القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أَلمْ يَأَنِ للّذِينَ آمَنُوا : ألم يحن للذين صدّقوا الله ورسوله أن تلين قلوبهم لذكر الله ، فتخضع قلوبهم له ، ولما نزل من الحقّ ، وهو هذا القرآن الذي نزّله على رسوله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أَلَمْ يَأَنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ قال : تطيع قلوبهم .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرِمة ألَمْ يأَنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ . . . .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أَلَمْ يأنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ . . . الآية . ذُكر لنا أن شدّاد بن أوس كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إن أوّلَ ما يُرْفَعُ مِنَ النّاس الخُشُوعُ » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : كان شدّاد بن أوس يقول أوّل ما يرفع من الناس الخشوع .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَما نَزَلَ مِنَ الحَقّ فقرأته عامة القرّاء غير شيبة ونافع بالتشديد «نَزّل » ، وقرأه شيبة ونافع ، وما نزل بالتخفيف ، وبأيّ القراءتين قرأ القارىء فمصيب ، لتقارب معنييهما .
وقوله : وَلا يَكُونُوا كالّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْل فَطالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ يقول تعالى ذكره : ألم يأن لهم أن ولا يكونوا ، يعني الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كالّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ يعني من بني إسرائيل ، ويعني بالكتاب الذي أوتوه من قبلهم التوراة والإنجيل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير ، عن مُغيرة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، قال : جاء عتريس ابن عرقوب إلى ابن مسعود ، فقال : يا عبد الله هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر ، فقال عبد الله : هلك من لم يعرف قلبه معروفا ، ولم ينكر قلبه منكرا ، إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد ، وقست قلوبهم اخترعوا كتابا من بين أيديهم وأرجلهم ، استهوته قلوبهم ، واستحلته ألسنتهم ، وقالوا : نعرض بني إسرائيل على هذا الكتاب ، فمن آمن به تركناه ، ومن كفر به قتلناه قال : فجعل رجل منهم كتاب الله في قرن ، ثم جعل القَرَن بين ثندُوَتَيْهِ فلما قيل له : أتؤمن بهذا ؟ قال : آمنت به ، ويومىء إلى القرن الذي بين ثندُوَتَيْهِ ، ومالي لا أومن بهذا الكتاب ، فمن خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن .
ويعني بقوله : فَطالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ ما بينهم وبين موسى صلى الله عليه وسلم ، وذلك الأمد الزمان . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : الأَمَدُ قال : الدهر .
وقوله : فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ عن الخيرات ، واشتدّت على السكون إلى معاصي الله وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ يقول جلّ ثناؤه : وكثير من هؤلاء الذين أوتوا الكتاب من قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فاسقون .
وقوله تعالى : { ألم يأن } الآية ابتداء معنى مستأنف ، وروي أنه كثر المزاح والضحك في بعض تلك المدة في قوم من شبان المسلمين فنزلت هذه الآية . وقال ابن مسعود : مل الصحابة ملة فنزلت الآية . ومعنى : { ألم يأن } ألم يحن ، ويقال : أنى الشيء يأني ، إذا حان ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
تمخضت المنون له بيوم . . . أنى ولكل حاملة تمام{[10976]}
وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «ألما يأن » . وروي عنه أنه قرأ «ألم يين » .
وهذه الآية على معنى الحض والتقريع ، قال ابن عباس : عوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن ، وسمع الفضل بن موسى قارئاً يقرأ هذه الآية ، والفضل يحاول معصية ، فكانت الآية سبب توبته . وحكى الثعلبي عن ابن المبارك أنه في صباه حرك العود ليضربه ، فإذا به قد نطق بهذه الآية ، فتاب ابن المبارك وكسر العود وجاءه التوفيق{[10977]} . والخشوع : الإخبات والتطامن ، وهي هيئة تظهر في الجوارح متى كانت في القلب ، فلذلك خص تعالى القلب بالذكر . وروى شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «أول ما يرفع من الناس الخشوع »{[10978]} .
وقوله تعالى : { لذكر الله } أي لأجل ذكر الله ووحيه الذي بين أظهرهم ، ويحتمل أن يكون المعنى : لأجل تذكير الله إياهم وأوامره فيهم .
وقرأ عاصم في رواية حفص ونافع : «وما نزَل » مخفف الزاي . وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم : «نزّل » بشد الزاي على معنى : نزّل الله من الحق . وقرأ أبو عمرو في رواية عباس وهي قراءة الجحدري وابن القعقاع : «نزِّل » بكسر الزاي وشدها . وقرأ نافع وأبو عمرو والأعرج وأبو جعفر : «ولا يكونوا » بالياء على ذكر الغيب .
وقرأ حمزة فيما روى عنه سليم : ولا تكونوا «بالتاء على مخاطبة الحضور .
والإشارة في قوله : { أوتوا الكتاب } إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام ، وذلك قال : { من قبل } وإنما شبه أهل عصر نبي بأهل عصر نبي . و : { الأمد } قيل معناه : أمد انتظار الفتح ، وقيل أمد انتظار القيامة وقيل أمد الحياة . و : { قست } معناه : صلبت وقل خيرها وانفعالها للطاعات وسكنت إلى معاصي الله ، ففعلوا من العصيان والمخالفة ما هو مأثور عنهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.