67- لا يسوغ لأحد من الأنبياء أن يكون له أسرى يحتجزهم ، أو يأخذ منهم الفداء ، أو يمن عليهم بالعفو عنهم حتى يتغلب ويظهر على أعدائه ، ويثقلهم بالجراح ، فلا يستطيعون قتالا في الأرض ، ولكنكم - يا جماعة المسلمين - سارعتم في غزوة بدر إلى اتخاذ الأسرى قبل التمكن في الأرض ، تريدون منافع الدنيا واللَّه يريد لكم الآخرة بإعلاء كلمة الحق ، وعدم الالتفاف إلى ما يشغلكم عن الدنيا ، واللَّه قوى قادر غالب ، يدبر الأمور لكم على وجه المنفعة .
وبعد هذا الحديث المستفيض عن القتال في سبيل الله . . عقب - سبحانه - ذلك بالحديث عن بعض الأحكام التي تتعلق بالأسرى بمناسبة ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أسرى غزوة بدر من الكافرين ، فقال - تعالى - : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ . . . غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها ، ما أخرجه مسلم في صحيح عن ابن عباس قال : حدثنى عمر بن الخطاب : " أنه لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً ، فاستقبل القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه : اللهم أنجز لى ما وعدتنى
. فقتل المسلمون من المشركين يومئذ سبعين وأسروا سبعين .
قال ابن عباس : فلما اسروا الأسارى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبى بكر وعمر : ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار فعسى أن يهديهم الله إلى الإِسلام .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ترى يا ابن الخطاب ؟ قال : قلت لا والله يا رسول الله ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم ، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه ، وتمكننى من فلان - نسيب لعمر - فأضرب عنقه ، - حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين : فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده . فهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت :
فلما كان من الغد جئت ، فإذا رسول الله وأبو بكر يبكيان ، فقلت : يا رسول الله . أخبرنى من أي شيئ بتكبى أنت وصاحبك . فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبى على أصحابك من أخذهم الفداء عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله - عز وجل - : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } " إلخ الآيات .
وروى الإِمام والترمذى عن عبد الله بن مسعود قال : " لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما تقولون في هؤلاء الأسارى " ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ! قومك وأهلك استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم .
وقال عمر : يا رسول الله ! كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم .
وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، أنت بواد كثير الحطب فأضرم الوادى عليهم ناراً ثم ألقهم فيه .
قال : فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد شيئاً . ثم قال فدخل فقال ناس : يأخذ بقول أبى بكر . وقال ناس : يأخذ بقول عمر . وقال ناس : يأخذ بقول ابن رواحة .
ثم خرج عليهم رسول الله فقال : " إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللين ؛ ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم إذ قال { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وكمثل عيسى إذ قال : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } .
وإن مثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } ، وكمثل موسى إذ قال : { رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } .
ثم قال - صلى الله عليه وسلم - : " أنتم عالة فلا ينفلتن أحد إلا بفداء أو ضربة عنق " .
قال ابن مسعود : فقلت يا رسول ، إلا سهيل بن بيضاء ، فإنه يذكر الإِسلام ، فسكت رسول الله ثم قال : " إلا سهيل بن بيضاء " . وأنزل الله - عز وجل - { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض . . . } "
وقال ابن إسحاق - وهو يحكى أخبار غزوة بدر - : " فلما وضع القوم أيدهم يأسرون ورسوله الله - صلى الله عليه وسلم - في العريش ، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوشحاً السيف ، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله ، يخافون عليه الكرة . ورأى رسول الله - فيما ذكر لى - في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم " ؟ فقال : أجل والله يا رسول الله : كانت هذه أول وقعة أوقعها الله بأهل الشكر ، فكان الإِثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال " .
قوله : { أسرى } : جمع أسير كقتلى جمع قتيل . وهو مأخوذ من الأسر بمعنى الشد بالإِسار أى : القيد به حتى لا يهرب ، ثم صار لفظ الأسير يطلق على كل من يؤخذ من فتنة في الحرب ، ولو لم يشد بالإِسار .
