عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه قال: إنما أنزلت هذه الآية: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}: في الدعاء.
قال الشافعي: إن الله عز وجل يقول: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} يعني ـ والله تعالى أعلم ـ الدعاء، ولا تجهر: ترفع، ولا تخافت: حتى لا تسمع نفسك. (الأم: 1/137.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه: قل يا محمد لمشركي قومك المنكرين دعاء الرحمن:"ادْعُوا اللّهَ" أيها القوم "أوِ ادْعُوا الرّحْمَنَ أيّا مّا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنَى "بأيّ أسمائه جلّ جلاله تدعون ربكم، فإنما تدعون واحدا، وله الأسماء الحُسنى. وإنما قيل ذلك له صلى الله عليه وسلم، لأن المشركين -فيما ذكر- سمعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو ربه: يا ربنا الله، ويا ربنا الرحمن، فظنوا أنه يدعو إلهين، فأنزل الله على نبيه عليه الصلاة والسلام هذه الآية احتجاجا لنبيه عليهم...
وقوله: "وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً" اختلف أهل التأويل في الصلاة؛
فقال بعضهم: عنى بذلك: ولا تجهر بدعائك، ولا تخافت به، ولكن بين ذلك. وقالوا: عنى بالصلاة في هذا الموضع: الدعاء...
وقال آخرون: عنى بذلك الصلاة. واختلف قائلو هذه المقالة في المعنى الذي عنى بالنهي عن الجهر به، فقال بعضهم: الذي نهى عن الجهر به منها القراءة... عن ابن عباس، في قوله: "وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها" قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا جهر بالصلاة بالمسلمين بالقرآن، شقّ ذلك على المشركين إذا سمعوه، فيُؤْذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشتم والعيب به، وذلك بمكة، فأنزل الله: يا محمد "لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ" يقول: لا تُعلِنْ بالقراءة بالقرآن إعلانا شديدا يسمعه المشركون فيؤذونك، ولا تخافت بالقراءة القرآن: يقول: لا تخفض صوتَك حتى لا تُسْمِع أذنيك وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً يقول: اطلب بين الإعلان والجهر وبين التخافت والخفض طريقا، لا جهرا شديدا، ولا خفضا لا تُسْمع أذنيك، فذلك القدر فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سقط هذا كله، يفعل الآن أيّ ذلك شاء...
وقال آخرون: إنما عُنِي بذلك: ولا تجهر بالتشهد في صلاتك، ولا تخافت بها...
وقال آخرون: بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة جِهارا، فأمر بإخفائها...
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تجهر بصلاتك تحسنها من إتيانها في العلانية، ولا تخافت بها: تسيئها في السريرة... عن ابن عباس، قوله: "وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولاَ تُخافِتْ" بِها قال: لا تصلّ مراءاة الناس ولا تدعها مخافة.
وقال آخرون:... قال ابن زيد في قوله: "وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتِغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً" قال: السبيل بين ذلك الذي سنّ له جبرائيل من الصلاة التي عليها المسلمون. قال: وكان أهل الكتاب يُخافتون، ثم يجهر أحدهم بالحرف، فيصيح به، ويصيحون هم به وراءه، فنهى أن يصيح كما يصيح هؤلاء، وأن يُخافت كما يُخافت القوم، ثم كان السبيل الذي بين ذلك، الذي سنّ له جبرائيل من الصلاة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، ما ذكرنا عن ابن عباس في الخبر الذي رواه أبو جعفر، عن سعيد، عن ابن عباس، لأن ذلك أصحّ الأسانيد التي رُوِي عن صحابيّ فيه قولٌ مخرّجا، وأشبه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنزيل، وذلك أن قوله: وَلا تَجْهِرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها عقيب قوله قُلِ ادْعِوا اللّهَ أوِ ادْعُوا الرّحْمنَ أيّا مّا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنَى وعقيب تقريع الكفار بكفرهم بالقرآن، وذلك بعدهم منه ومن الإيمان. فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى وأشبه بقوله وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها أن يكون من سبب ما هو في سياقه من الكلام، ما لم يأت بمعنى يوجب صرفه عنه، أو يكون على انصرافه عنه دليل يعلم به الانصراف عما هو في سياقه.
فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: قل ادعوا الله، أو ادعوا الرحمن، أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى، ولا تجهر يا محمد بقراءتك في صلاتك ودعائك فيها ربك ومسألتك إياه، وذكرك فيها، فيؤذيك بجهرك بذلك المشركون، ولا تخافت بها فلا يسمعها أصحابك "وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سبِيلاً" ولكن التمس بين الجهر والمخافتة طريقا إلى أن تسمع أصحابك، ولا يسمعه المشركون فيؤذوك... فإن قال قائل: فأية قراءة هذه التي بين الجهر والمخافتة؟ قيل:...
قال عبد الله: لم يخافت من أسمع أذنيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أن العرب كانت لا تعرف الرسل والكتب المنزلة من السماء، ولا يؤمنون بها، وكانت لا تعرف ذكر الرحمان ولا التسمية به، وكذلك غيره من الأسماء لما لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بألسن الرسل والأنبياء وبالكتب المنزلة من السماء. فإذا لم يؤمنوا بالرسل، ولا عرفوا الكتب، حملهم ذلك على الإنكار والجحود لأسمائه، ولذلك {قالوا وما الرحمان} (الفرقان: 60) وقوله: {وهم يكفرون بالرحمان} (الرعد: 30) واسمه لما ذكرنا وأن يكونوا أنكروا اسم الرحمان لما لم يعرفوا أنه مأخوذ من الرحمة... وأما الله فهم يُسَمُّون كل معبود إلها. وعلى ذلك سموا الأصنام التي كانوا يعبدونها آلهة... فيسمون الله (إلها) لما هو المعبود عندهم. ورجعت عبادتهم الأصنام إلى الله حين زعموا {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر: 3) كانوا يطلبون بعبادتهم الأصنام القربة إلى الله. لذلك أنكروا غيره من الأسماء... وعرفوا أن اختلاف الأسماء وكثرتها لا يوجب اختلاف المسمى به، ولا يوجب عددا منه، وأن ما قالوا: إنه كان يدعوا حتى الآن إلى عبادة واحد، فالساعة يدعو إلى عبادة اثنين وأكثر؟ إنما قالوا على التعنت والعناد. وإلا قد عرفوا لشيء واحد اسمين، لكنهم أنكروا الله ذلك لما ذكرنا تَعَنُّتاً منهم وعنادا. على هذا يجوز أن تُتَأَوَلَ الآية... ثم اختلف في تخصيص ذكره بهذين الاسمين:
قال بعضهم: وجه تخصيصهم لأنهما اسمان مخصوصان له، لا يجوز أن يسمى غيره بهذين الاسمين. وأما غيرُهما من الأسماء فإنه يجوز أن يسمي غيره بها.
وقال الحسن: خَصَّ بِذِكْرِهِمَا لأنهما اسمان مُعَظَّمَان عند الخلق ما لم يجعل لغيرهما من الأسماء من التعظيم ما جعل لهذين.
وقال أبو بكر الأصم: خص بالذكر هذين لأن غيرهما من الأسماء أسماء أُخِذَت عن صفاته، وأما هذان فهما ليسا أخذا عن صفاته.
وقال الزجاج: الرحمن هو مأخوذ من الرحمة، إلا أنه النهاية في الرحمة، لأنه فعلان، وهو كما يقال: غضبان إذا انتهى غضبه غايته، وقوله: {الرحمان الرحيم} (الفاتحة: 2) كلاهما من الرحمة إلا أن الرحمة فعلان والفعلان هو النهاية من وصف الرحمة لما ذكرنا، وغيره من الخلائق لا يبلغون في الرحمة ذلك المبلغ. لذلك خص بالذكر الرحمن دون الرحيم...
