{ 110-111 } { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا }
بقول تعالى لعباده : { ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ } أي : أيهما شئتم . { أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } أي : ليس له اسم غير حسن ، أي : حتى ينهى عن دعائه به ، أي : اسم دعوتموه به ، حصل به المقصود ، والذي ينبغي أن يدعى في كل مطلوب ، مما يناسب ذلك الاسم .
{ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ } أي : قراءتك { وَلَا تُخَافِتْ بِهَا } فإن في كل من الأمرين محذورًا . أما الجهر ، فإن المشركين المكذبين به إذا سمعوه سبوه ، وسبوا من جاء به .
وأما المخافتة ، فإنه لا يحصل المقصود لمن أراد استماعه مع الإخفاء { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ } أي : بين الجهر والإخفات { سَبِيلًا } أي : تتوسط فيما بينهما .
ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى . . } ذكروا روايات منها : ما أخرجه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : " وصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ذات يوم فدعا الله - تعالى - فقال : يا الله ، يا رحمن ، فقال المشركون : انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فنزلت " .
ومعنى : ادعوا ، سموا ، و { أو } للتخيير . و { أيا } اسم شرط جازم منصوب على المفعولية بقوله : { ادعوا } والمضاف إليه محذوف ، أى : أى الاسمين . { وتدعو } مجزوم على أنه فعل الشرط لأيًّا ، وجملة { فَلَهُ الأسمآء الحسنى } واقعة موقع جواب الشرط ، و { ما } مزيدة للتأكيد . والحسنى : مؤنث الأحسن الذى هو أفعل تفضيل .
والمعنى : قل يا محمد للناس : سموا المعبود بحق بلفظ الله أو بلفظ الرحمن بأى واحد منهما سميتموه فقد أصبتم ، فإنه - تعالى - له الأسماء الأحسن من كل ما سواه ، وقال - سبحانه - : { فَلَهُ الأسمآء الحسنى } للمبالغة فى كمال أسمائه - تعالى - وللدلالة على أنه ما دامت أسماؤه كلها حسنة ، فلفظ الله ولفظ الرحمن كذلك ، كل واحد منهما حسن .
وقد ذكر الجلالان عند تفسيرهما لهذه الآية ، أسماء الله الحسنى ، فارجع إليها إن شئت .
وقوله - سبحانه - : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } تعليم من الله - تعالى - لنبيه كيفية أفضل طرق القراءة فى الصلاة .
فالمراد بالصلاة هنا : القراءة فيها . والجهر بها : رفع الصوت أثناءها ، والمخافتة بها : خفضه بحيث لا يسمع . يقال : خفت الرجل بصوته إذا لم يرفعه ، والكلام على حذف مضاف .
والمعنى : ولا تجهر يا محمد فى قراءتك خلال الصلاة ، حتى لا يسمعها المشركون فيسبوا القرآن ، ولا تخافت بها ، حتى لا يسمعها من يكون خلفك ، بل أسلك فى ذلك طريقا وسطا بين الجهر والمخافتة .
ومما يدل على أن المراد بالصلاة هنا : القراءة فيها ، ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عباس .
قال : نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة ، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمع ذلك المشركون ، سبوا القرآن ، ومن أنزله ومن جاء به ، فأمره الله بالتوسط .
وقيل : المراد بالصلاة هنا : الدعاء . أى : لا ترفع صوتك وأنت تدعو الله ، ولا تخافت به . وقد روى ذلك عن عائشة ، فقد أخرج الشيخان عنها أنها نزلت فى الدعاء .
ويبدو لنا أن التوجيهات التى بالآية الكريمة تتسع للقولين ، أى : أن على المسلم أن يكون متوسطًا فى رفع صوته بالقراءة فى الصلاة ، وفى رفع صوته حال دعائه .
هذا المشهد الموحي للذين أتوا العلم من قبل يعرضه السياق بعد تخيير القوم في أن يؤمنوا بهذا القرآن أولا يؤمنوا ، ثم يعقب عليه بتركهم يدعون اللّه بما بما شاءوا من الأسماء - وقد كانوا بسبب أوهامهم الجاهلية ينكرون تسمية اللّه بالرحمن ، ويستبعدون هذا الاسم من أسماء اللّه - فكلها اسماؤه فما شاءوا منها فليدعوه بها :
قل : ادعو اللّه أو ادعوا الرحمن . أيّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى .
وإن هي إلا سخافات الجاهلية وأوهام الوثنية التي لا تثبت للمناقشة والتعليل .
كذلك يؤمر الرسول [ ص ] أن يتوسط في صلاته بين الجهر والخفوت لما كانوا يقابلون به صلاته من استهزاء وايذاء ، أو من نفور وابتعاد ولعل الأمر كذلك لأن التوسط بين الجهر والخفاء أليق بالوقوف في حضرة الله :
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرّحْمََنَ أَيّاً مّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسْمَآءَ الْحُسْنَىَ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه : قل يا محمد لمشركي قومك المنكرين دعاء الرحمن : ادْعُوا اللّهَ أيها القوم أوِ ادْعُوا الرّحْمَنَ أيّا مّا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنَى بأيّ أسمائه جلّ جلاله تدعون ربكم ، فإنما تدعون واحدا ، وله الأسماء الحُسنى . وإنما قيل ذلك له صلى الله عليه وسلم ، لأن المشركين فيما ذكر سمعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو ربه : يا ربنا الله ، ويا ربنا الرحمن ، فظنوا أنه يدعو إلهين ، فأنزل الله على نبيه عليه الصلاة والسلام هذه الاَية احتجاجا لنبيه عليهم . ذكر الرواية بما ذكرنا :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني محمد بن كثير ، عن عبد الله بن واقد ، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس . قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ساجدا يدعو : «يا رَحْمَنُ يا رَحيمُ » ، فقال المشركون : هذا يزعم أنه يدعو واحدا ، وهو يدعو مثنى مثنى ، فأنزل الله تعالى : قُلِ ادْعُوا اللّهَ أوِ ادْعُوا الرّحْمَنَ أيّا مّا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنَى . . . الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني عيسى ، عن الأوزاعي ، عن مكحول ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتهجّد بمكة ذات ليلة ، يقول في سجوده : «يا رَحْمَنُ يا رَحيمُ » ، فسمعه رجل من المشركين ، فلما أصبح قال لأصحابه : انظروا ما قال ابن أبي كبشة ، يدعو الليلة الرحمن الذي باليمامة ، وكان باليمامة رجل يقال له الرحمن : فنزلت : قُلِ ادْعُوا اللّهَ أوِ ادْعُوا الرّحْمَنَ أيّا مّا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنَى » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قُلِ ادْعُوا اللّهَ أوِ ادْعُوا الرّحْمَن أيّا مّا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنَى .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أيّا مّا تَدْعُوا بشيء من أسمائه .
حدثني موسى بن سهل ، قال : حدثنا محمد بن بكار البصري ، قال : ثني حماد بن عيسى ، عن عبيد بن الطفيل الجهني ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، عن مكحول ، عن عَرّاك بن مالك ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ لِلّهِ تسْعَةً وَتسْعينَ اسْما كُلّهُنّ في القُرآنِ ، مَنْ أحْصَاهنّ دَخَلَ الجَنّةَ » .
قال أبو جعفر : ولدخول «ما » في قوله أيّا مّا تَدْعُوا وجهان : أحدهما أن تكون صلة ، كما قيل : عَمّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنّ نَادِمِينَ . والاَخر أن تكون في معنى إن : كررت لما اختلف لفظاهما ، كما قيل : ما إن رأيت كالليلة ليلة .
وقوله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً اختلف أهل التأويل في الصلاة ، فقال بعضهم : عنى بذلك : ولا تجهر بدعائك ، ولا تخافت به ، ولكن بين ذلك . وقالوا : عنى بالصلاة في هذا الموضع : الدعاء . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن عيسى الدامغاني ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، في قوله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قالت : في الدعاء .
حدثنا بشار ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : نزلت في الدعاء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة مثله .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن أشعث بن سوار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قول الله تعالى : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : كانوا يجهرون بالدعاء ، فلما نزلت هذه الاَية أُمروا أن لا يجهروا ، ولا يخافتوا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا حماد ، عن عمرو بن مالك البكري ، عن أبي الجوزاء عن عائشة ، قالت : نزلت في الدعاء .
حدثني مطر بن محمد الضبي ، قال : حدثنا عبد الله بن داود ، قال : حدثنا شريك ، عن زياد بن فياض ، عن أبي عياض ، في قوله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : الدعاء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن إبراهيم الهَجري ، عن أبي عياض وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : نزلت في الدعاء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شريك ، عن زياد بن فياض ، عن أبي عياض مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان عمن ذكره عن عطاء وَلا تَجْهَرْ بصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : نزلت في الدعاء .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد في الاَية : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بها قال : في الدعاء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، قال : نزلت في الدعاء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها في الدعاء والمسألة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : نزلت في الدعاء والمسألة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : ثني سفيان ، قال : ثني قيس بن مسلم ، عن سعيد بن جبير في قوله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : في الدعاء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن عياش العامري ، عن عبد الله بن شدّاد قال : كان أعراب إذا سلم النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا : اللهمّ ارزقنا إبلاً وولدا ، قال : فنزلت هذه الاَية : وَلا تَجْهَرْ بصَلاتكَ وَلا تُخافتْ بها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله وَلا تَجْهَرْ بصَلاتكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : في الدعاء .
حدثني ابن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ . . . الاَية ، قال : في الدعاء والمسألة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني عيسى ، عن الأوزاعي ، عن مكحول وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : ذلك في الدعاء .
وقال آخرون : عنى بذلك الصلاة . واختلف قائلو هذه المقالة في المعنى الذي عنى بالنهي عن الجهر به ، فقال بعضهم : الذي نهى عن الجهر به منها القراءة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : نزلت هذه الاَية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ، ومن جاء به ، قال : فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيسمع المشركون وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك ، فلا تُسْمِعهم القرآن حتى يأخذوا عنك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمار ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا جهر بالصلاة بالمسلمين بالقرآن ، شقّ ذلك على المشركين إذا سمعوه ، فيُؤْذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشتم والعيب به ، وذلك بمكة ، فأنزل الله : يا محمد لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ يقول : لا تُعلِنْ بالقراءة بالقرآن إعلانا شديدا يسمعه المشركون فيؤذونك ، ولا تخافت بالقراءة القرآن : يقول : لا تخفض صوتَك حتى لا تُسْمِع أذنيك وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً يقول : اطلب بين الإعلان والجهر وبين التخافت والخفض طريقا ، لا جهرا شديدا ، ولا خفضا لا تُسْمع أذنيك ، فذلك القدر فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سقط هذا كله ، يفعل الاَن أيّ ذلك شاء .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها . . . الاَية ، هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة كان إذا صلى بأصحابه ، فرفع صوته بالقراءة أسمع المشركين ، فآذوه ، فأمره الله أو لا يرفع صوته ، فيسمع عدوّه ، ولا يخافت فلا يُسْمِع مَن خلفه من المسلمين ، فأمره الله أن يبتغي بين ذلك سبيلاً .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالقرآن ، فكان المشركون إذا سمعوا صوته سبّوا القرآن ، ومن جاء به فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخفي القرآن فما يسمعه أصحابه ، فأنزل الله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بينَ ذلك سَبِيلاً .
حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : سمعت أبي ، يقول : أخبرنا أبو حمزة عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع صوته وسَمع المشركون ، سبّوا القرآن ، ومن جاء به ، وإذا خفض لم يسمع أصحابه ، قال الله : وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني داود بن الحُصَين ، من عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرّقوا ، وأَبَوا أن يستمعوا منه ، فكان الرجل إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو ، وهو يصلي ، استرق السمع دونهم فرقا منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ، ذهب خشية أذاهم ، فلم يستمع ، فإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته ، لم يستمع الذين يستمعون من قراءته شيئا ، فأنزل الله عليه : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيتفرّقوا عنك وَلا تُخافِتْ بِها فلا تُسْمِع من أراد أن يسمعها ، ممن يسترق ذلك دونهم ، لعله يرعَوِي إلى بعض ما يسمع ، فينتفع به ، وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجهر بقراءة القرآن في المسجد الحرام ، فقالت قريش : لا تجهر بالقراءة فتؤذي آلهتنا ، فنهجو ربك ، فأنزل الله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها . . . الاَية .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، في قوله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مختف بمكة ، فكان إذا صلى بأصحابه رفع الصوت بالقرآن ، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ، ومن جاء به ، فقال الله لنبيه : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ : أي بقراءتك ، فيسمع المشركون ، فيسبّوا القرآن وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك ، فلا تسمعهم وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، في قوله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : في القراءة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في هذه الاَية وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رفع صوته أعجب ذلك أصحابه ، وإذا سمع ذلك المشركون سبّوه ، فنزلت هذه الاَية .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سلمة ، عن علقمة ، عن محمد بن سيرين ، قال : نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته ، وأن عمر كان يرفع صوته قال : فقيل لأبي بكر : لم تصنع هذا ؟ فقال : أناجي ربي ، وقد علم حاجتي ، قيل : أحسنت وقيل لعمر : لم تصنع هذا ؟ قال : أطرد الشيطان ، وأوقظ الوسنان ، قيل : أحسنت فلما نزلت وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً قيل لأبي بكر : ارفع شيئا ، وقيل لعمر : اخفض شيئا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا حسان بن إبراهيم ، عن إبراهيم الصائغ ، عن عطاء ، في قوله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : يقول ناس إنها في الصلاة ، ويقول آخرون إنها في الدعاء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً وكان نبيّ الله وهو بمكة ، إذا سمع المشركون صوته رموه بكلّ خبث ، فأمره الله أن يغضّ من صوته ، وأن يجعل صلاته بينه وبين ربه ، وكان يقال : ما سمعته أذنك فليس بمخافتة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالصلاة ، فيُرمَى بالخبث ، فقال : لا ترْفعْ صَوْتكَ فتُؤْذَى وَلا تُخافِتْ بِها ، وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً .
وقال آخرون : إنما عُنِي بذلك : ولا تجهر بالتشهد في صلاتك ، ولا تخافت بها . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص بن غِياث ، عن هشام بن عُروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : نزلت هذه الاَية في التشهد وَلا تَجْهَرْ بصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص ، عن أشعث ، عن ابن سيرين مثله . وزاد فيه : وكان الأعرابيّ يجهر فيقول : التحيات لله ، والصلوات لله ، يرفع فيها صوته ، فنزلت وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ .
وقال آخرون : بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة جِهارا ، فأمر بإخفائها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن البصري قالا : قال في بني إسرائيل وَلا تَجْهرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بيَن ذلكَ سَبِيلاً وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى يجهر بصلاته ، فآذى ذلك المشركين بمكة ، حتى أخفى صلاته هو وأصحابه ، فلذلك قال وَلا تَجَهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بيْنَ ذلكَ سَبِيلاً وقال في الأعراف : وَاذْكُرْ رَبّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرّعا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بالغُدُوّ والاَصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الغافِلِينَ .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تجهر بصلاتك تحسنها من إتيانها في العلانية ، ولا تخافت بها : تسيئها في السريرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن أنه كان يقول : ولاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها : أي لا تراء بها عَلاَنية ، ولا تخفها سرّا وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : كان الحسن يقول في قوله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : لا تحسن علانيتها ، وتسيء سريرتها .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولاَ تُخافِتْ بِها قال : لا تراء بها في العلانية ، ولا تخفها في السريرة .
حدثني عليّ بن الحسن الأزرقي ، قال : حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن الحسن وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال : تحسن علانيتها ، وتسيء سريرتها .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولاَ تُخافِتْ بِها قال : لا تصلّ مراءاة الناس ولا تدعها مخافة . وقال آخرون في ذلك ما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتِغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً قال : السبيل بين ذلك الذي سنّ له جبرائيل من الصلاة التي عليها المسلمون . قال : وكان أهل الكتاب يُخافتون ، ثم يجهر أحدهم بالحرف ، فيصيح به ، ويصيحون هم به وراءه ، فنهى أن يصيح كما يصيح هؤلاء ، وأن يُخافت كما يُخافت القوم ، ثم كان السبيل الذي بين ذلك ، الذي سنّ له جبرائيل من الصلاة .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، ما ذكرنا عن ابن عباس في الخبر الذي رواه أبو جعفر ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، لأن ذلك أصحّ الأسانيد التي رُوِي عن صحابيّ فيه قولٌ مخرّجا ، وأشبه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنزيل ، وذلك أن قوله : وَلا تَجْهِرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها عقيب قوله قُلِ ادْعِوا اللّهَ أوِ ادْعُوا الرّحْمنَ أيّا مّا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنَى وعقيب تقريع الكفار بكفرهم بالقرآن ، وذلك بعدهم منه ومن الإيمان . فإذا كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى وأشبه بقوله وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها أن يكون من سبب ما هو في سياقه من الكلام ، ما لم يأت بمعنى يوجب صرفه عنه ، أو يكون على انصرافه عنه دليل يعلم به الانصراف عما هو في سياقه .
فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : قل ادعوا الله ، أو ادعوا الرحمن ، أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ، ولا تجهر يا محمد بقراءتك في صلاتك ودعائك فيها ربك ومسألتك إياه ، وذكرك فيها ، فيؤذيك بجهرك بذلك المشركون ، ولا تخافت بها فلا يسمعها أصحابك وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سبِيلاً ولكن التمس بين الجهر والمخافتة طريقا إلى أن تسمع أصحابك ، ولا يسمعه المشركون فيؤذوك . ولولا أن أقوال أهل التأويل مضت بما ذكرت عنهم من التأويل ، وأنا لا نستجير خلافهم فيما جاء عنهم ، لكان وجها يحتمله التأويل أن يقال : ولا تجهر بصلاتك التي أمرناك بالمخافتة بها ، وهي صلاة النهار لأنها عجماء ، لا يجهر بها ، ولا تخافت بصلاتك التي أمرناك بالجهر بها ، وهي صلاة الليل ، فإنها يجهر بها وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً بأن تجهر بالتي أمرناك بالجهر بها ، وتخافت بالتي أمرناك بالمخافتة بها ، لا تجهر بجميعها ، ولا تخافت بكلها ، فكان ذلك وجها غير بعيد من الصحة ، ولكنا لا نرى ذلك صحيحا لإجماع الحجة من أهل التأويل على خلافه . فإن قال قائل : فأية قراءة هذه التي بين الجهر والمخافتة ؟ قيل :
حدثني مطر بن محمد ، قال : حدثنا قتيبة ، ووهب بن جرير ، قالا : حدثنا شعبة ، عن الأشعث بن سليم ، عن الأسود بن هلال ، قال : قال عبد الله : لم يخافت من أسمع أذنيه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شعبة ، عن الأشعث ، عن الأسود بن هلال ، عن عبد الله ، مثله .
{ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان } نزلت حين سمع المشركون رسول الله يقول : يا الله يا رحمان فقالوا إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر . أو قالت اليهود : إنك لتقل ذكر الرحمان وقد أكثره الله في التوراة ، والمراد على الأول هو التسوية بين اللفظين بأنهما يطلقان على ذات واحدة وإن اختلف اعتبار إطلاقهما ، والتوحيد إنما هو للذات الذي هو المعبود المطلق وعلى الثاني أنهما سيان في حسن الإطلاق والإفضاء إلى المقصود وهو أجود لقوله : { أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } والدعاء في الآية بمعنى التسمية وهو يتعدى إلى مفعولين حذف أولهما استغناء عنه وأو للتخيير والتنوين في { أياً } عوض عن المضاف إليه ، و{ ما } صلة لتأكيد ما في { أياً } من الإبهام ، والضمير في { فله } للمسمى لأن التسمية له لا للاسم ، وكان أصل الكلام { أياً ما تدعوا } فهو حسن ، فوضع موضعه فله الأسماء الحسنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه وكونها حسنى لدلالتها على صفات الجلال والإكرام . { ولا تجهر بصلاتك } بقراءة صلاتك حتى تسمع المشركين ، فإن ذلك يحملهم على السب واللغو فيها . { ولا تُخافت بها } حتى لا تسمع من خلفك من المؤمنين . { وابتغ بين ذلك } بين الجهر والمخافتة . { سبيلا } وسطا فإن الاقتصاد في جميع الأمور محبوب . روي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يخفت ويقول : أناجي ربي وقد علم حاجتي ، وعمر رضي الله عنه كان يجهر ويقول أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، فلما نزلت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يرفع قليلا وعمر أن يخفض قليلا . وقيل معناه لا
تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها بأسرها وابتغ بين ذلك سبيلا بالإخفات نهارا والجهر ليلاً .
وقوله { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } سبب نزول هذه الآية أن المشركين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو «يا الله يا الرحمن » ، فقالوا كان محمد أمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين ، قاله ابن عباس ، وقال مكحول : تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ، فقال في دعائه «يا رحمن يا رحيم » ، فسمعه رجل من المشركين ، وكان باليمامة رجل يسمى الرحمن ، فقال ذلك السامع : ما بال محمد يدعو رحمن اليمامة ، فنزلت مبينة أنها لمسمى واحد ، فإن دعوتموه بالله فهو ذلك ، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذلك ، وقرأ طلحة بن مصرف «أيّاً ما تدعوا فله الأسماء » ، أي وله سائر الأسماء الحسنى ، أي التي تقتضي أفضل الأوصاف وهي بتوقيف ، لا يصح وضع اسم الله بنظر إلا بتوقيف من القرآن أو الحديث ، وقد روي «أن لله تسعة وتسعين اسماً » ؛ الحديث ، ونصها كلها الترمذي وغيره بسند صحيح{[7732]} ، وتقدير الآية أي الأسماء تدعوا به فأنت مصيب له الأسماء الحسنى ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن «لا يجهر » بصلاته وأن «لا يخافت بها » ، وهو الإسرار الذي لا يسمعه المتكلم به ، هذه هي حقيقته ، ولكنه في الآية عبارة عن خفض الصوت وإن لم ينته إلى ما ذكرناه ، واختلف المتأولون في الصلاة ما هي ؟ فقال ابن عباس وعائشة وجماعة : هي الدعاء ، وقال ابن عباس أيضاً : هي قراءة القرآن في الصلاة ، فهذا على حذف مضاف ، التقدير { ولا تجهر } بقراءة صلاتك ، قال : والسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر بالقرآن فسمعه المشركون فسبوا القرآن ومن أنزله ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوسط ، ليسمع أصحابه المصلون معه ، ويذهب عنه أذى المشركين{[7733]} ، قال ابن سيرين : كان الأعراب يجهرون بتشهدهم ، فنزلت الآية في ذلك ، وكان أبو بكر رضي الله عنه يسر قراءته ، وكان عمر يجهر بها ، فقيل لهما في ذلك ، فقال أبو بكر : إنما أناجي ربي وهو يعلم حاجتي ، وقال عمر أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، فلما نزلت هذه الآية ، قيل لأبي بكر : ارفع أنت قليلاً ، وقيل لعمر اخفض أنت قليلاً ، وقالت عائشة أيضاً : «الصلاة » يراد بها في هذه الآية التشهد ، وقال ابن عباس والحسن : المراد والمعنى : ولا تحسن صلاتك في الجهر ولا تسئها في السر ، بل اتبع طريقاً وسطاً يكون دائماً في كل حالة ، وقال ابن زيد : معنى الآية النهي عما يفعله أهل الإنجيل والتوراة من رفع الصوت أحياناً فيرفع الناس معه ، ويخفض أحياناً فيسكت من خلفه ، وقال ابن عباس في الآية : إن معناها { ولا تجهر } بصلاة النهار { ولا تخافت } بصلاة الليل ، واتبع سبيلاً من امتثال الأمر كما رسم لك ، ذكره يحيى بن سلام والزهراوي ، وقال عبد الله بن مسعود لم يخافت من أسمع أذنيه ، وما روي من أنه قيل لأبي بكر ارفع أنت قليلاً يرد هذا ، ولكن الذي قال ابن مسعود هو أصل اللغة ، ويستعمل الخفوت بعد ذلك في ارفع من ذلك{[7734]} ،
{ قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاسمآء الحسنى } .