وقوله { يُثْخِنَ } من الثخانة وهى في الأصل الغلظ والصلابة . يقال : ثخن الشيئ يثخن ثخونة وثخانة وثخنا ، أى : غلظ وصلب فهو ثخين ، ثم استعمل في النكاية والمبالغة في قتل العدو فقيل : أثخن فلان في عدوه . أى : بالغ في قتله وإنزال الجراحة الشديدة به ، لأنه بذلك بمنعه من الحركة فيصير كالثخين الذي لا يسيل ولا يتحرك .
والمراد بالنبى في قوله { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ } : نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنما جئ باللفظ منكراً تلطفاً به - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يواجه بالعتاب .
والمعنى : ما صح وما استقام لنبى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام { أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } من أعدائه الذين يريدون به وبدعوته شراً { حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } أى : حتى يبالغ في قتلهم ، وإنزاله الضربات الشديدة عليهم إذلالاً للكفر وإعزازا لدين الله .
وقوله : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا والله يُرِيدُ الآخرة } استئناف مسوق للعتاب .
والعرض : ما لا ثبات له ولا دوام من الأشياء ، فكأنها تعرض ثم تزول ، والمراد بعرض الدنيا هنا : الفداء الذي أخذوه من أسرى غزوة بدر حتى يطلقوا سراحهم .
تريدون - أيها المؤمنون - بأخذكم الفداء من أعدائكم الأسرى عرض الدنيا ومتاعها الزائل ، وحطامها الذي لا ثبات له ، والله - تعالى - يريد لكم ثواب الآخرة .
فالكلام في قوله : { والله يُرِيدُ الآخرة } على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والإِرادة هنا بمعنى الرضا أى : والله - تعالى - يرضى لكم العمل الذي يجعلكم تظفرون بثوابه في الآخرة ، وهو تفضيل إذلال الشرك على أخذ الفداء من أهله .
وقوله : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أى : والله - تعالى - { عَزِيزٌ } لا يغالب بل هو الغالب على أمره { حَكِيمٌ } في كل ما يأمر به أو ينهى عنه .
فالآية الكريمة تعتب على المؤمنين ، لأنهم آثروا الفداء على القتال والإِثخان في الأرض ، وذلك لأن غزوة بدر كانت أول معركة حاسمة بين الشرك والإيمان ، وكان المسلمون فيها قلة والمشركون كثرة ، فلو أن المسلمين آثروا المبالغة في إذلال أعدائهم عن طريق القتل لكان ذلك أدعى لكسر شوكة الشرك وأهله ، وأظهر في إذلال قريش وحلفهائها ، وأصرح في بيان أن العمل على إعلاء كلمة الله كان عند المؤمنين فوق متع الدنيا واعرضها ، وأنهم لا يوادون من حارب الله ورسوله مهما بلغت درجة قرابته ، وهذا ما عبر عنه عمر - رضى الله عنه - بقوله : " وحتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين " .
والخلاصة أن غزوة بدر - بظروها وملابساتها التي سبق أن أشرنا إليها - كان الأولى بالمسلمين فيها أن يبالغوا في قتل أعدائهم لا أن يقبلوا منهم فداء حتى يذلوها ويعجزوهم عن معاودة الكرة .
ورضى الله - تعالى - عن " سعد بن معاذ " فقد هرت الكراهية على وجهه بسبب أخذ الفداء من الأسرى ، وقال - كما سبق أن بينا - : " كانت غزوة بدر - أول وقعة أوفعها الله بأهل الشرك ، فكان الإِثخان في القتل أحب إلىّ من استبقاء الرجال " .
قال الفخر الرازى : قال ابن عباس : هذا الحكم إنما كان يوم بدر ، لأن المسلمين كانوا قليلين ، فلما كثروا وقوى سلطانهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى { حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } ثم قال الرازى : وأقول : إن هذا الكلام يوهم أن قوله { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } يزيد على حكم الآية التي نحن في تفسيرها : وليس الأمر كذلك ، لأن الآيتين متوافقتان ، فإن كلتيهما تدل على أنه لا بد من تقديم الإِثخان ثم بعده أخذ الفداء .