وهذا كله واحد، ليس فيه خلاف. وأصله ما ذكرنا: لا يشترك غيره في هذين، ويجوز في غيرهما...
{فله الأسماء الحسنى} أي أسماؤه التي يسمى بها كلها الحسنى، ليس شيء منها قبيحا. أو يكون قوله: {فله الأسماء الحسنى} أي كل الأعمال الصالحة والأمور الحسنة له، أي تنسب إليه وتضاف، ولا يجوز أن يضاف وينسب إليه ما قَبُحَ منها، وسَمُجَ... وقوله تعالى: {فله الأسماء الحسنى} هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: له أسماء حسنة، يسمى بها.
والثاني: أن كل حسن، يسمى به غيره، فهو راجع في الحقيقة، وهو مسمى به، وكل حسن منسوب إليه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء، وهو يتعدّى إلى مفعولين، تقول: دعوته زيداً، ثم يترك أحدهما استغناء عنه فيقال: دعوت زيداً. والله والرحمن، المراد بهما الاسم لا المسمى. وأو للتخيير، فمعنى {ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} سموا بهذا الاسم أو بهذا، واذكروا إما هذا وإما هذا. والتنوين في {أَيّا} عوض من المضاف إليه. و {مَا} صلة للإبهام المؤكد لما في أيّ، أي: أيّ هذين الاسمين سميتم وذكرتم {فَلَهُ الأسماء الحسنى} والضمير في {فَلَهُ} ليس براجع إلى أحد الاسمين المذكورين، ولكن إلى مسماهما وهو ذاته تعالى؛ لأن التسمية للذات لا للاسم. والمعنى: أياما تدعوا فهو حسن، فوضع موضعه قوله: {فَلَهُ الأسماء الحسنى} لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان: لأنهما منها، ومعنى كونها أحسن الأسماء، أنها مستقلة بمعاني التحميد والتقديس والتعظيم. "بصلاتك": بقراءة صلاتك على حذف المضاف؛ لأنه لا يلبس، من قبل أن الجهر والمخافتة صفتان تعتقبان على الصوت لا غير، والصلاة أفعال وأذكار وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بقراءته، فإذا سمعها المشركون لغوا وسبوا، فأمر بأن يخفض من صوته، والمعنى: ولا تجهر حتى تسمع المشركين {وَلاَ تُخَافِتْ} حتى لا تسمع من خلفك {وابتغ بَيْنَ} الجهر والمخافتة {سَبِيلاً} وسطاً...
وابتغاء السبيل: مثل لانتحاء الوجه الوسط في القراءة {وَلِي مَّنَ الذل} ناصر من الذل ومانع له منه لاعتزازه به، أو لم يوال أحداً من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لا شك أن لنزول هذه الآية سبباً خاصاً إذ لا موجب لذكر هذا التخيير بين دعاء الله تعالى باسمه العَلَم وبين دعائه بصفة الرحمان خاصة دون ذكر غير تلك الصفة من صفات الله مثل: الرحيم أو العزيز وغيرهما من الصفات الحسنى.
ثم لا بد بعد ذلك من طلب المناسبة لوقوعها في هذا الموضع من السورة.
فأما سبب نزولها فروى الطبري والواحدي عن ابن عباس قال: « كان النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً يدعو يا رحمان يا رحيم، فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو مثنى مثنى، فأنزل الله تعالى: {قل ادعوا اللَّه أو ادعو الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}. وعليه فالاقتصار على التخيير في الدعاء بين اسم الله وبين صفة الرحمان اكتفاء، أي أو الرحيم.
وفي « الكشاف»: عن ابن عباس سمع أبو جهل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا الله يا رحمان. فقال أبو جهل: إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر. وأخرجه ابن مردويه. وهذا أنسب بالآية لاقتصارها على اسم الله وصفة الرحمان.
وأما موقعها هنا فيتعين أن يكون سبب نزولها حدثَ حين نزول الآية التي قبلها.
