تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{قُلِ ٱدۡعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدۡعُواْ ٱلرَّحۡمَٰنَۖ أَيّٗا مَّا تَدۡعُواْ فَلَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَلَا تَجۡهَرۡ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتۡ بِهَا وَٱبۡتَغِ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلٗا} (110)

الآية110 : وقوله تعالى : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } ذكر هذا ، والله أعلم ، أن العرب كانت لا تعرف الرسل والكتب المنزلة من السماء ، ولا يؤمنون بها ، وكانت لا تعرف ذكر الرحمان ولا التسمية به ، وكذلك غيره من الأسماء لما لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا{[11323]} بألسن الرسل والأنبياء وبالكتب{[11324]} المنزلة من السماء . فإذا لم يؤمنوا بالرسل ، ولا عرفوا الكتب ، حملهم ذلك على الإنكار والجحود لأسمائه ، ولذلك { قالوا وما الرحمان } ( الفرقان : 60 ) وقوله : { وهم يكفرون بالرحمان } ( الرعد : 30 ) واسمه لما ذكرنا وأن يكونوا أنكروا اسم الرحمان لما لم يعرفوا أنه مأخوذ من الرحمة .

وأما الله فهم يُسَمُّون كل معبود إلها . وعلى ذلك سموا الأصنام التي كانوا يعبدونها آلهة ، ويقولون { وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ( الزمر : 3 ) { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } ( يونس : 18 ) فيسمون الله ( إلها ){[11325]} لما هو المعبود/311-ب/عندهم . ورجعت عبادتهم الأصنام إلى الله حين{[11326]} زعموا { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ( الزمر : 3 ) كانوا يطلبون بعبادتهم الأصنام القربة إلى الله .

لذلك أنكروا غيره من الأسماء . على أن العرب لم ينكروا لشيء واحد اسمين وأكثر ، وعرفوا أن اختلاف الأسماء وكثرتها لا يوجب اختلاف المسمى به ، ولا يوجب{[11327]} عددا منه ، وأن ما قالوا : إنه كان يدعوا حتى الآن إلى عبادة واحد ، فالساعة يدعو إلى عبادة اثنين وأكثر ؟ إنما قالوا على التعنت والعناد . وإلا قد عرفوا لشيء واحد اسمين ، لكنهم أنكروا الله ذلك لما ذكرنا تَعَنُّتاً منهم وعنادا . على هذا يجوز أن تُتَأَوَلَ الآية ، والله أعلم .

ثم اختلف في تخصيص ذكره بهذين الاسمين : قال بعضهم : وجه تخصيصهم لأنهما اسمان مخصوصان له ، لا يجوز أن يسمى غيره بهذين الاسمين . وأما غيرُهما من الأسماء فإنه يجوز أن يسمي غيره بها .

وقال الحسن : خَصَّ بِذِكْرِهِمَا لأنهما اسمان مُعَظَّمَان عند الخلق ما لم يجعل لغيرهما من الأسماء من التعظيم ما جعل لهذين .

وقال أبو بكر الأصم : خص بالذكر هذين لأن غيرهما من الأسماء أسماء أُخِذَت عن صفاته ، وأما هذان فهما ليسا أخذا عن صفاته{[11328]} .

وقال الزجاج : الرحمن هو مأخوذ من الرحمة ، إلا أنه النهاية في الرحمة ، لأنه فعلان ، وهو كما{[11329]} يقال : غضبان إذا انتهى غضبه غايته ، وقوله{[11330]} : { الرحمان الرحيم } ( الفاتحة : 2 ) كلاهما من الرحمة إلا أن الرحمة فعلان والفعلان هو النهاية من وصف الرحمة لما ذكرنا ، وغيره من الخلائق لا يبلغون في الرحمة ذلك المبلغ . لذلك خص بالذكر الرحمن دون الرحيم .

وهذا كله واحد ، ليس فيه خلاف . وأصله ما ذكرنا : لا يشترك غيره في هذين ، ويجوز في غيرهما{[11331]} .

وقوله تعالى : { فله الأسماء الحسنى } أي أسماؤه{[11332]} التي يسمى بها كلها الحسنى ، ليس شيء منها قبيحا .