هذه الآية تتضمن عندي معاتبة من الله عز وجل لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ، والمعنى ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي أسرى قبل الإثخان ، ولهم هو الإخبار ولذلك استمر الخطاب ب { تريدون } ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ولا أراد قط عرض الدنيا ، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب ، وجاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية مشيراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في العتب حين لم ينه عن ذلك حين رآه من العريش ، وأنكره سعد بن معاذ ولكنه صلى الله عليه وسلم شغله بغت الأمر وظهور النصر فترك النهي عن الاستبقاء ولذلك بكى هو وأبو بكر حين نزلت هذه الآية ، ومر كثير من المفسرين على أن هذا التوبيخ إنما كان بسبب إشارة من أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الفدية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جمع أسرى بدر استشار فيهم أصحابه ، فقال أبو بكر الصديق يا رسول الله هم قرابتك ولعل الله أن يهديهم بعد إلى الإسلام ففادهم واستبقهم ويتقوى المسلمون بأموالهم ، وقال عمر بن الخطاب لا يا رسول الله بل نضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر ، وقال عبد الله بن رواحة بل نجعلهم في وادٍ كثير الحطب ثم نضرمه عليهم ناراً ، وقد كان سعد بن معاذ قال وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش وقد رأى الأسر : لقد كان الإثخان في القتل أحب إليَّ من استبقاء الرجال ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر ومال إليه ، فنزلت هذه الآية مخبرة أن الأولى والأهيب على سائر الكفار كان قتل أسرى بدر ، قال ابن عباس نزلت هذه الآية والمسلمون قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم نزل في الأسر { فإما منّاً بعد وإما فداء }{[5471]} وذكر الطبري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تكلم أصحابه في الأسرى بما ذكر دخل ولم يجبهم ثم خرج ، فقال : إن الله تعالى يلين قلوب رجال ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال { فمن يتبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم }{[5472]} ومثل عيسى قال : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم }{[5473]} ومثلك يا عمر مثل نوح قال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً }{[5474]} ومثل موسى قال : { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم }{[5475]} ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «أنتم اليوم فلا يفلتن منهم رجل إلا بفدية أو ضرب عنق »{[5476]}
وفي هذا الحديث قال عمر : فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت .
قال القاضي أبو محمد : وهذه حجة على ذكر الهوى في الصلاح ، وقرأت فرقة «ما كان للنبيّ » معرفاً ، وقرأ جمهور الناس «لنبي » ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء وحده «أن تكون » على التأنيث العلامة مراعاة للفظ الأسرى ، وقرأ باقي السبعة وجمهور الناس «أن يكون » بتذكير العلامة مراعاة لمعنى الأسرى ، وقرأ جمهور الناس والسبعة «أسرى » ، وقرأ بعض الناس «أسارى » ورواها المفضل عن عاصم ، وهي قراءة أبي جعفر ، والقياس والباب أن يجمع أسير على أسرى ، وكذلك كل فعيل بمعنى مفعول وشبه به فعيل وإن لم يكن بمعنى مفعول كمريض ومرضى ، إذا كانت أيضاً أشياء سبيل الإنسان أن يجبر عليها وتأتيه غلبة ، فهو فيها بمنزلة المفعول ، وأما جمعه على أسارى فشبيه بكسالى في جمع كسلان وجمع أيضاً كسلان على كسلى تشبيهاً بأسرى في جمع أسير ، قاه سيبويه : وهما شاذان ، وقال الزجّاج : أسارى جمع أسرى فهو جمع الجمع{[5477]} ، وقرأ جمهور الناس «يثْخن » بسكون الثاء ، وقرأ أبو جعفر ويحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب «يَثخّن » بفتح الثاء وشد الخاء ، ومعناه في الوجهين يبالغ في القتل ، والإثخان إنما يكون في القتل والجارحة وما كان منها ، ثم أمد{[5478]} مخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال { تريدون عرض الدنيا } أي مالها الذي يعن ويعرض ، والمراد ما أخذ من الأسرى من الأموال ، { والله يريد الآخرة } أي عمل ألآخرة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقرأ ابن جماز «الآخرةِ » بالخفض على تقدير المضاف ، وينظر ذلك لقول الشاعر : [ المتقارب ]
أكل امرىء تحسبين امرأً*** ونار توقّدُ بالليلِ نارا{[5479]}
على تقدير وكل نار ، وذكر الطبري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس : «إن شئتم أخذتم فداء الأسرى ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم ، وإن شئتم قتلوا وسلمتم » فقالوا نأخذ المال ويستشهد منا سبعون ، وذكر عبد بن حميد بسنده أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير الناس هكذا .
