مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُلِ ٱدۡعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدۡعُواْ ٱلرَّحۡمَٰنَۖ أَيّٗا مَّا تَدۡعُواْ فَلَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَلَا تَجۡهَرۡ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتۡ بِهَا وَٱبۡتَغِ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلٗا} (110)

قوله تعالى :{ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا }

قال صاحب «الكشاف » المراد بهما الاسم لا المسمى والواو للتخيير بمعنى : { ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } أي سموا بهذا الاسم أو بهذا أو اذكروا إما هذا وإما هذا والتنوين في { أيا } عوض عن المضاف إليه و{ ما } صلة للإبهام المؤكد لما في أي والتقدير أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم { فله الأسماء الحسنى } والضمير في قوله : { فله } ليس براجع إلى أحد الإسمين المذكورين ولكن إلى مسماهما وهو ذاته عز وعلا والمعنى : { أيا ما تدعوا } فهو حسن فوضع موضعه قوله : { فله الأسماء الحسنى } لأنه إذا حسنت أسماؤه فقد حسن هذان الإسمان لأنهما منها ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التحميد والتقديس وقد سبق الاستقصاء في هذا الباب في آخر سورة الأعراف في تفسير قوله : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } واحتج الجبائي بهذه الآية فقال : لو كان تعالى هو الخالق للظلم والجور لصح أن يقال يا ظالم وحينئذ يبطل ما ثبت في هذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة . والجواب : أنا لا نسلم أنه لو كان خالقا لأفعال العباد لصح وصفه بأنه ظالم وجائر كما أنه لا يلزم من كونه خالقا للحركة والسكون والسواد والبياض أن يقال يا متحرك ويا ساكن ويا أسود ويا أبيض فإن قالوا فيلزم جواز أن يقال يا خالق الظلم والجور قلنا فيلزمكم أن تقولوا يا خالق العذرات والديدان والخنافس وكما أنكم تقولون أن ذلك حق في نفس الأمر ولكن الأدب أن يقال يا خالق السماوات والأرض فكذا قولنا هنا ، ثم قال تعالى : { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } وفيه مباحث :

البحث الأول : قوله : { ولا تجهر بصلاتك } فيه أقوال . الأول : روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله تعالى إليه : { ولا تجهر بصلاتك } فيسمع المشركون فيسبوا الله عدوا بغير علم : { ولا تخافت بها } فلا تسمع أصحابك وابتغ بين ذلك سبيلا . القول الثاني : روى أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالليل على دور الصحابة ، وكان أبو بكر يخفي صوته بالقراءة في صلاته وكان عمر يرفع صوته ، فلما جاء النهار وجاء أبو بكر وعمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر لم تخفي صوتك ؟ فقال أناجي ربي ، وقد علم حاجتي وقال لعمر لم ترفع صوتك ؟ فقال أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا وعمر أن يخفض صوته قليلا . القول الثالث : معناه : { ولا تجهر بصلاتك } كلها { ولا تخافت بها } كلها وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار . والقول الرابع : أن المراد بالصلاة الدعاء وهذا قول عائشة رضي الله عنها وأبي هريرة ومجاهد قالت عائشة رضي الله عنها هي في الدعاء وروى هذا مرفوعا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية إنما ذلك في الدعاء والمسألة لا ترفع صوتك فتذكر ذنوبك فيسمع ذلك فتعير بها فالجهر بالدعاء منهى عنه والمبالغة في الإسرار غير جائزة والمستحب من ذلك التوسط وهو أن يسمع نفسه كما روي عن ابن مسعود أنه قال لم يخافت من أسمع أذنيه . والقول الخامس : قال الحسن لا تراه بعلانيتها ولا تسيء بسريتها .

البحث الثاني : الصلاة عبارة عن مجموع الأفعال والأذكار والجهر والمخافتة من عوارض الصوت فالمراد ههنا من الصلوات بعض أجزاء ماهية الصلاة وهو الأذكار والقرآن وهو من باب إطلاق اسم الكل لإرادة الجزء .

البحث الثالث : يقال خفت صوته يخفت خفتا وخفوتا إذا ضعف وسكن وصوت خفيت أي خفيض ومنه يقال للرجل إذا مات قد خفت أي انقطع كلامه وخفت الزرع إذا ذبل وخفت الرجل يخافت بقراءته إذا لم يبين قراءته برفع الصوت وقد تخافت القوم إذا تساروا بينهم وأقول ثبت في كتب الأخلاق أن كلا طرفي الأمور ذميم والعدل هو رعاية الوسط ولهذا المعنى مدح الله هذه الأمة بقوله : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } وقال في مدح المؤمنين : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } وأمر الله رسوله فقال : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } فكذا ههنا نهى عن الطرقين وهو الجهر والمخافتة وأمر بالتوسط بينهما فقال : { وابتغ بين ذلك سبيلا } ومنهم من قال الآية منسوخة بقوله : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } وهو بعيد