{ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } أي : من جميع الجهات والجوانب ، ومن كل طريق يتمكن فيه من إدراك بعض مقصوده فيهم .
ولما علم الخبيث أنهم ضعفاء قد تغلب الغفلة على كثير منهم ، وكان جازما ببذل مجهوده على إغوائهم ، ظن وصدق ظنه فقال : { وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } فإن القيام بالشكر من سلوك الصراط المستقيم ، وهو يريد صدهم عنه ، وعدم قيامهم به ، قال تعالى : { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }
وإنما نبهنا اللّه على ما قال وعزم على فعله ، لنأخذ منه حذرنا ونستعد لعدونا ، ونحترز منه بعلمنا ، بالطريق التي يأتي منها ، ومداخله التي ينفذ منها ، فله تعالى علينا بذلك ، أكمل نعمة .
وقوله : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ } زيادة بيان لحرص الشيطان على إضلال بنى آدم بشتى الوسائل ، أى : آتيهم من الجهات الأربع التي اعتاد العدو أن يهاجم عدوه منها ، والمراد : لأسولنّ لهم ولأظلنّهم بحيث لا أفتر عن ذلك ولا أيأس .
وقيل إن معنى { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } أى : من قبل الآخرة لأنها مستقبلة آتية ، وما هو كذلك فكأنه بين الأيدى . { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أى من قبل الدنيا لأنها ماضية بالنسبة إلى الآخرة ولأنها فانية متروكة " وعن أيمانهم وعن شمائلهم " أى : من جهة حسناتهم وسيئاتهم بحيث أزين لهم السيئات وأزهدهم في الحسنات .
وقوله : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } أى : مطيعين مستعملين لقواهم وجوارحهم وما أنعم الله به عليهم في طريق الطاعة والتقرب إلى الله .
وإنما قال ذلك لما رآه من الأمارات على طريق الظن كقوله - تعالى - :
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين } ولقد وردت آيات كثيرة وأحاديث متعددة في التحذير من الشيطان وكيده ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير } وجاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد عن سبرة بن الفاكه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه ، فقعد له بطريق الإسلام ، فقال : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك ؟ قال : فعصاه فأسلم . ثم قعد له بطريق الهجرة أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك ؟ قال : فعصاه فأسلم . ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول - أى كالفرس المربوطة بالحبل . قال : فعصاه فهاجر . قال : ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له : هو جهاد النفس والمال . فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال ، قال فعصاه فجاهد : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فمن فعل ذلك منهم فمات ، كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، أو قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، أو وقصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة " .
وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائى وغيرهم عن عبد الله بن عمر قال لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسى . يقول : " اللهم إنى أسألك العفو والعافية في دينى ودنياى وأهلى ومالى . اللهم استر عوراتى وآمن روعاتى اللهم احفظنى من بين يدى ومن خلفى وعن يمينى وعن شمالى ومن فوقى ، وأعوذ بعظمتك ان اغتال من تحتى " .
وإنه سيأتي البشر من كل جهة : ( من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) . . للحيلولة بينهم وبين الإيمان والطاعة . . وهو مشهد حي شاخص متحرك لإطباق إبليس على البشر في محاولته الدائبة لإغوائهم ، فلا يعرفون الله ولا يشكرونه ، اللهم إلا القليل الذي يفلت ويستجيب :
ويجيء ذكر الشكر ، تنسيقا مع ما سبق في مطلع السورة : ( قليلاً ما تشكرون ) . . لبيان السبب في قلة الشكر ؛ وكشف الدافع الحقيقي الخفي ، من حيلولة إبليس دونه ، وقعوده على الطريق إليه ! ليستيقظ البشر للعدو الكامن الذي يدفعهم عن الهدى ؛ وليأخذوا حذرهم حين يعرفون من أين هذه الآفة التي لا تجعل أكثرهم شاكرين !
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ لاَتِيَنّهُمْ مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى قوله : لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ من قِبَل الاَخرة ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قِبَل الدنيا ، وَعَنْ أيمَانِهِمْ من قِبَل الحق ، وَعَنْ شَمائِلهمْ من قِبَل الباطل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لاََتِيّنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ يقول : أشككهم في آخرتهم ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ أرغبهم في دنياهم وَعَنْ أيمانِهِمْ أشبه عليهم أمر دينهم ، وَعنْ شَمائِلِهِمْ أشهّي لهم المعاصي .
