30- أَعَمِىَ الذين كفروا ولم يبصروا أن السماوات والأرض كانتا في بدء خلقهما ملتصقتين ، فبقدرتنا فَصَلَنا كلا منهما عن الأخرى ، وجعلنا من الماء الذي لا حياة فيه كل شيء حي ؟ ! فهل بعد كل هذا يُعرضون ، فلا يؤمنون بأنه لا إله غيرنا ؟ {[127]}
{ 30 ْ } { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ْ }
أي : أولم ينظر هؤلاء الذين كفروا بربهم ، وجحدوا الإخلاص له في العبودية ، ما يدلهم دلالة مشاهدة ، على أنه الرب المحمود الكريم المعبود ، فيشاهدون السماء والأرض فيجدونهما رتقا ، هذه ليس فيها سحاب ولا مطر ، وهذه هامدة ميتة ، لا نبات فيها ، ففتقناهما : السماء بالمطر ، والأرض بالنبات ، أليس الذي أوجد في السماء السحاب ، بعد أن كان الجو صافيا لا قزعة فيه ، وأودع فيه الماء الغزير ، ثم ساقه إلى بلد ميت ؛ قد اغبرت أرجاؤه ، وقحط عنه ماؤه ، فأمطره فيها ، فاهتزت ، وتحركت ، وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ، مختلف الأنواع ، متعدد المنافع ، [ أليس ذلك ]{[528]} دليلا على أنه الحق ، وما سواه باطل ، وأنه محيي الموتى ، وأنه الرحمن الرحيم ؟ ولهذا قال : { أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ْ } أي : إيمانا صحيحا ، ما فيه شك ولا شرك .
وبعد أن ساق - سبحانه - ألوانا من الأدلة الكونية الشاهدة بوحدانيته ، ومن الأدلة النقلية النافية للشركاء ، ومن الأدلة الوجدانية التى تهيج القلوب نحو الحق . . . أتبع ذلك بتحريض الكافرين على التدبر فى ملكون السموات والأرض ، لعل هذا التدبر يهديهم إلى الإيمان . فقال - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَ . . . } .
قوله { رَتْقاً } مصدر رقته رتقا : إذا سده . يقال : رتق فلان الفتق رتقا ، إذا ضمه وسده ، وهو ضد الفتق الذى هو بمعنى الشق والفصل .
وللعلماء فى معنى هذه الآية أقوال أشهرها : أن معنى { كَانَتَا رَتْقاً } أن السماء كانت صماء لا ينزل منها مطر ، وأن الأرض كانت لا يخرج منها نبات ، ففتق الله - تعالى - السماء بأن جعل المطر ينزل منها ، وفتق الأرض بأن جعل النبات يخرج منها .
وهذا التفسير منسوب إلى ابن عباس ، فقد سئل عن ذلك فقال : كانت السموات رتقا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت ، فلما خلق - سبحانه - للأرض أهلا ، فتق هذه بالمطر ، وفتق هذه بالنبات .
ومنهم من يرى أن المعنى : كانت السموات والأرض متلاصقتين كالشىء الواحد ، ففتقهما الله - تعالى - بأن فصل بينهما ، فرفع السماء إلى مكانها ، وأبقى الأرض فى مقرها ، وفصل بينهما بالهواء .
قال قتادة قوله { كَانَتَا رَتْقاً } يعنى أنهما كانا شيئا واحداً ففصل الله بينهما بالهواء .
ومنهم من يرى أن معنى " كانتا رتقا " أن السموات السبع كانت متلاصقة بعضها ببعض ففتقها الله - تعالى - بأن جعلها سبع سموات منفصلة ، والأرضون كانت كذلك رتقا ، ففصل الله - تعالى - بينها وجعلها سبعا .
قال مجاهد : كانت السموات طبقة واحدة مؤتلفة ، ففتقها فجعلها سبع سموات ، وكذلك الأرضين كانت طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبعا " .
وقد رجح بعض العلماء المعنى الأول فقال ما ملخصه : كونهما " كانتا رتقا " بمعنى أن السماء لا ينزل منها مطر ، والأرض لا تنبت ، ففتق - سبحانه - السماء بالمطر والأرض بالنبات ، هو الراجح وتدل عليه قرائن من كتاب الله - تعالى - منها :
أن قوله - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا . . } يدل على أنهم رأوا ذلك لأن الأظهر فى رأى أنها بصرية ، والذى يرونه بأبصارهم هو أن السماء تكون لا ينزل منها مطر ، والأرض لا نبات فيها . فيشاهدون بأبصارهم نزول المطر من السماء ، وخروج النبات من الأرض .
ومنها : أنه - سبحانه - أتبع ذلك بقوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } والظاهر اتصال هذا الكلام بما قبله . أى : وجعلنا من الماء الذى أنزلناه بفتقنا السماء ، وأنبتنا به أنواع النبات بفتقنا الأرض ، كل شىء حى .
ومنها : أن هذا المعنى جاء موضحا فى آيات أخرى ، كقوله - تعالى - : { والسمآء ذَاتِ الرجع والأرض ذَاتِ الصدع } والمراد بالرجع : نزول المطر من السماء تارة بعد أخرى ، والمراد بالصدع : انشقاق الأرض عن النبات . واختار هذا القول ابن جرير وابن عطية والفخر الرازى .
فإن قيل : هذا الوجه مرجوح ، لأن المطر لا ينزل من السموات ، بل من سماء واحدة وهى سماء الدنيا ؟
قلنا : إنما أطلق عليه لفظ الجمع ، لأن كل قطعة فيها سماء كما يقال : ثوب أخلاق - أى : قطع - .
والآية الكريمة مسوقة بتجهيل المشركين وتوبيخهم على كفرهم ، مع أنهم يشاهدون بأعينهم ما يدل دلالة واضحة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، ويعلمون أن من كان كذلك ، لا يصح أن تترك عبادته إلى عبادة حجر أو نحوه ، مما لا يضر ولا ينفع .
والمعنى : أو لم يشاهد الذين كفروا بأبصارهم ، ويعلموا بعقولهم ، أن السموات والأرض كانتا رتقا ، بحيث لا ينزل من السماء مطر ، و لا يخرج من الأرض نبات ، ففتق الله - تعالى - السماء بالمطر ، والأرض بالنبات .
إنهم بلا شك يشاهدون ذلك ، ويعقلونه بأفكارهم . ولكنهم لاستيلاء الجحود والعناد عليهم ، يعبدون من دونه - سبحانه - مالا ينفع من عَبَده ، ولا يضر من عصاه .
وقال - سبحانه - : { كَانَتَا } بالتثنية ، باعتبار النوعين اللذين هما نوع السماء ، ونوع الأرض ، كما فى قوله - تعالى - : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ . . } وقوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ . . . } تأكيد لمضمون ما سبق ، وتقرير لوحدانيته ونفاذ قدرته - سبحانه - والجعل بمعنى الخلق . و { مِنَ } ابتدائية .
أى : وخلقنا من الماء بقدرتنا النافذة ، كل شىء متصف بالحياة الحقيقية وهو الحيوان ، أو كل شىء نام فيدخل النبات ، ويراد من الحياة ما يشمل النمو .
وهذا العام مخصوص بما سوى الملائكة والجن مما هو حى ، لأن الملائكة - كما جاء فى بعض الأخبار - خلقوا من النور ، والجن مخلوقون من النار .
قال - تعالى - { خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } قال القرطبى : وفى قوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } ثلاث تأويلات : أحدها : أنه خلق كل شىء من الماء . قاله قتادة . الثانى : حفظ حياة كل شىء بالماء : الثالث : وجعلنا من ماء الصلب - أى : النطفة - كل شىء حى . .
وقوله : { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } إنكار لعدم إيمانهم مع وضوح كل ما يدعو إلى الإيمان الحق ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه هذا الإنكار .
أى : أيشاهدون بأعينهم ما يدل على وحدانية الله وقدرته . ومع ذلك لا يؤمنون ؟ إن أمرهم هذا لمن أعجب العجب ، وأغرب الغرائب ! !