والكلام رد وتعليم بأن تعدد الأسماء لا يقتضي تعدد المسمى، وشتان بين ذلك وبين دعاء المشركين آلهة مختلفة الأسماء والمسميات، والتوحيد والإشراك يتعلقان بالذوات لا بالأسماء.
و (أي) اسم استفهام في الأصل، فإذا اقترنت بها (ما) الزائدة أفادت الشرط كما تفيده كيف إذا اقترنت بها (ما) الزائدة. ولذلك جزم الفعل بعدها وهو {تدعوا} شرطاً، وجيء لها بجواب مقترن بالفاء، وهو {فله الأسماء الحسنى}.
والتحقيق أن {فله الأسماء الحسنى} علة الجواب. والتقدير: أي اسم من أسمائه تعالى تَدعون فلا حرج في دعائه بعدة أسماء إذ له الأسماء الحسنى وإذ المسمى واحد.
ومعنى {ادعوا اللَّه أو ادعوا الرحمن} ادعوا هذا الاسم أو هذا الاسم، أي اذكروا في دعائكم هذا أو هذا، فالمسمى واحد. وعلى هذا التفسير قد وقع تجوز في فعل {ادعوا} مستعملاً في معنى اذكروا أو سموا في دعائكم.
ويجوز أن يكون الدعاء مستعملاً في معنى سمّوا، وهو حينئذٍ يتعدى إلى مفعولين. والتقدير: سموا ربكم اللّهَ أو سموه الرحمان، وحذف المفعول الأول من الفعلين وأبقي الثاني لدلالة المقام.
{ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}
لا شك أن لهذه الجملة اتصالاً بجملة {قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن} يؤيد ما تقدم في وجه اتصال قوله: {قل ادعوا الله أو ادعو الرحمن} بالآيات التي قبله، فقد كان ذلك بسبب جهر النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه باسم الرحمان.
والصلاة: تحتمل الدعاء، وتحتمل العبادة المعروفة. قود فسرها السلف هنا بالمعنيين. ومعلوم أن من فسر الصلاة بالعبادة المعروفة فإنما أراد قراءتها خاصة لأنها التي توصف بالجهر والمخافتة.
وعلى كلا الاحتمالين فقد جهر النبي صلى الله عليه وسلم بذكر الرحمان، فقال فريق من المشركين: ما الرحمان؟ وقالوا: إن محمداً يدعو إلهين، وقام فريق منهم يسب القرآن ومن جاء به، أو يسب الرحمان ظناً أنه رب آخر غيرُ الله تعالى وغيرُ آلهتهم، فأمر الله رسوله أن لا يجهر بدعائه أو لا يجهر بقراءة صلاته في الصلاة الجهرية.
ولعل سفهاء المشركين توهموا من صدع النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة أو بالدعاء أنه يريد بذلك التحكك بهم والتطاول عليهم بذكر الله تعالى مجرداً عن ذكر آلهتهم فاغتاظوا وسبوا، فأمره الله تعالى بأن لا يجهر بصلاته هذا الجهر تجنباً لما من شأنه أن يثير حفائظهم ويزيد تصلبهم في كفرهم في حين أن المقصود تليين قلوبهم.
والمقصود من الكلام النهي عن شدة الجهر.
وأما قوله تعالى: {ولا تخافت بها} فالمقصود منه الاحتراس لكيلا يجعل دعاءه سراً أو صلاته كلها سراً فلا يبلغ أسماع المتهيئين للاهتداء به، لأن المقصود من النهي عن الجهر تجنب جهر يُتوهم منه الكفارُ تحككاً أو تطاولاً كما قلنا.
والجهر: قوة صوت الناطق بالكلام.
والمخافتة مفاعلة: من خَفَتَ بكلامه، إذا أسر به. وصيغة المفاعلة مستعملة في معنى الشدة، أي لا تُسرها.
وقوله: {ذلك} إشارة إلى المذكور، أي الجهر والمخافتة المعلومين من فعلي {تجهر وتخافت أي اطلب سبيلاً بين الأمرين ليحصل المقصود من إسماع الناس القرآن وينتفي توهم قصد التطاول عليهم.