قال القاضي أبو محمد : وعلى الروايتين فالأمر في هذا التخيير من عند الله فإنه إعلام بغيب ، وإذا خيروا فكيف يقع التوبيخ بعد بقوله تعالى : { لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } والذي أقول في هذا إن العتب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله { ما كان لنبي } إلى قوله { عظيم } إنما هو على استبقاء الرجال وقت الهزيمة رغبة في أخذ المال منهم وجميع العتب إذا نظر فإنما هو للناس ، وهناك كان عمر يقتل ويحض على القتل ولا يرى الاستبقاء ، وحينئذ قال سعد بن معاذ : الإثخان أحب إليَّ من استبقاء الرجال ، وبذلك جعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجيين من عذاب أن لو نزل ، ومما يدل على حرص بعضهم على المال قول المقداد حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط : «أسيري يا رسول الله » ، وقول مصعب بن عمير للذي يأسر أخاه : «شد يدك عليه فإن له أماً موسرة » ، إلى غير ذلك من قصصهم ، فلما تحصل الأسرى وسيقوا إلى المدينة وأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل في النضر وعقبة والمنّ في أبي عزة وغيره ، وجعل يرتئي في سائرهم نزل التخيير من الله تعالى فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ ، فمر عمر رضي الله عنه على أول رأيه في القتل ، ورأى أبو بكر رضي الله عنه المصلحة في قوة المسلمين بمال الفداء ، ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر ، وكلا الرأيين اجتهاد بعد تخيير ، فلم ينزل على شيء من هذا عتب ، وذكر المفسرون أن الآية نزلت بسبب هذه المشورة والآراء ، وذلك معترض بما ذكرته ، وكذلك ذكروا في هذه الآيات تحليل المغانم لهذه الأمة ولا أقول ذلك ، لأن حكم الله تعالى بتحليل المغنم لهذه الأمة قد كان تقدم قبل بدر وذلك في السرية التي قتل فيها عمرو بن الحضرمي وإنما المبتدع في بدر استبقاء الرجال لأجل المال ، والذي منَّ الله به فيها إلحاق فدية الكافر بالمغانم التي قد تقدم تحليلها ، ووجه ما قال المفسرون أن الناس خيروا في أمرين ، أحدهما غير جيد على جهة الاختبار لهم ، فاختاروا المفضول فوقع العتب ، ولم يكن تخييراً في مستويين ، وهذا كما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بإناءين فاختار الفاضل{[5480]} ، و { عزيز حكيم } صفتان من قبل الآية لأن بالعزة والحكمة يتم مراده على الكمال والتوفية ، وقال أبو عمرو بن العلاء : الأسرى هم غير الموثقين عندما يؤخذون ، والأسارى هم الموثقون ربطاً .
قال القاضي أبو محمد : وحكى أبو حاتم أنه سمع هذا من العرب ، وقد ذكره أيضاً أبو الحسن الأخفش ، وقال : العرب لا تعرف هذا وكلاهما عندهم سواء .
استئناف ابتدائي مناسب لما قبله سواء نزل بعقبه أم تأخّر نزوله عنه فكان موقعه هنا بسبب موالاة نزوله لنزول ما قبله أو كان وضع الآية هنا بتوقيف خاصّ .
والمناسبة ذكر بعض أحكام الجهاد ، وكان أعظم جهاد مضى هو جهاد يوم بدر . لا جرم نزلت هذه الآية بعد قضية فداء أسرى بدر مشيرة إليها .