أو يكون قوله : { فله الأسماء الحسنى } أي كل ( الأعمال الصالحة والأمور الحسنة ){[11333]} له ، أي تنسب إليه ، وتضاف ، ولا يجوز أن يضاف ، وينسب إليه ما قَبُحَ منها ، وسَمُجَ .

وأصله ما ذكرنا : إليه ينسب كل حسن وكل صالح على الإشارة والتسمية به ، وهو ما نذكر : التحيات لله والصلوات الطيبات إلى آخره ، وينسب إليه كل طيب وكل حسن . وقوله تعالى : { فله الأسماء الحسنى } هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : له أسماء حسنة ، يسمى بها . والثاني : أن كل حسن ، يسمي به غيره ، فهو راجع في الحقيقة ، وهو مسمى به ، وكل حسن منسوب إليه .

وقوله تعالى : { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا } اختلف أهل التأويل في ذلك :

قال بعضهم : { ولا تجهر بصلاتك } أي لا تجعل صلاتك في مكان غيظا للمشركين { ولا تخافت بها } أي ولا تسرعن أصحابك ، فَتٌُخْفِيَ عليهم ، لكن ابتغ { بين ذلك سبيلا } .

وقال بعضهم : لا تجعل كل صلاتك في جماعة { ولا تخافت بها } ولا ( تجعلها ){[11334]} كلها في غير جماعة { وابتغ بين ذلك سبيلا } ولكن اجعل بعضها بالجماعة وبعضها لا بالجماعة .

وقال بعضهم : { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } أي لا تجاوز الحد في الأمور والأعمال التي أمرتك بها ، ولا تُقَصِّرها عن الحد الذي حَدَّدْتُ لك فيها ، ولكن ابتغ { بين ذلك سبيلا } .

وقال بعضهم : { ولا تجهر بصلاتك } مُرآة للناس { ولا تخافت بها } أي لا ( تجعل بها الإخفاء ) {[11335]} .

وجائز أن يكون قوله : { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } أي لا تجهر بجميع الأذكار التي في الصلاة أو بجميع القراءات التي فيها ، ولا تخافت في الكل ، ولكن ( اقرأ ){[11336]} بعضها بالجهر وبعضها بالمخافتة .

وقال بعضهم : إنه ( صلى الله عليه وسلم ){[11337]} كان يجهر في صلاته بحيث يسمعه المشركون فيؤذونه ، فأمره ألا يجهرها لئلا ُيؤذوه { ولا تخافت بها } كل المخافتة ( فلا يسمع أصحابك ، ولا يأخذوا ){[11338]} قراءتك .

وقال بعضهم : ذلك في الدعاء إلى الله وتوحيده في الحق والتبليغ والمسألة وأمثاله .

ولكن لا يجوز أن يقطع التأويل في هذا وأمثاله ، فيقال : أنه كان كذا إلا بخبر منه ثابت ، لأن الخطاب به خطاب له . فقطع التأويل فيه والقول على شيء واحد شهادة على الله وعلى رسوله ، ولا تحل الشهادة على الله ولا على رسوله إلا بالإحالة أنه أراد ذلك ، والله أعلم .


[11323]:في الأصل و.م : إما.
[11324]:في الأصل و.م : وإما بالكتب.
[11325]:ساقطة من الأصل و.م.
[11326]:في الأصل و.م : حيث.
[11327]:في الأصل و.م : أوجب.
[11328]:في الأصل و.م: صفته.
[11329]:في الأصل و.م: ما.
[11330]:في الأصل و.م: و إلا قوله.
[11331]:في الأصل و.م: غيره.
[11332]:من م، في الأصل: أسماء.
[11333]:في الأصل و.م: أعمال صالحة وأمور حسنة.
[11334]:ساقطة من الأصل و.م.
[11335]:في الأصل و.م : تعجب بها للإخفاء.
[11336]:ساقطة من الأصل و.م.
[11337]:ساقطة من الأصل و.م.
[11338]:في الأصل و.م: فيسمع أصحابك فيأخذوا.