفع صوته أعجب ذلك أصحابه ، وإذا سمع ذلك المشركون سبّوه ، فنزلت هذه الاَية .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سلمة ، عن علقمة ، عن محمد بن سيرين ، قال : نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته ، وأن عمر كان يرفع صوته قال : فقيل لأبي بكر : لم تصنع هذا ؟ فقال : أناجي ربي ، وقد علم حاجتي ، قيل : أحسنت وقيل لعمر : لم تصنع هذا ؟ قال : أطرد الشيطان ، وأوقظ الوسنان ، قيل : أحسنت فلما نزلت وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً قيل لأبي بكر : ارفع شيئا ، وقيل لعمر : اخفض شيئا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا حسان بن إبراهيم ، عن إبراهيم الصائغ ، عن عطاء ، في قوله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : يقول ناس إنها في الصلاة ، ويقول آخرون إنها في الدعاء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً وكان نبيّ الله وهو بمكة ، إذا سمع المشركون صوته رموه بكلّ خبث ، فأمره الله أن يغضّ من صوته ، وأن يجعل صلاته بينه وبين ربه ، وكان يقال : ما سمعته أذنك فليس بمخافتة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالصلاة ، فيُرمَى بالخبث ، فقال : لا ترْفعْ صَوْتكَ فتُؤْذَى وَلا تُخافِتْ بِها ، وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً .
وقال آخرون : إنما عُنِي بذلك : ولا تجهر بالتشهد في صلاتك ، ولا تخافت بها . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص بن غِياث ، عن هشام بن عُروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : نزلت هذه الاَية في التشهد وَلا تَجْهَرْ بصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص ، عن أشعث ، عن ابن سيرين مثله . وزاد فيه : وكان الأعرابيّ يجهر فيقول : التحيات لله ، والصلوات لله ، يرفع فيها صوته ، فنزلت وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ .
وقال آخرون : بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة جِهارا ، فأمر بإخفائها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن البصري قالا : قال في بني إسرائيل وَلا تَجْهرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بيَن ذلكَ سَبِيلاً وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى يجهر بصلاته ، فآذى ذلك المشركين بمكة ، حتى أخفى صلاته هو وأصحابه ، فلذلك قال وَلا تَجَهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بيْنَ ذلكَ سَبِيلاً وقال في الأعراف : وَاذْكُرْ رَبّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرّعا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بالغُدُوّ والاَصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الغافِلِينَ .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تجهر بصلاتك تحسنها من إتيانها في العلانية ، ولا تخافت بها : تسيئها في السريرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن أنه كان يقول : ولاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها : أي لا تراء بها عَلاَنية ، ولا تخفها سرّا وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : كان الحسن يقول في قوله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : لا تحسن علانيتها ، وتسيء سريرتها .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولاَ تُخافِتْ بِها قال : لا تراء بها في العلانية ، ولا تخفها في السريرة .
حدثني عليّ بن الحسن الأزرقي ، قال : حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن الحسن وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : تحسن علانيتها ، وتسيء سريرتها .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولاَ تُخافِتْ بِها قال : لا تصلّ مراءاة الناس ولا تدعها مخافة . وقال آخرون في ذلك ما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتِغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً قال : السبيل بين ذلك الذي سنّ له جبرائيل من الصلاة التي عليها المسلمون . قال : وكان أهل الكتاب يُخافتون ، ثم يجهر أحدهم بالحرف ، فيصيح به ، ويصيحون هم به وراءه ، فنهى أن يصيح كما يصيح هؤلاء ، وأن يُخافت كما يُخافت القوم ، ثم كان السبيل الذي بين ذلك ، الذي سنّ له جبرائيل من الصلاة .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، ما ذكرنا عن ابن عباس في الخبر الذي رواه أبو جعفر ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، لأن ذلك أصحّ الأسانيد التي رُوِي عن صحابيّ فيه قولٌ مخرّجا ، وأشبه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنزيل ، وذلك أن قوله : وَلا تَجْهِرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها عقيب قوله قُلِ ادْعِوا اللّهَ أوِ ادْعُوا الرّحْمنَ أيّا مّا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنَى وعقيب تقريع الكفار بكفرهم بالقرآن ، وذلك بعدهم منه ومن الإيمان . فإذا كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى وأشبه بقوله وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها أن يكون من سبب ما هو في سياقه من الكلام ، ما لم يأت بمعنى يوجب صرفه عنه ، أو يكون على انصرافه عنه دليل يعلم به الانصراف عما هو في سياقه .
فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : قل ادعوا الله ، أو ادعوا الرحمن ، أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ، ولا تجهر يا محمد بقراءتك في صلاتك ودعائك فيها ربك ومسألتك إياه ، وذكرك فيها ، فيؤذيك بجهرك بذلك المشركون ، ولا تخافت بها فلا يسمعها أصحابك وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سبِيلاً ولكن التمس بين الجهر والمخافتة طريقا إلى أن تسمع أصحابك ، ولا يسمعه المشركون فيؤذوك . ولولا أن أقوال أهل التأويل مضت بما ذكرت عنهم من التأويل ، وأنا لا نستجير خلافهم فيما جاء عنهم ، لكان وجها يحتمله التأويل أن يقال : ولا تجهر بصلاتك التي أمرناك بالمخافتة بها ، وهي صلاة النهار لأنها عجماء ، لا يجهر بها ، ولا تخافت بصلاتك التي أمرناك بالجهر بها ، وهي صلاة الليل ، فإنها يجهر بها وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً بأن تجهر بالتي أمرناك بالجهر بها ، وتخافت بالتي أمرناك بالمخافتة بها ، لا تجهر بجميعها ، ولا تخافت بكلها ، فكان ذلك وجها غير بعيد من الصحة ، ولكنا لا نرى ذلك صحيحا لإجماع الحجة من أهل التأويل على خلافه . فإن قال قائل : فأية قراءة هذه التي بين الجهر والمخافتة ؟ قيل :
حدثني مطر بن محمد ، قال : حدثنا قتيبة ، ووهب بن جرير ، قالا : حدثنا شعبة ، عن الأشعث بن سليم ، عن الأسود بن هلال ، قال : قال عبد الله : لم يخافت من أسمع أذنيه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شعبة ، عن الأشعث ، عن الأسود بن هلال ، عن عبد الله ، مثله .
{ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان } نزلت حين سمع المشركون رسول الله يقول : يا الله يا رحمان فقالوا إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر . أو قالت اليهود : إنك لتقل ذكر الرحمان وقد أكثره الله في التوراة ، والمراد على الأول هو التسوية بين اللفظين بأنهما يطلقان على ذات واحدة وإن اختلف اعتبار إطلاقهما ، والتوحيد إنما هو للذات الذي هو المعبود المطلق وعلى الثاني أنهما سيان في حسن الإطلاق والإفضاء إلى المقصود وهو أجود لقوله : { أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } والدعاء في الآية بمعنى التسمية وهو يتعدى إلى مفعولين حذف أولهما استغناء عنه وأو للتخيير والتنوين في { أياً } عوض عن المضاف إليه ، و{ ما } صلة لتأكيد ما في { أياً } من الإبهام ، والضمير في { فله } للمسمى لأن التسمية له لا للاسم ، وكان أصل الكلام { أياً ما تدعوا } فهو حسن ، فوضع موضعه فله الأسماء الحسنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه وكونها حسنى لدلالتها على صفات الجلال والإكرام . { ولا تجهر بصلاتك } بقراءة صلاتك حتى تسمع المشركين ، فإن ذلك يحملهم على السب واللغو فيها . { ولا تُخافت بها } حتى لا تسمع من خلفك من المؤمنين . { وابتغ بين ذلك } بين الجهر والمخافتة . { سبيلا } وسطا فإن الاقتصاد في جميع الأمور محبوب . روي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يخفت ويقول : أناجي ربي وقد علم حاجتي ، وعمر رضي الله عنه كان يجهر ويقول أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، فلما نزلت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يرفع قليلا وعمر أن يخفض قليلا . وقيل معناه لا
تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها بأسرها وابتغ بين ذلك سبيلا بالإخفات نهارا والجهر ليلاً .
وقوله { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } سبب نزول هذه الآية أن المشركين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو «يا الله يا الرحمن » ، فقالوا كان محمد أمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين ، قاله ابن عباس ، وقال مكحول : تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ، فقال في دعائه «يا رحمن يا رحيم » ، فسمعه رجل من المشركين ، وكان باليمامة رجل يسمى الرحمن ، فقال ذلك السامع : ما بال محمد يدعو رحمن اليمامة ، فنزلت مبينة أنها لمسمى واحد ، فإن دعوتموه بالله فهو ذلك ، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذلك ، وقرأ طلحة بن مصرف «أيّاً ما تدعوا فله الأسماء » ، أي وله سائر الأسماء الحسنى ، أي التي تقتضي أفضل الأوصاف وهي بتوقيف ، لا يصح وضع اسم الله بنظر إلا بتوقيف من القرآن أو الحديث ، وقد روي «أن لله تسعة وتسعين اسماً » ؛ الحديث ، ونصها كلها الترمذي وغيره بسند صحيح{[7732]} ، وتقدير الآية أي الأسماء تدعوا به فأنت مصيب له الأسماء الحسنى ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن «لا يجهر » بصلاته وأن «لا يخافت بها » ، وهو الإسرار الذي لا يسمعه المتكلم به ، هذه هي حقيقته ، ولكنه في الآية عبارة عن خفض الصوت وإن لم ينته إلى ما ذكرناه ، واختلف المتأولون في الصلاة ما هي ؟ فقال ابن عباس وعائشة وجماعة : هي الدعاء ، وقال ابن عباس أيضاً : هي قراءة القرآن في الصلاة ، فهذا على حذف مضاف ، التقدير { ولا تجهر } بقراءة صلاتك ، قال : والسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر بالقرآن فسمعه المشركون فسبوا القرآن ومن أنزله ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوسط ، ليسمع أصحابه المصلون معه ، ويذهب عنه أذى المشركين{[7733]} ، قال ابن سيرين : كان الأعراب يجهرون بتشهدهم ، فنزلت الآية في ذلك ، وكان أبو بكر رضي الله عنه يسر قراءته ، وكان عمر يجهر بها ، فقيل لهما في ذلك ، فقال أبو بكر : إنما أناجي ربي وهو يعلم حاجتي ، وقال عمر أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، فلما نزلت هذه الآية ، قيل لأبي بكر : ارفع أنت قليلاً ، وقيل لعمر اخفض أنت قليلاً ، وقالت عائشة أيضاً : «الصلاة » يراد بها في هذه الآية التشهد ، وقال ابن عباس والحسن : المراد والمعنى : ولا تحسن صلاتك في الجهر ولا تسئها في السر ، بل اتبع طريقاً وسطاً يكون دائماً في كل حالة ، وقال ابن زيد : معنى الآية النهي عما يفعله أهل الإنجيل والتوراة من رفع الصوت أحياناً فيرفع الناس معه ، ويخفض أحياناً فيسكت من خلفه ، وقال ابن عباس في الآية : إن معناها { ولا تجهر } بصلاة النهار { ولا تخافت } بصلاة الليل ، واتبع سبيلاً من امتثال الأمر كما رسم لك ، ذكره يحيى بن سلام والزهراوي ، وقال عبد الله بن مسعود لم يخافت من أسمع أذنيه ، وما روي من أنه قيل لأبي بكر ارفع أنت قليلاً يرد هذا ، ولكن الذي قال ابن مسعود هو أصل اللغة ، ويستعمل الخفوت بعد ذلك في ارفع من ذلك{[7734]} ،