وعندي أن هذا تشريع مستقبل أخّره الله تعالى رفقاً بالمسلمين الذين انتصروا ببدر وإكراماً لهم على ذلك النصر المبين ، وسدّاً لخلّتهم التي كانوا فيها ، فنزلت لبيان الأمر الأجدر فيما جرى في شأن الأسرى في وقعة بدر . وذلك ما رواه مسلم عن ابن عبّاس ، والترمذي عن ابن مسعود ، ما مُختصره أن المسلمين لما أسروا الأسارى يوم بدر وفيهم صناديد المشركين سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفاديهم بالمال وعَاهدوا على أن لا يعودوا إلى حربه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين " ما تَرون في هؤلاء الأسارى " ، قال أبو بكر : « يا نبي الله هم بنو العمّ والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوّة على الكفّار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام » وقال عُمر : أرى أن تمكّننا فنضرب أعناقهم فإنّ هؤلاء أئمّة الكفر وصناديدها فَهوي رسولُ الله ما قال أبو بكر فأخذ منهم الفداء كما رواه أحمد عن ابن عباس فأنزل الله { ما كان لنبيء أن يكون له أسرى } الآية .
ومعنى قوله : هَوِيَ رسولُ الله ما قال أبو بكر : أنّ رسول الله أحبّ واختار ذلك ؛ لأنّه من اليسر والرحمة بالمسلمين إذ كانوا في حاجة إلى المال ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خُيّر بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً . وروي أنّ ذلك كان رغبة أكثرهم وفيه نفع للمسلمين ، وهم في حاجة إلى المال . ولمّا استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَ مشُورته تعيّن أنّه لم يُوح الله إليه بشيء في ذلك ، وأنّ الله أوْكل ذلك إلى اجتهاد رسوله عليه الصلاة والسلام فرأى أنّ يستشير الناس ثم رجَّح أحد الرأيين باجتهاد ، وقد أصاب الاجتهادَ ، فإنّهم قد أسلم منهم ، حينئذ ، سُهيل بن بيضاء ، وأسلم من بعدُ العباسُ وغيره ، وقد خفي على النبي صلى الله عليه وسلم شيء لم يعلمه إلاّ الله وهو إضمار بعضهم بعد الرجوع إلى قومهم أن يتأهّبوا لقتال المسلمين من بعد .
وربّما كانوا يضمرون اللحاق بفل المشركين من موضع قريب ويعودون إلى القتال فينقلب انتصار المسلمين هزيمة كما كان يومَ أُحُد ، فلأجل هذا جاء قوله تعالى : { ما كان لنبيء أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } .
قال ابن العربي في « العارضة » : روى عبيدة السلماني عن علي أنّ جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فخيّره بين أن يقرِّب الأسارى فيضرب أعناقهم أو يقبلوا منهم الفداء ، ويُقتل منكم في العام المقبل بعدّتهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا جبريل يخيّركم أن تقدّموا الأسارى وتضربوا أعناقهم أو تقبلوا منهم الفداء ويستشهد منكم في العام المقبل بعدتهم " ، فقالوا : يا رسول الله نأخذ الفداء فنقوى على عدوّنا ويقتل منّا في العام المقبل بعدّتهم ، ففعلوا .
والمعنى أنّ النبي إذا قاتل فقتاله متمحّض لغاية واحدة ، هي نصر الدين ودفع عدائه ، وليس قتاله للملك والسلطان فإذا كان أتْباع الدين في قلّة كان قتل الأسرى تقليلاً لعدد أعداء الدين حتّى إذا انتشر الدين وكثر أتباعه صلح الفداء لنفع أتباعه بالمال ، وانتفاء خشية عود العدوّ إلى القوة . فهذا وجه تقييد هذا الحكم بقوله : { ما كان لنبيء } .
والكلام موجّه للمسلمين الذين أشاروا بالفداء ، وليس موجّهاً للنبيء صلى الله عليه وسلم لأنّه ما فعل إلاّ ما أمره الله به من مشاورة أصحابه في قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } [ آل عمران : 159 ] لا سيما على ما رواه الترمذي من أنّ جبريل بلّغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخيّر أصحابه ويدلّ لذلك قوله : { تريدون عرض الدنيا } فإنّ الذين أرادوا عرض الدنيا هم الذين أشاروا بالفداء ، وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حظّ .
فمعنى { ما كان لنبيء أن يكون له أسرى } نفي اتّخاذ الأسرى عن استحقاق نبي لذلك الكون .
وجيء ب ( نبيء ) نكرِة إشارة إلى أنّ هذا حكم سابق في حروب الأنبياء في بني إسرائيل ، وهو في الإصحاح عشرين من سفر التثنية .