لا شك أن لنزول هذه الآية سبباً خاصاً إذ لا موجب لذكر هذا التخيير بين دعاء الله تعالى باسمه العَلَم وبين دعائه بصفة الرحمان خاصة دون ذكر غير تلك الصفة من صفات الله مثل : الرحيم أو العزيز وغيرهما من الصفات الحسنى .
ثم لا بد بعد ذلك من طلب المناسبة لوقوعها في هذا الموضع من السورة .
فأما سبب نزولها فروى الطبري والواحدي عن ابن عباس قال : « كان النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً يدعو يا رحمان يا رحيم ، فقال المشركون : هذا يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو مثنى مثنى ، فأنزل الله تعالى : { قل ادعوا اللَّه أو ادعو الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } . وعليه فالاقتصار على التخيير في الدعاء بين اسم الله وبين صفة الرحمان اكتفاء ، أي أو الرحيم .
وفي « الكشاف » : عن ابن عباس سمع أبو جهل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : يا الله يا رحمان . فقال أبو جهل : إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر . وأخرجه ابن مردويه . وهذا أنسب بالآية لاقتصارها على اسم الله وصفة الرحمان .
وأما موقعها هنا فيتعين أن يكون سبب نزولها حدثَ حين نزول الآية التي قبلها .
والكلام رد وتعليم بأن تعدد الأسماء لا يقتضي تعدد المسمى ، وشتان بين ذلك وبين دعاء المشركين آلهة مختلفة الأسماء والمسميات ، والتوحيد والإشراك يتعلقان بالذوات لا بالأسماء .
و ( أي ) اسم استفهام في الأصل ، فإذا اقترنت بها ( ما ) الزائدة أفادت الشرط كما تفيده كيف إذا اقترنت بها ( ما ) الزائدة . ولذلك جزم الفعل بعدها وهو { تدعوا } شرطاً ، وجيء لها بجواب مقترن بالفاء ، وهو { فله الأسماء الحسنى } .
والتحقيق أن { فله الأسماء الحسنى } علة الجواب . والتقدير : أي اسم من أسمائه تعالى تَدعون فلا حرج في دعائه بعدة أسماء إذ له الأسماء الحسنى وإذ المسمى واحد .
ومعنى { ادعوا اللَّه أو ادعوا الرحمن } ادعوا هذا الاسم أو هذا الاسم ، أي اذكروا في دعائكم هذا أو هذا ، فالمسمى واحد . وعلى هذا التفسير قد وقع تجوز في فعل { ادعوا } مستعملاً في معنى اذكروا أو سموا في دعائكم .
ويجوز أن يكون الدعاء مستعملاً في معنى سمّوا ، وهو حينئذٍ يتعدى إلى مفعولين . والتقدير : سموا ربكم اللّهَ أو سموه الرحمان ، وحذف المفعول الأول من الفعلين وأبقي الثاني لدلالة المقام .
{ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا }
لا شك أن لهذه الجملة اتصالاً بجملة { قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن } يؤيد ما تقدم في وجه اتصال قوله : { قل ادعوا الله أو ادعو الرحمن } بالآيات التي قبله ، فقد كان ذلك بسبب جهر النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه باسم الرحمان .
والصلاة : تحتمل الدعاء ، وتحتمل العبادة المعروفة . قود فسرها السلف هنا بالمعنيين . ومعلوم أن من فسر الصلاة بالعبادة المعروفة فإنما أراد قراءتها خاصة لأنها التي توصف بالجهر والمخافتة .
وعلى كلا الاحتمالين فقد جهر النبي صلى الله عليه وسلم بذكر الرحمان ، فقال فريق من المشركين : ما الرحمان ؟ وقالوا : إن محمداً يدعو إلهين ، وقام فريق منهم يسب القرآن ومن جاء به ، أو يسب الرحمان ظناً أنه رب آخر غيرُ الله تعالى وغيرُ آلهتهم ، فأمر الله رسوله أن لا يجهر بدعائه أو لا يجهر بقراءة صلاته في الصلاة الجهرية .
ولعل سفهاء المشركين توهموا من صدع النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة أو بالدعاء أنه يريد بذلك التحكك بهم والتطاول عليهم بذكر الله تعالى مجرداً عن ذكر آلهتهم فاغتاظوا وسبوا ، فأمره الله تعالى بأن لا يجهر بصلاته هذا الجهر تجنباً لما من شأنه أن يثير حفائظهم ويزيد تصلبهم في كفرهم في حين أن المقصود تليين قلوبهم .
والمقصود من الكلام النهي عن شدة الجهر .
وأما قوله تعالى : { ولا تخافت بها } فالمقصود منه الاحتراس لكيلا يجعل دعاءه سراً أو صلاته كلها سراً فلا يبلغ أسماع المتهيئين للاهتداء به ، لأن المقصود من النهي عن الجهر تجنب جهر يُتوهم منه الكفارُ تحككاً أو تطاولاً كما قلنا .
والجهر : قوة صوت الناطق بالكلام .
والمخافتة مفاعلة : من خَفَتَ بكلامه ، إذا أسر به . وصيغة المفاعلة مستعملة في معنى الشدة ، أي لا تُسرها .
وقوله : { ذلك } إشارة إلى المذكور ، أي الجهر والمخافتة المعلومين من فعلي { تجهر وتخافت أي اطلب سبيلاً بين الأمرين ليحصل المقصود من إسماع الناس القرآن وينتفي توهم قصد التطاول عليهم .
عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه قال: إنما أنزلت هذه الآية: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}: في الدعاء.
قال الشافعي: إن الله عز وجل يقول: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} يعني ـ والله تعالى أعلم ـ الدعاء، ولا تجهر: ترفع، ولا تخافت: حتى لا تسمع نفسك. (الأم: 1/137.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه: قل يا محمد لمشركي قومك المنكرين دعاء الرحمن:"ادْعُوا اللّهَ" أيها القوم "أوِ ادْعُوا الرّحْمَنَ أيّا مّا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنَى "بأيّ أسمائه جلّ جلاله تدعون ربكم، فإنما تدعون واحدا، وله الأسماء الحُسنى. وإنما قيل ذلك له صلى الله عليه وسلم، لأن المشركين -فيما ذكر- سمعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو ربه: يا ربنا الله، ويا ربنا الرحمن، فظنوا أنه يدعو إلهين، فأنزل الله على نبيه عليه الصلاة والسلام هذه الآية احتجاجا لنبيه عليهم...
وقوله: "وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً" اختلف أهل التأويل في الصلاة؛
فقال بعضهم: عنى بذلك: ولا تجهر بدعائك، ولا تخافت به، ولكن بين ذلك. وقالوا: عنى بالصلاة في هذا الموضع: الدعاء...
وقال آخرون: عنى بذلك الصلاة. واختلف قائلو هذه المقالة في المعنى الذي عنى بالنهي عن الجهر به، فقال بعضهم: الذي نهى عن الجهر به منها القراءة... عن ابن عباس، في قوله: "وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها" قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا جهر بالصلاة بالمسلمين بالقرآن، شقّ ذلك على المشركين إذا سمعوه، فيُؤْذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشتم والعيب به، وذلك بمكة، فأنزل الله: يا محمد "لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ" يقول: لا تُعلِنْ بالقراءة بالقرآن إعلانا شديدا يسمعه المشركون فيؤذونك، ولا تخافت بالقراءة القرآن: يقول: لا تخفض صوتَك حتى لا تُسْمِع أذنيك وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً يقول: اطلب بين الإعلان والجهر وبين التخافت والخفض طريقا، لا جهرا شديدا، ولا خفضا لا تُسْمع أذنيك، فذلك القدر فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سقط هذا كله، يفعل الآن أيّ ذلك شاء...
وقال آخرون: إنما عُنِي بذلك: ولا تجهر بالتشهد في صلاتك، ولا تخافت بها...
وقال آخرون: بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة جِهارا، فأمر بإخفائها...
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تجهر بصلاتك تحسنها من إتيانها في العلانية، ولا تخافت بها: تسيئها في السريرة... عن ابن عباس، قوله: "وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولاَ تُخافِتْ" بِها قال: لا تصلّ مراءاة الناس ولا تدعها مخافة.
وقال آخرون:... قال ابن زيد في قوله: "وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتِغِ بينَ ذلكَ سَبِيلاً" قال: السبيل بين ذلك الذي سنّ له جبرائيل من الصلاة التي عليها المسلمون. قال: وكان أهل الكتاب يُخافتون، ثم يجهر أحدهم بالحرف، فيصيح به، ويصيحون هم به وراءه، فنهى أن يصيح كما يصيح هؤلاء، وأن يُخافت كما يُخافت القوم، ثم كان السبيل الذي بين ذلك، الذي سنّ له جبرائيل من الصلاة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، ما ذكرنا عن ابن عباس في الخبر الذي رواه أبو جعفر، عن سعيد، عن ابن عباس، لأن ذلك أصحّ الأسانيد التي رُوِي عن صحابيّ فيه قولٌ مخرّجا، وأشبه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنزيل، وذلك أن قوله: وَلا تَجْهِرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها عقيب قوله قُلِ ادْعِوا اللّهَ أوِ ادْعُوا الرّحْمنَ أيّا مّا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنَى وعقيب تقريع الكفار بكفرهم بالقرآن، وذلك بعدهم منه ومن الإيمان. فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى وأشبه بقوله وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها أن يكون من سبب ما هو في سياقه من الكلام، ما لم يأت بمعنى يوجب صرفه عنه، أو يكون على انصرافه عنه دليل يعلم به الانصراف عما هو في سياقه.
فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: قل ادعوا الله، أو ادعوا الرحمن، أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى، ولا تجهر يا محمد بقراءتك في صلاتك ودعائك فيها ربك ومسألتك إياه، وذكرك فيها، فيؤذيك بجهرك بذلك المشركون، ولا تخافت بها فلا يسمعها أصحابك "وَابْتَغِ بينَ ذلكَ سبِيلاً" ولكن التمس بين الجهر والمخافتة طريقا إلى أن تسمع أصحابك، ولا يسمعه المشركون فيؤذوك... فإن قال قائل: فأية قراءة هذه التي بين الجهر والمخافتة؟ قيل:...
قال عبد الله: لم يخافت من أسمع أذنيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أن العرب كانت لا تعرف الرسل والكتب المنزلة من السماء، ولا يؤمنون بها، وكانت لا تعرف ذكر الرحمان ولا التسمية به، وكذلك غيره من الأسماء لما لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بألسن الرسل والأنبياء وبالكتب المنزلة من السماء. فإذا لم يؤمنوا بالرسل، ولا عرفوا الكتب، حملهم ذلك على الإنكار والجحود لأسمائه، ولذلك {قالوا وما الرحمان} (الفرقان: 60) وقوله: {وهم يكفرون بالرحمان} (الرعد: 30) واسمه لما ذكرنا وأن يكونوا أنكروا اسم الرحمان لما لم يعرفوا أنه مأخوذ من الرحمة... وأما الله فهم يُسَمُّون كل معبود إلها. وعلى ذلك سموا الأصنام التي كانوا يعبدونها آلهة... فيسمون الله (إلها) لما هو المعبود عندهم. ورجعت عبادتهم الأصنام إلى الله حين زعموا {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر: 3) كانوا يطلبون بعبادتهم الأصنام القربة إلى الله. لذلك أنكروا غيره من الأسماء... وعرفوا أن اختلاف الأسماء وكثرتها لا يوجب اختلاف المسمى به، ولا يوجب عددا منه، وأن ما قالوا: إنه كان يدعوا حتى الآن إلى عبادة واحد، فالساعة يدعو إلى عبادة اثنين وأكثر؟ إنما قالوا على التعنت والعناد. وإلا قد عرفوا لشيء واحد اسمين، لكنهم أنكروا الله ذلك لما ذكرنا تَعَنُّتاً منهم وعنادا. على هذا يجوز أن تُتَأَوَلَ الآية... ثم اختلف في تخصيص ذكره بهذين الاسمين:
قال بعضهم: وجه تخصيصهم لأنهما اسمان مخصوصان له، لا يجوز أن يسمى غيره بهذين الاسمين. وأما غيرُهما من الأسماء فإنه يجوز أن يسمي غيره بها.
وقال الحسن: خَصَّ بِذِكْرِهِمَا لأنهما اسمان مُعَظَّمَان عند الخلق ما لم يجعل لغيرهما من الأسماء من التعظيم ما جعل لهذين.
وقال أبو بكر الأصم: خص بالذكر هذين لأن غيرهما من الأسماء أسماء أُخِذَت عن صفاته، وأما هذان فهما ليسا أخذا عن صفاته.
وقال الزجاج: الرحمن هو مأخوذ من الرحمة، إلا أنه النهاية في الرحمة، لأنه فعلان، وهو كما يقال: غضبان إذا انتهى غضبه غايته، وقوله: {الرحمان الرحيم} (الفاتحة: 2) كلاهما من الرحمة إلا أن الرحمة فعلان والفعلان هو النهاية من وصف الرحمة لما ذكرنا، وغيره من الخلائق لا يبلغون في الرحمة ذلك المبلغ. لذلك خص بالذكر الرحمن دون الرحيم...
وهذا كله واحد، ليس فيه خلاف. وأصله ما ذكرنا: لا يشترك غيره في هذين، ويجوز في غيرهما...
{فله الأسماء الحسنى} أي أسماؤه التي يسمى بها كلها الحسنى، ليس شيء منها قبيحا. أو يكون قوله: {فله الأسماء الحسنى} أي كل الأعمال الصالحة والأمور الحسنة له، أي تنسب إليه وتضاف، ولا يجوز أن يضاف وينسب إليه ما قَبُحَ منها، وسَمُجَ... وقوله تعالى: {فله الأسماء الحسنى} هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: له أسماء حسنة، يسمى بها.
والثاني: أن كل حسن، يسمى به غيره، فهو راجع في الحقيقة، وهو مسمى به، وكل حسن منسوب إليه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء، وهو يتعدّى إلى مفعولين، تقول: دعوته زيداً، ثم يترك أحدهما استغناء عنه فيقال: دعوت زيداً. والله والرحمن، المراد بهما الاسم لا المسمى. وأو للتخيير، فمعنى {ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} سموا بهذا الاسم أو بهذا، واذكروا إما هذا وإما هذا. والتنوين في {أَيّا} عوض من المضاف إليه. و {مَا} صلة للإبهام المؤكد لما في أيّ، أي: أيّ هذين الاسمين سميتم وذكرتم {فَلَهُ الأسماء الحسنى} والضمير في {فَلَهُ} ليس براجع إلى أحد الاسمين المذكورين، ولكن إلى مسماهما وهو ذاته تعالى؛ لأن التسمية للذات لا للاسم. والمعنى: أياما تدعوا فهو حسن، فوضع موضعه قوله: {فَلَهُ الأسماء الحسنى} لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان: لأنهما منها، ومعنى كونها أحسن الأسماء، أنها مستقلة بمعاني التحميد والتقديس والتعظيم. "بصلاتك": بقراءة صلاتك على حذف المضاف؛ لأنه لا يلبس، من قبل أن الجهر والمخافتة صفتان تعتقبان على الصوت لا غير، والصلاة أفعال وأذكار وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بقراءته، فإذا سمعها المشركون لغوا وسبوا، فأمر بأن يخفض من صوته، والمعنى: ولا تجهر حتى تسمع المشركين {وَلاَ تُخَافِتْ} حتى لا تسمع من خلفك {وابتغ بَيْنَ} الجهر والمخافتة {سَبِيلاً} وسطاً...
وابتغاء السبيل: مثل لانتحاء الوجه الوسط في القراءة {وَلِي مَّنَ الذل} ناصر من الذل ومانع له منه لاعتزازه به، أو لم يوال أحداً من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لا شك أن لنزول هذه الآية سبباً خاصاً إذ لا موجب لذكر هذا التخيير بين دعاء الله تعالى باسمه العَلَم وبين دعائه بصفة الرحمان خاصة دون ذكر غير تلك الصفة من صفات الله مثل: الرحيم أو العزيز وغيرهما من الصفات الحسنى.
ثم لا بد بعد ذلك من طلب المناسبة لوقوعها في هذا الموضع من السورة.
فأما سبب نزولها فروى الطبري والواحدي عن ابن عباس قال: « كان النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً يدعو يا رحمان يا رحيم، فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو مثنى مثنى، فأنزل الله تعالى: {قل ادعوا اللَّه أو ادعو الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}. وعليه فالاقتصار على التخيير في الدعاء بين اسم الله وبين صفة الرحمان اكتفاء، أي أو الرحيم.
وفي « الكشاف»: عن ابن عباس سمع أبو جهل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا الله يا رحمان. فقال أبو جهل: إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر. وأخرجه ابن مردويه. وهذا أنسب بالآية لاقتصارها على اسم الله وصفة الرحمان.
وأما موقعها هنا فيتعين أن يكون سبب نزولها حدثَ حين نزول الآية التي قبلها.
والكلام رد وتعليم بأن تعدد الأسماء لا يقتضي تعدد المسمى، وشتان بين ذلك وبين دعاء المشركين آلهة مختلفة الأسماء والمسميات، والتوحيد والإشراك يتعلقان بالذوات لا بالأسماء.
و (أي) اسم استفهام في الأصل، فإذا اقترنت بها (ما) الزائدة أفادت الشرط كما تفيده كيف إذا اقترنت بها (ما) الزائدة. ولذلك جزم الفعل بعدها وهو {تدعوا} شرطاً، وجيء لها بجواب مقترن بالفاء، وهو {فله الأسماء الحسنى}.
والتحقيق أن {فله الأسماء الحسنى} علة الجواب. والتقدير: أي اسم من أسمائه تعالى تَدعون فلا حرج في دعائه بعدة أسماء إذ له الأسماء الحسنى وإذ المسمى واحد.
ومعنى {ادعوا اللَّه أو ادعوا الرحمن} ادعوا هذا الاسم أو هذا الاسم، أي اذكروا في دعائكم هذا أو هذا، فالمسمى واحد. وعلى هذا التفسير قد وقع تجوز في فعل {ادعوا} مستعملاً في معنى اذكروا أو سموا في دعائكم.
ويجوز أن يكون الدعاء مستعملاً في معنى سمّوا، وهو حينئذٍ يتعدى إلى مفعولين. والتقدير: سموا ربكم اللّهَ أو سموه الرحمان، وحذف المفعول الأول من الفعلين وأبقي الثاني لدلالة المقام.
{ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}
لا شك أن لهذه الجملة اتصالاً بجملة {قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن} يؤيد ما تقدم في وجه اتصال قوله: {قل ادعوا الله أو ادعو الرحمن} بالآيات التي قبله، فقد كان ذلك بسبب جهر النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه باسم الرحمان.
والصلاة: تحتمل الدعاء، وتحتمل العبادة المعروفة. قود فسرها السلف هنا بالمعنيين. ومعلوم أن من فسر الصلاة بالعبادة المعروفة فإنما أراد قراءتها خاصة لأنها التي توصف بالجهر والمخافتة.
وعلى كلا الاحتمالين فقد جهر النبي صلى الله عليه وسلم بذكر الرحمان، فقال فريق من المشركين: ما الرحمان؟ وقالوا: إن محمداً يدعو إلهين، وقام فريق منهم يسب القرآن ومن جاء به، أو يسب الرحمان ظناً أنه رب آخر غيرُ الله تعالى وغيرُ آلهتهم، فأمر الله رسوله أن لا يجهر بدعائه أو لا يجهر بقراءة صلاته في الصلاة الجهرية.
ولعل سفهاء المشركين توهموا من صدع النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة أو بالدعاء أنه يريد بذلك التحكك بهم والتطاول عليهم بذكر الله تعالى مجرداً عن ذكر آلهتهم فاغتاظوا وسبوا، فأمره الله تعالى بأن لا يجهر بصلاته هذا الجهر تجنباً لما من شأنه أن يثير حفائظهم ويزيد تصلبهم في كفرهم في حين أن المقصود تليين قلوبهم.
والمقصود من الكلام النهي عن شدة الجهر.
وأما قوله تعالى: {ولا تخافت بها} فالمقصود منه الاحتراس لكيلا يجعل دعاءه سراً أو صلاته كلها سراً فلا يبلغ أسماع المتهيئين للاهتداء به، لأن المقصود من النهي عن الجهر تجنب جهر يُتوهم منه الكفارُ تحككاً أو تطاولاً كما قلنا.
والجهر: قوة صوت الناطق بالكلام.
والمخافتة مفاعلة: من خَفَتَ بكلامه، إذا أسر به. وصيغة المفاعلة مستعملة في معنى الشدة، أي لا تُسرها.
وقوله: {ذلك} إشارة إلى المذكور، أي الجهر والمخافتة المعلومين من فعلي {تجهر وتخافت أي اطلب سبيلاً بين الأمرين ليحصل المقصود من إسماع الناس القرآن وينتفي توهم قصد التطاول عليهم.