وقد رُوي عن ابن عباس بهذا الإسناد في تأويل ذلك خلاف هذا التأويل ، وذلك ما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ يعني من الدنيا ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ من الاَخرة ، وَعَنْ أيمَانِهِمْ من قِبَل حسناتهم ، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من قِبَل سيئاتهم . وتحقق هذه الرواية الأخرى التي :
حدثني بها محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفهِم وعن أيمانهم وَعَنْ شَمائِلِهمْ قال : ما بين أيديهم فمن قبلهم أما ومن خلفهم فأمر آخرتهم وأما عن أيمانهم : فمن قِبَل حسناتهم وأما عن شمائلهم : فمن قِبَل سيئاتهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِم . . . الاَية ، أتاهم من بين أيديهم ، فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ، ومن خلفهم من أمر الدنيا ، فزينها لهم ودعاهم إليها وعن أيمانهم : من قِبَل حسناتهم بطّأهم عنها وعن شمائلهم : زيّن لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها ، أتاك يا ابن آدم من كلّ وجه ، غير أنه لم يأتك من فوقك ، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله .
وقال آخرون : بل معنى قوله : مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ من قِبَل دنياهم ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قبَل آخرتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، في قوله : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ قال : من بين أيديهم من قِبَل دنياهم ومن خلفهم من قِبَل آخرتهم . وَعَنْ أيمانِهِمْ من قِبَل حسناتهم ، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ : من قبل سيئاتهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن الحكم : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمَانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ قال : من بين أيديهم : من دنياهم ومن خلفهم : من آخرتهم وعن أيمانهم : من حسناتهم وعن شمائلهم : : من قِبَل سيئاتهم .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ قال : من قِبل الدنيا يزينها لهم ومن خلفهم من قِبَل الاَخرة يبطّئهم عنها وعن أيمانهم : من قِبَل الحقّ يصدّهم عنه وعن شمائلهم من قِبَل الباطل يرغبهم فيه ، ويزينه لهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ثُمّ لاََتِيَنّهُم مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أما من بين أيديهم : فالدنيا أدعوهم إليها وأرغبهم فيها ومن خلفهم : فمن الاَخرة أشككهم فيها وأبعّدها عليهم وعن أيمانهم يعني الحقّ فأشككهم فيه وعن شمائلهم : يعني الباطل أخففه عليهم ، وأرغبهم فيه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قوله : مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ من دنياهم أرغبهم فيها ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ آخرتهم أكفرهم بها وأزهدهم فيها ، وَعَنْ أيمَانِهِمْ حسناتهم أزهدهم فيها ، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ مساوىء أعمالهم أحسّنها إليهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : من حيث يبصرون ومن حيث لا يبصرون . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قول الله : مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَعَنْ أيمَانِهِمْ قال : حيث يبصرون ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ حيث لا يبصرون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع وابن حميد ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، قال : تذاكرنا عند مجاهد قوله : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ فقال مجاهد : هو كما قال : يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم . زاد ابن حميد ، قال : يأتيهم من ثَمّ .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد المدني ، قال : قال مجاهد : فذكر نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : معناه : ثم لاَتينهم من جميع وجوه الحقّ والباطل ، فأصدّهم عن الحقّ وأحسّن لهم الباطل وذلك أن ذلك عقيب قوله : لأَقْعُدَنّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ فأخبر أنه يقعد لبني آدم على الطريق الذي أمرهم الله أن يسلكوه ، وهو ما وصفنا من دين الله الحقّ ، فيأتيهم في ذلك من كلّ وجوهه من الوجه الذي أمرهم الله به ، فيصدّهم عنه ، وذلك من بين أيديهم وعن أيمانهم ، ومن الوجه الذي نهاهم الله عنه ، فيزينه لهم ويدعوهم إليه ، وذلك من خلفهم وعن شمائلهم . وقيل : ولم يقل : «من فوقهم » لأن رحمة الله تنزل على عباده من فوقهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصريّ ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ ولم يقل : «من فوقهم » ، لأن الرحمة تنزل من فوقهم .
وأما قوله : ولاَ تَجد أكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ فإنه يقول : ولا تجد رب أكثر بني آدم شاكرين لك نعمتك التي أنعمت عليهم كتكرمتك أباهم آدم بما أكرمته به ، من إسجادك له ملائكتك ، وتفضيلك إياه عليّ ، وشكرهم إياه طاعتهم له بالإقرار بتوحيده ، واتباع أمره ونهيه . وكان ابن عباس يقول في ذلك بما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ يقول : موحدين .