ومثل هذا النفي في القرآن قد يجيء بمعنى النهي نحو { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } [ الأحزاب : 53 ] . وقد يجيء بمعنى أنه لا يصْلح ، كما هُنا ، لأن هذا الكلام جاء تمهيداً للعتاب فتعيّن أن يكون مراداً منه ما لا يصلح من حيث الرأي والسياسة .
ومعنى هذا الكون المنفي بقوله : { ما كان لنبيء أن يكون له أسرى } هو بقاؤهم في الأسر ، أي بقاؤهم أرقّاء أو بقاء أعواضهم وهو الفداء . وليس المراد أنّه لا يصلح أن تقع في يد النبي أسرى ، لأنّ أخذ الأسرى من شؤون الحرب ، وهو من شؤون الغلَب ، إذا استسلم المقاتلون ، فلا يعقِل أحدٌ نفيه عن النبي ، فتعيّن أنّ المراد نفي أثره ، وإذا نفي أثر الأسر صدق بأحد أمرين : وهما المنّ عليهم بإطلاقهم ، أو قتلُهم ، ولا يصلح المنُّ هنا ، لأنّه ينافي الغاية وهي حتى يثخن في الأرض ، فتعيّن أنّ المقصود قتل الأسرى الحاصلين في يده ، أي أنّ ذلك الأجدر به حين ضَعُف المؤمنين ، خضِداً لشوكة أهل العناد ، وقد صار حكم هذه الآية تشريعاً للنبيء صلى الله عليه وسلم فيمن يأسرهم في غزواته .
والإثخان الشدة والغلظة في الأذى . يقال أثخنته الجراحة وأثخنه المرض إذا ثقل عليه ، وقد شاع إطلاقه على شدّة الجراحة على الجريح . وقد حمله بعض المفسّرين في هذه الآية على معنى الشدّة والقوة . فالمعنى : حتى يتمكّن في الأرض ، أي يتمكّن سلطانه وأمره .
وقوله : { في الأرض } على هذا جار على حقيقة المعنى من الظرفية ، أي يتمكّن في الدنيا . وَحَمَلَهُ في « الكشّاف » على معنى إثخان الجِراحة ، فيكون جرياً على طريقة التمثيل بتشبيه حال الرسول صلى الله عليه وسلم المقاتل الذي يَجرَج قِرنَه جراحاً قوية تثخنه ، أي حتّى يُثخن أعداءه فتصير له الغلبة عليهم في معظم المواقع ، ويكون قوله : { في الأرض } قرينة التمثيلية .
والكلام عتاب للذين أشاروا باختيار الفداء والميللِ إليه ، وغضّ النظر عن الأخذ بالحزم في قطع دابر صناديد المشركين ، فإنّ في هلاكهم خضداً لشوكة قومهم فهذا ترجيح للمقتضَى السياسي العَرضي على المقتَضَى الذي بُني عليه الإسلام وهو التيسير والرفق في شؤون المسلمين بعضهم مع بعض كما قال تعالى : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } [ الفتح : 29 ] . وقد كان هذا المسلك السياسي خفيّاً حتّى كأنه ممّا استأثر الله به ، وفي الترمذي ، عن الأعمش : أنّهم في يوم بدر سبقوا إلى الغنائم قبل أن تحلّ لهم ، وهذا قول غريب فقد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم استشارهم ، وهو في الصحيح .
وقرأ الجمهور { أن يكون له } بتحتية على أسلوب التذكير . وقرأه أبو عمرو ، ويعقوب ، وأبو جعفر بمثناة فوقية على صيغة التأنيث ، لأنّ ضمير جمع التكسير يجوز تأنيثه بتأويل الجماعة .
والخطاب في قوله : { تريدون } للفريق الذين أشاروا بأخذ الفداء وفيه إشارة إلى أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام غيرُ معاتَب لأنّه إنّما أخذ برأي الجمهور وجملة : { تريدون } إلى آخرها واقعة موقع العلّة للنهي الذي تضمّنته آية { ما كان لنبيء } فلذلك فصلت ، لأنّ العلّة بمنزلة الجملة المبيِّنة .
و { عرض الدنيا } هو المال ، وإنّما سُمّي عرضاً لأنّ الانتفاع به قليل اللبث ، فأشبه الشيء العارض إذ العروض مرور الشيء وعدم مكثه لأنه يعرض للماشين بدون تهيّؤ . والمراد عرض الدنيا المحض وهو أخذ المال لمجرد التمتع به .
والإرادة هنا بمعنى المحبّة ، أي : تحبون منافع الدنيا والله يحبّ ثواب الآخرة ، ومعنى محبّة الله إيّاها محبّته ذلك للناس ، أي يحبّ لكم ثواب الآخرة ، فعلّق فعل الإرادة بذات الآخرة ، والمقصود نفعها بقرينة قوله : { تريدون عرض الدنيا } فهو حذف مضاف للإيجاز ، وممّا يحسنه أنّ الآخرة المرادة للمؤمن لا يخالط نفعها ضرّ ولا مشقّة ، بخلاف نفع الدنيا .
وإنما ذكر مع { الدنيا } المضافُ ولم يحذف : لأنّ في ذكره إشعاراً بعروضه وسرعة زواله .
وإنّما أحبّ الله نفع الآخرة : لأنّه نفع خالد ، ولأنّه أثر الأعمال النافعة للدين الحقّ ، وصلاح الفرد والجماعة .
وقد نصب الله على نفع الآخرة أمارات ، هي أمارات أمره ونهيه ، فكلّ عرض من أعراض الدنيا ليس فيه حظّ من نفع الآخرة ، فهو غير محبوب لله تعالى ، وكلّ عرض من الدنيا فيه نفع من الآخرة ففيه محبّة من الله تعالى ، وهذا الفداء الذي أحبّوه لم يكن يَحفّ به من الأمارات ما يدلّ على أنّ الله لا يحبّه ، ولذلك تعيّن أنّ عتاب المسلمين على اختيارهم إيّاه حين استشارهم الرسول عليه الصلاة والسلام إنّما هو عتاب على نوايا في نفوس جمهور الجيش ، حين تخيّروا الفداء أي أنهم مَا راعوا فيه إلا محبّة المال لنفع أنفسهم فعاتبهم الله على ذلك لينبّههم على أنّ حقيقاً عليهم أن لا ينسوا في سائر أحوالهم وآرائهم ، الالتفات إلى نفع الدين وما يعود عليه بالقوة ، فإنّ أبا بكر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند الاستشارة « قومك وأهلك استبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك » فنظر إلى مصلحة دينية من جهتين ولعلَّ هذا الملحظ لم يكن عند جمهور أهل الجيش .
ويجوز عندي أن يكون قوله : { تريدون عرض الدنيا } مستعملاً في معنى الاستفهام الإنكاري ، والمعنى : لعلّكم تحبّون عرض الدنيا فإنّ الله يحبّ لكم الثواب وقوة الدين ، لأنّه لو كان المنظور إليه هو النفع الدنيوي ؛ لكان حفظ أنفس الناس مقدّماً على إسعافهم بالمال ، فلما وجب عليهم بذل نفوسهم في الجهاد . فالمعنى : يوشك أن تكون حالكم كحال من لا يحبّ إلاّ عرض الدنيا ، تحذيراً لهم من التوغل في إيثار الحظوظ العاجلة .
وجملة : { والله عزيز حكيم } عطف على جملة : { والله يريد الأخرة } عطفاً يؤذن بأنّ لهذين الوصفين أثراً في أنّه يريد الآخرة ، فيكون كالتعليل ، وهو يفيد أنّ حظ الآخرة هو الحظّ الحقّ ، ولذلك يريده العزيز الحكيم .
فوصف { العزيز } يدلّ على الاستغناء على الاحتياج ، وعلى الرفعة والمقدرة ، ولذلك لا يليق به إلاّ محبة الأمور النفيسة ، وهذا يومىء إلى أن أولياءه ينبغي لهم أن يكونوا أعزّاء كقوله في الآية الأخرى : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } [ المنافقون : 8 ] فلأجل ذلك كان اللائق بهم أن يربأوا بنفوسهم عن التعلّق بسفاسف الأمور وأن يجنحوا إلى معاليها .
ووصف الحكيم يقتضي أنّه العالم بالمنافع الحقّ على ما هي عليه ، لأنّ الحكمة العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه .